أصبح التغيير في السودان ضرورةً ملحةً بل هو في حكم فرض الكفاية لأسباب كثيرة، أهمها إطلاقا هو وضع حد لتدهورالحياة العامة في البلاد، فبسبب الممارسات الإدارية الشاذة لمن هم في سدة الحكم أصبحت الشؤون العامة كلها تقريباً تدارمن خارج مؤسسات الدولة، فأقصيت مؤسسات الإدارة العامة وشئون الخدمة عن أداء وظائفها المهنية، ولذلك انهارت الخدمة المدنية وغاب الإنضباط الإداري والمالي فاستشرى الفساد. وانهارت البنى التحتية الاقتصادية وعلى رأسها البنيات الزراعية وبنيات النقل وفي مقدمتها السكك الحديدية ووسائل النقل البحري والجوي، وأدى انهيارها إلى ضعف الإنتاج وإلى انهياراقتصاد البلاد عموماً؛ فقبل الانفصال شكّل البترول مع قلة المنتج 90 % من الصادرات في بلد يفترض أن يقوم اقتصاده على الإنتاج الزراعي والتصنيع الزراعي. لكل هذا وأكثر، تشهد الحياة المعيشية للمواطن السوداني منذ عقود تدهوراً مستمراً، ويعاني معظم الشعب من صعوبات جمة في كسب رزقه بسبب الغلاء الطاحن وارتفاع معدل البطالة وضعف خدمات التعليم والصحة. لقد فشل النظام الحاكم في الإبقاء على السودان موحداً بانفصال الجنوب. وما تزال البلاد تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني؛ فقضية دارفور ما تزال ساخنةً ودون حل بالرغم من توقيع جبهة العدالة والتنمية اتفاقية سلام بالدوحة مع الحكومة، فهنالك فصائل أخرى مسلحة وقوية لم توقع ولا ينتظر أن توقع في ظل هذا النظام كما أعلن بعض قادتها. وتدور منازعات مسلحة في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق لا نريد الخوض في تفاصيلها؛ ومن الواضح أن الحكومة سوف لن تستطيع بل ليس في مقدورها أن تحل هذه المشكلات دون أن تقدم تنازلات كبيرة للخارج، بما في ذلك دولة جنوب السودان. والسؤال هو بأي ثمن ستكون التنازلات؟ إنَ التقاليد السياسية الحضارية النابعة أساساً من الحس الوطني حتمت على حكومات كثيرة الإعتذار والتواري عن سدة الحكم لإخفاقات تقل كثيراً عن جزئية صغيرة مما أوردنا آنفاً. ولا نلتمس أمثلةً من الخارج فقد سجل تاريخ السودان أن الرئيس إسماعيل الأزهري استقال مع حكومته المنتخبة في خسمينيات القرن الماضي لمجرد عدم إجازة البرلمان للميزانية التي عرضها عليه. وليت أساتذة العلوم السياسية يفيضون لطلبتهم وللعامة بأمثلة كثيرة كهذه زينت الممارسة الديمقراطية في مطلع الحكم الوطني السوداني. فما بالك بفشل تام في إدارة الدولة ولمدى عقدين ونيف من الزمان، لماذا لم يستوجب ذلك على النظام الحالي أن يتوارى ويعتذرعن مواصلة الحكم طواعيةً. إنَ عدم حدوث ذلك يعود قطعاً إلى تراكمات الفساد والظلم مما أدى الى إضعاف الوازع الوطني وحل محله دوافع الدفاع عن النفس وعن المكاسب الذاتية الحرام، ومن ثمَ الاستماتة في التشبث بكراسي الحكم بحكم الواقع وليس بسند من أية شرعية. لقد ضج الناس وتضجروا من العنت الذي يجدونه في حياتهم وقد عبَر عنهم داخل البلاد وخارجها الكتاب والموثقون من خلال الوسائط المتاحة المقروءة والمسموعة والمرئية. وخرجت فئات من الشعب إلى الشارع في تظاهرات تعبيراً عن معاناتهم المعيشية. لقد أصبحت حالة الإنهيار واقعاً معاشاً وصار الناس يتندرون هازئين وساخرين بضحك كالبكاء مما يعايشون ويلمسون، والسلطات الحاكمة في البلاد تعلم يقيناً مم يشتكي الناس ومم يتضجرون، ولكن لا تستطيع أن تصلح حالاً أو تسائل ظالماً أو فاسداً أو تقيم عدلاً، فما جدوى وما شرعية بقائهم في الحكم؟ مقترح للخلاص كان العنوان المقترح لهذا المقال هو "الأرض الخراب" كوصف للحالة التي عليها بلدنا العزيزة السودان وعدّل العنوان إلى " التغيّر المرتقب" وذلك إبقاءً لشيء من التفاؤل في مقبل الزمان حيث نتطلع إلى ما يخلصها وينشلها من الانهيار والدمار اللذين ظلت تئن من وطأتهما لعقود حالكة. إنَ الإحساس بالأرض الخراب هو ما يفسر مشاعر الحيرة والقلق والخوف من المستقبل لدى الجميع، ويحاول كل بطريقته أن يعبر عن حيرته وقلقه وخوفه، فمنهم من يتظاهر ومنهم من يكتب أو يتحدث في المنابر وفي مواقع التواصل الإجتماعي ومنهم من يسخر ومنهم من يحمل السلاح في مواجهة الحكومة. لقد تراكمت سحب المعارضات المسلحة سواءً تلك المصادمات داخل النظام الحاكم والتي نضحت إلى العلن مؤخراً أو المعارضات الإقليمية القائمة، وجميع هذه المعارضات إنما تؤدي فقط إلى تعميق الجراح بإهدار موارد البلاد البشرية والمادية، وحتى إن نجحت في إسقاط النظام سوف لن تقوى على السيطرة على الفوضى التي تعقب ذلك لأن مراكز قوى كثيرة داخلية وخارجية سوف تقاوم وتحاول أن تفرض سطوتها وأجندتها على أي نظام جديد للحكم. لذلك يود الجميع أن يوضع، اليوم وليس غداً، حد لحالة الانهيار والدمار المستمرين دون رؤية لأي أمل في المستقبل المنظور وأن يوضع حد لارتهان البلاد لنظام عابث بالحكم. إنَ النظام يمسك فعلاً بالبلاد رهينةً فلا هو قادر على إدارتها كما ينبغي ولا هو يريد أن يفك من أسرها. حاول النظام الحاكم عبثاً أن يصلح إدارة البلاد من داخله وباستقطاب عناصر حزبية وعناصر جهوية في مناسبات كثيرة وفشلت كل المحاولات لأسباب كثيرة أهمها إطلاقاً هو فقدان الثقة في النظام الحاكم، وفقدان الثقة يعني حضارياً ووطنياً وشرعياً أن يرحل النظام بكامله ويفسح المجال لمن يستطيع أو يستطيعون الفوز بثقة الناس لإدارة البلاد وقيادتها إلى بر الأمان في ظل النظام العالمي كثير التعقيد اليوم. لقد تمنَع النظام في السابق ورفض قبول إشراك الآخرين في إدارة البلاد تعالياً وتكبراً على الأحزاب الأخرى عندما كان باستطاعته المناورة بورقة المراهنة على كسب الاستفتاء في الجنوب وببعض الإنجازات الاقتصادية على قلتها. الآن ، وليس بيد النظام أيما ورقة يتمنع أو يناور بها ليتشبث بالحكم، أصبح فاقداً السيطرة على تماسكه ناهيك عن المقدرة على إدارة البلاد. لقد رأينا أقطابه يتصارعون فيما بينهم وبعضهم يهذي بكلام لا يدركون له معنى مثل الذي يحاجج بشرعية النظام الانتخابية، ومثل الذي تحذلق يوماً وقال إنَ النظام يقود البلاد إلى جمهورية ثانية! ومثل الدعوة الهلامية للآخرين للانضمام للنظام لوضع دستور للبلاد. كل هذا يعبر عن حيرتهم وتخبطهم. ولا نظن أن تبني حزب المؤتمر الحاكم لفكرة الدعوة لانتخابات شاملة بعد سنتين ، كما سمعنا مؤخرا، إلا صورة أخرى من صور التخبط والحيرة، وسوف لن تفعل فترة الانتظار حتى الانتخابات شيئا إلا إطالة أمد المحن التي تعيشها البلاد المتمثلة في سوء معيشة المواطنين وفي تدهور الاقتصاد وفي مهددات تماسك البلاد وفي انفراط أمنها العام. اليوم، والبلاد تسير فعلا نحو مجهول مظلم، ليتهم يستشعرون أن الواجب الوطني يحتم عليهم التخلي عن تمنعهم الزائف بل ويحتم عليهم السعي إلى مصالحة الشعب بالاستجابة إلى نداءات المصالحة النابعة من أصوات كثيرة حزبية وغير حزبية وبأشكال وصيغ مختلفة. من الخير أن يسعى النظام الحاكم إلى مشروع جاد للمصالحة مع هذا الشعب الكريم الذي لم يذل في لقمة العيش اليومية كما يذل الآن وكفى به من ذل. من بين الجهود المفيدة في شأن مستقبل حكم البلاد الورقة العلمية التي طرحها الدكتور الطيب زين العابدين بعنوان "الديمقراطية التوافقية طريقنا إلى الاستقرار السياسي". إنَ الورقة مطروحة للنقاش العلمي، ولكن ليت فئة كريمة من أبناء البلاد المهمومين بخلاصها، وهم كثر، تقوم باستنباط صيغة توافقية للمصالحة من هذه الورقة ومن نداءات المصالحة الاخرى. نقول هذا لأن جميع نداءات المصالحة تطلق من على المنابر الإعلامية دون أن تكون هنالك مساعي فعلية على الأرض للمصالحة. إنَ الوضع الشائك الراهن، بل الذي طال لعقود، يحتاح بالفعل إلى صيغة توافقية للمصالحة الهدف الأساسي منها أن يتخلى النظام الحاكم بكل رموزه عن سدة الحكم نهائياً وأن تتقلد مسؤولية إدارة البلاد حكومة توافقية مؤقتة تعمل على إرساء أسس الديقراطية وقبل ذلك تعمل لإعادة بناء مؤسسات الإدارة العامة التي ترعى شؤون الناس وحياتهم على أسس عادلة ونزيهة. لكي يتحقق هذا الهدف سوف يسترخص الوطن كل ثمن أقلّه الصفح عن من أساؤوا ومن ظلموا ومن أفسدوا ، فربما وفرت لهم المصالحة فرصةً للتفاوض لتحقيق رغبة انتهى إليها ولاذ بها معظم الطغاة الظالمين وهو عدم الملاحقة القضائية على جرائمهم. وذلك ما عبر عنه السياسي المخضرم الأستاذ إبراهيم منعم منصور في مقال له مطلع هذا الشهر يخاطب به إمام الأنصار معلقا على مساعيه للمصالحة ببلاغة شعبية خفيفة " اما الامر الاكثر مرارة والذي يرفضه بل يخشاه الجميع: المدرب و اللاعبون فهو (المحاسبة) علي أخطاء و (فاولات) مباريات طالت ربع قرن. هذه الكلمة: المحاسبة تجعل الكل يتمسك بموقعه – و الكل يحمي الكل. و البعض يحمي البعض – لما يعلمه الكل عن الكل و البعض عن البعض. بل و ما يعلمه حتي (اللاعبين المشطوبين من زمان و الاحتياطي و المتطلعين للتسجيل). " Taj Badawi [[email protected]]