الحرب اللعينة في هذا الوطن الموبوء يشذب ويُجِزّ ويُحِزّ كل يوم قطعة آمنة ومطمئنة من (ديموغرافية الهامش) المفجوع برحيل و نزوح المواطنين نحو الوسط النيلي لأسباب غياب الأمن و(الأمان)، و في المقابل تمتد وتمدَّد و(تتكرَّش) مدن الوسط هذه والشمال بفعل المتدفقين والمُتدافعين إليها، ومن تلك، بل وعلى رأس تلك، ولاية الخرطوم التي تبتلع في (كرشها وحدها) ما يقارب خُمْس سكان البلد في سياج جديد من (الهامش المركزي) تحمل أسماء أحيائها كلمات (السلام، البشير، الإنقاذ، البركة...إلخ) في واقع لا صلة لها بمدلول المفردات تلك..وجنوب كردفان (جبال النوبا) هي الأخرى (مثلما أترابها من رفيقات الأزمة) تقف على رأس قائمة (رافدي) و(مُمولي) الوسط بالسيول البشرية بسبب الأوضاع الإنسانية المأساوية التي تدور بالمنطقة، لكن أبناء جبال النوبا أولئك المولعين المسكونين بالحياة والمَرح والإبتهاج يصرون على أن يجعلوا لبصماتهم وقسماتهم حضوراً أينما حلوا، و أن تتحرَّك وتمشي بين الناس طقوسهم وتقاليدهم وعاداتهم وألعابهم وتراثياتهم الذاخرة، وذلك ما كان في تلك الأمسية الرائعة لقبيلة (الكاركو) كاك بمحلية (أم بدة)، ولاية الخرطوم، يوم الجمعة الثاني والعشرين من فبراير الجاري عبر (مهرجان أومي Omi االثقافي الأول) التي نفّذته (فرقة كوشينقيل للتراث) و(فريق عقرب للمصارعة البيئية) التابعين للقبيلة. قبيلة الكاركو هي إحدى مجموعة عشائر (الأجانج) الشهيرة بجبال النوبا، وهي أي الأجانج إحدى المجموعات اللغوية العشرة بالجبال و تعتبر أكبرها حيث تضم حوالي خمس عشرة (15) قبيلة فتشمل بالإضافة للكاركو هؤلاء (الجبال السِتَّة الغُلفان الدلنج المنادِل البِرقِد الكُدُر كُجورية فُنْدا والي كاشا شَفِر أبو جنوك الحِجَيرات الخمسة وجبل الداير على تخوم شمال كردفان كردفان) كما للمجموعة إمتدادات أخرى في ولاية شمال كردفان (شيركيلا كاجا كاتول) ..و(الميدوب) بولاية شمال دارفور. قبيلة الكاركو، التي تطلق على نفسها (كاك)، تتخذ موقعاً جغرافياً ساحراً غرب مدينة الدلنج بمحلية الدلنج، وحدة إدارية (سِلارا) حيث تقع شرقها مدينة الدلنج، ومناطق الفرشاية والمنادل في الشمال الشرقي، و(كاشا) شمالاً، وغرباً (الشِفِر الفرسان) و(أبوجنوك) بينما تُحِدَّها قبيلتا (كُجورية و فُنْدا) جنوباً و(النيمانج أما) في الجنوب الشرقي، وتتكون من حوالي أربعة عشر (14) بطن (خشم بيت) ينتشرون في ستّة (6) أحياء كبيرة (كيتونو كُنُو توت شينقيل شيلو أبيلو)، ويبلغ تعدادها الأصلي حوالي ستين (60) ألف نسمة لم يبق منهم بالمنطقة الآن إلا حوالي عشرين (20) ألفاً ثلث سكان المنطقة بعد نزوح غالب السكان وهجرتهم بسبب الحرب والأوضاع الإنسانية المأساوية حيث تعتبر منطقة الكاركو من إحدى أكثر مناطق جبال النوبا تأثُّراًُ بالحرب الحالية، وتشتهر المنطقة والقبيلة بثرائها وإنتاجها الزراعي الوفير وخصوبة أراضيها ووفرة منتجاتها الغابية فهي واحدة من المناطق التي ترفِد وتمد مدينة الدلنج وضواحيها بالمنتجات النادرة لشجرة الدوم (ثمار الدوم السعف الحُبال العناقريب البنابر المقاشيش، إلخ) كما تشتهر القبيلة بتراثها الفنِّي وألوان الرياضة المحلية خاصة المصارعة البيئية الشهيرة هي الأخرى إذ للقبيلة رموز مشهورين في هذا المجال على رأسهم المصارع الشهير (النور الحاج النور) الشهير ب(سِلِك) الحائز على عدد من الميداليات والجوائز في بطولات ومشاركات عالمية، علاوة على مشاهير القبيلة في مجالات أخرى مثل الكابتن سيف الدين على إدريس لاعب الهلال والمنتخب الوطني الشهير ب(سيف مَسَّاوي)، و كذا الشهيد النقيب الرمز (حمَّاد الأحيمر جابر بيكو) الذي إستشهد في حركة حسن حسين 1975م ورفيقه (عباس برشم فرح). ..مهرجان أو سِبِر (أومي Omi) هي واحدة من طقوس وأسبار وأعياد قبيلة الكاركو ويقابل في ميقاتها الزماني شهر فبراير، بل هو إسم لشهر فبراير نفسه في تقويم القبيلة، وقبيلة الكاركو تكاد تكون القبيلة الوحيدة في جبال النوبا تملك تقويماً كاملاً لشهور السنة بلغتها المحلية وكذا فصول السنة الأربعة وأيام الإسبوع ..وغالب شهور السنة في تقويم (الكاركو) موزَّعة على أعياد ومواسم إحتفالات : مارس (دُرتور) : ذكرى وأعياد تأبين أموات العام السابق. مايو (إينجنق) : موسم (الدَّاري) وهى مناسبات وأعياد يخرج فيها الشباب لرحلات صيد جماعية، أقرب للرحلات الترفيهية الترويحية منها إلى أغراض الصيد. أغسطس (كنما قول) :عيد أكل الفريك (الذرة الحلوة)، أي الذرة الجديدة في مرحلة نضوجها الأول قبل أن تجف. أكتوبر (شَمْ) : عيد الحصاد. نوفمبر (كوشينقيل): ويُطلق هذا الإسم أيضاً على نوع من الرقص يعتبر الرقصة الطقوسية الرئيسية للقبيلة، بل لعموم قبائل عشيرة الأجانج وهو فرع من رقصة (الكِرَنق) الشهيرة في عموم قبائل جنوب كردفان (زنجية وعربية) ، وتعني الكلمة (كوشينقيل) بلغة الأجانج (نفير كوش) أو (إستنفار كوش) إذ تعني كلمة (إنقيل أو كيل) نفير أو إستنفار، خاصة ذلك الذي يكون لأغراض الحرب أو المهام الكبيرة، وتعني الحرب نفسها. .. أما عيد أو (سِبِر) أو مناسبة (أومي Omi)، الذي يأتي ميقاته الزماني الراتب في شهر فبراير من كل عام فهو طقس خاص للإحتفال بإكتمال جمع حصاد العام من الزراعة، أي إنتهاء مراحل الزراعة بآخر مرحلة فيها وهو (دق العيش)، وهو إحتفال طقوسي تُصنع فيه الأطعمة والمأكولات والمشروبات والخمور (في مراسيمها الأصلية القديمة) بشريطة أن تكون من المحصول الجديد وتفادي المحصول القديم لعدم ضمان مصادره وهذا نوع من تحرِّي الطعام الحلال والمعروف المصدر في هذا المهرجان، ويفتتح المراسيم لهذا العيد شخص من أسرة خشم بيت محدد وهي أُسرة (أوربا أوربانجي)، وهي إحدي (خشوم البيوت) الأربعة عشر في القبيلة، ويتولى كبير هذه الأسرة (أرو كوج) إستهلال المراسيم والتي كانت تستمر لمدة ثلاثة أيام في طقوسها الأساسية ، وتقلصت إلى يوم واحد في الإحتفالات الرمزية الحالية التي تقام بالمدن وبعض مناطق النزوح والمهجر مثلما جرى في إحتفال قبيلة الكاركو مؤخراً بميدان الحارة (33) أبوسعد، محلية أمبدة بولاية الخرطوم ..شكراً (فرقة كوشينقيل) الفنية لما أمتعتنا بها من روائع التراث ورديفها (فريق عقرب للمصارعة البيئة) ..وشكراً للشباب النابهين الذين جعلوا تدفق كل ذلك الإبداع ممكناً (حبيب ختيم زكريا حمدان عبدالله التوم وكوكبتهم) والوجهاء (سليمان أحمد نمر مولانا نصر منديل الشاري الحاج قادم على) ..و(برافو) و(هورّاه!!) حكامات وراقصات الكاركو الرائعات اللائي بدين في أزيائهن الملونة المزركشة ورؤوسهن المنفوشة المنكوشة مثلما الملكات حتسبسوت ونفرتيتي أو كنداكات كوش االعظيمة.