في عام 1992م وصلني نبأ قبولي في الجامعة عبر وسائط اتصال مختلفة وأنا ببادية وادي هور، أتصارع مع رعاة الإبل والأغنام ، فتحركت بسفينة الصحراء ( الجمل ) نحو قريتنا قطاط التي تقع بالقرب من كرنوي المنسية ثم سيراً على الأقدام إلى كرنوي وفي اليوم الثالث حٌظيت بمقعد في إحدى العربات المتجهات الى محافظة كتم، ثم عاصمة إقليمنا الفاشر ثم كُتب علي الرحيل إلي أمدرمان عبر( درب أربعين) وفي ذاكرتي رواق دارفور والقوافل التجارية وحجيج غرب أفريقيا وسلطان علي دينار وسالم أبو حواء وحليمة سنقا، وعرفت خلال رحلتي الكثير من المناطق والقهاوي والاستراحات والمحطات الشعبية ببادية الكبابيش والحمر والكواهلة والمجانين ،بكردفان الغرة وما أن وصلت العاصمة فإذا بقطار الشرق تنتظرني لرحيل جديد إلى معسكر (أسوت ريبا) للدفاع الشعبي التي تقع بالقرب من تلال البحر الأحمر ببورتسودان وبعد قضاء شهرين مع عسكر من البحرية والدفاع الجوي ،عدت إلى الخرطوم العاصمة وبينما نحن بقاعة من قاعات الدراسة بالجامعة دخل علينا بروفسير فتحي المصري وطلب منا أن نتعارف قبل الشروع في المحاضرة وعندما حظيت بفرصة بين الصفوف قلت لزملائي في الدراسة ، أنا من بادية وادي هور وتستغرق معي السفر أسبوعين حتى أصل إلى الخرطوم والمسافة بين البادية وأول محطة للمواصلات يومين بالدابة، ففوجئت ببعض الضحكات الساخرة من بنات العاصمة وشباب المنشية والطائف والمقرن ،ثم سألت إحداهن من زميلتها قائلة وادي هور( بضم الهاء) فقلت لها( بفتح الهاء) وقال لي أحدهم ما الذي أسكنك في تلك الأصقاع من الدنيا؟ فقلت له هي جزء من السودان وإذا زرت هناك وقلت أنا من الخرطوم سيقول لك أحدهم ما الذي أسكنك هناك أيضا؟ وبينما نحن في جدال حاد ،طلب منا بروفسير المصري أن نلتزم الصمت ثم قال لهم يا أبنائي، الجامعة تعني لنا السودان ، أليس من الأفضل لكم أن تعرفوا المزيد عن وادي هور بدلاً من الضحكات الساخرة ؟ ثم قال لهم سوف أعتبر كل واحد منكم يصل بعد (هارون) غائباً في نهاية العطلة الدراسية واخصم منه عشرة درجات من المادة في الامتحان ، فأصبحوا يسألون عن حضوري في نهاية الإجازة فإذا سمعوا بوصولي حضروا جميعا ، خشية من أن تخصم منهم الدرجات العشرة وبمرور الأيام كتبت هذه القصيدة لطلاب الجامعة وفيها معاتبة للصحراء الكبرى لدفن مجرى وادي هور قبل أن تصب في النيل ووصف لمجرى وادي هور وصفات الإنسان فيها وبعض مناطقها والثروة الحيوانية وقصة الرجال والجمال والصحراء على مشارف جبل عوينات الليبية بحثا عن الأرزاق ، حيث عظام الرجال والجمال على حدٍ سواء ، ماتوا عطشاً ،تحاصرهم سموم الصحراء والحرارة المرتفعة وهم يشكون إلى الله ، الدولة السودانية التي منعت حقوقهم و أصبحت بذلك سببا في هلاكهم ، ثم تجربتي اليومية بالبادية بعيدا عن هموم العولمة ومشاكل الألفية ،ثم الفخر بشبابنا، وبوادي هور في مسيرتها الطويلة مع بقية عناصر الطبيعة وهي تقاوم الصحراء و تودع الأجيال وتقارع السنين بحثاً عن مصب آمنٍ في مجاهيل الصحراء الكبرى. وادي هَور أُعاتبُ الصحراءَ في دفنِ ممرٍ سار في مجراها القوافلُ والرمالُ كثبان عاق مجراها سدٌ بلا هندسةٍ والنخلُ باسقة في البيداءِ رهبان وللطير أنشودةٌ عند البُكورِ والصبار والأراكُ والغزلان غابةٌ تُكثر الإعجاب لناظرٍ طينٌ ورملٌ وللطيف ألوان والخمائل ترقص في رباها والندى وتعانقت فيها البلابل والأغصان وجرى العيون بمرعاها و الظباء وباقات الورود ترنو بإكليلها والبستان نحن نكرم الضيف بلا اعتزازٍ ونوقد النار في الروابي والوديان نحن أناس لا نبخل للسائلٍ نحن الجود والكرم والإحسان كرنوي والطينة ،أمبرو ومزبد معالم للأجداد ولو طال الأزمان بوبا وفوراوية في أقصى الشمال وكارو ومن الواحات النخيل والعطرون باسم ثروتنا أُفتتح البنوكُ وبفضل زرعنا صُنع السماد ولأبقارنا أشكال وألوان في نسلهم والجمال سفنُ للصحراء رواد والإبلُ تمضي بلا أملٍ والفتيةُ خلفهم وفلاة دونها الحزن والرماد الرزقُ مقسومٌ وللموت أسبابٌ صوب العوينات والناس فراد والأم تبكي وهي ثاكلةً والنجم ُ فوق الأفق وسراب وجراد مضى أمسي ببوادي هور ساعةً و للفرسان قصص ونوادر مضى عهدٌ من البداوةِ صدفةً وللحياةِ سننٌ وأخبار سكنتُ بواديٍ والصحراءُ قاحلةٌ رمالٌ وكثبان وآثار ودعتُ مرا تعُ المها والخيل مسرجة ورحلت مبتسما بين الضباب والأزهار ذرفتُ دمعي والباديةُ زفافٌ زغاريدٌ وأهازيجٌ وأشعار أيقظتُ تقوىَ والصغيرةُ تبكي وحملتُ سيفي وللصيدِ أسفار شربتُ الماء بفخارِ طينٍ وحفرتُ بآلة الزمان الآبار بنيت داراً للضيف بعازبٍ ونحرتُ إبلي وللأجداد أسمار كتبتُ على جدران الجبال قضيتي وبتُ أحسب النجوم بوادي أمبار شبابنا نجومٌ في المنابر عطاءً وسواعدٌ لمصانع التاريخ أبطال شبابٌ اعتصموا بحبل الله جميعهم نسور وللراية أشبال إذا ما تقهقر الجبان مضرجاً بدمائه هجم الأسود وللشموخ رجال قضيتُ عمري بشلالٍ من الضياءِ وأرحلُ اليوم بين الطندب والسيال ستمضي عمر الحاضرين وتنقضي وتبقى خريطة هور للأجيال تمثال