عشر دقائق هى كل الوقت المتاح لى لمطالعة عناوين الأخبار الرئيسية فى الخامسة صباح كل يوم وأنا فى عجلة من أمرى، حيث أبدأ عملى فى الوكالة الكندية لتفتيش الاغذية واللحوم فى السادسة صباحا تقريبا، ولذلك أحرص على الخروج مبكرا تحسبا لرداءة الطريق خاصة فى ظروف الشتاء القاسية. إنقبض صدرى صباح اليوم حين لاحظت منبر سودانيز اون لاين متشحا بالسواد، مما يعنى الرحيل الأبدى لأحد أعضائه أو عضواته، ثم تحوّل الإنقباض وبسرعة إلى ذهول، فصدمة حين علمت أن الراحل هذا الصباح هو الدكتور محمد يوسف أبو حريرة الأستاذ الجامعى، وأشهر وزير تجارة مرّ على السودان. عضوية المرحوم فى منبر سودانيز اون لاين لها مدلولات لا تتوقف عند فضيلة تواضع العلماء الذى إشتهر به الفقيد، بل تؤكد حرصه على التواصل الثقافى الحر والمباشر مع السودانيين بعيدا عن مقص الرقيب الامنى. وقد كان لى شرف التداخل معه فى المنبر بخصوص بعض القضايا العامة. هناك عبارة شهيرة إعتاد بعض المثقفين على ترديدها فى المنابر لجرعتها البلاغية، ولكن يندر حقيقة أن يلتزم بها أحد، هى عبارة مفادها أن المنصب تكليف وليس تشريف. و حتى ينأى بنفسه عن شبهة الإنفصام المتفشى بين القول والعمل كان فقيدنا ممن إلتزم بها تمام الإلتزام وتشهد بذلك تجربتنا معه فى وزارة التجارة، فقد كان فقيدنا العزيز تماما كما يقول الامريكان He can talk the talk and walk the walk كان د. أبو حريرة ضمن غرس كثير جعله الشعب ممكنا بإنتفاضته فى أبريل 1985م، ولكنه كان من بين القليل من ذلك الغرس الذى أثمر وتفتحت أزهاره لتملأ جوانحنا صدقا ونزاهة وأملا، وتدغدغ أحاسيسنا بعبق الإتساق، وربما يتذكر الناس جيدا كيف إضطر وزير التجارة أبو حريرة يوما ما إلى إستيراد خرافا من أستراليا حينما إقتضت الضرورة والمصلحة العامة ذلك، حتى يجعل الاضحية ذلك العام فى متناول الجميع، ولكن المفارقة المدهشة تبدت فى انه كان الضحية المحورية لتعديل وزارى شهير قام به الصادق المهدى رئيس الوزراء حينها تحت زرائع مختلفة، لكن الناس كانوا يعملون جيدا حقيقة أن الهدف من التعديل كان إستبعاد وزير التجارة أبو حريرة. كان الصادق المهدى وقتها يمثل الخيار الواقعى لقوى إنتفاضة أبريل فى مواجهة الجبهة الاسلامية القومية بأموالها الضخمة المشبوهة وإدعاءاتها الأخلاقية الكبيرة، قبل أن يختار فى نهاية المطاف ترك خندق الإنتفاضة والإلتحاق بالخندق المعادى متحالفا مع الجبهة الإسلامية. وحتى ذلك الحين كان الكثير من الشباب بما فيهم شخصى المتواضع شديد التسامح معه رغم تنصله عن وعوده الإنتخابية بعد أن دانت له رئاسة مجلس الوزراء، خاصة تنصله عن وعده الشهير بإلغاء قوانين سبتمبر وكنس آثار إنقلاب مايو. كنا نستبطن أملا فى ان يفعل الرجل شيئا ملموسا حتى يجعل الديمقراطية أداة لخدمة الناس يحببهم فيها بدلا عن الخطب المملة، بيد ان حادثة حل الوزارة و إستبعاد وزير التجارة أبو حريرة ساهم فى إيقاظنا من سبات عميق، بل فى إنقاذنا من محنة التفكير الرغبوى، وبذلك يكون فقيدنا عليه رحمة الله قد نجح فى نزع كل حجب الوهم عن ابصارنا حتى تبيّن لنا عرى الإمبراطور. كانت سيرة الفقيد بحر متلاطم من النزاهة حين جعل المنصب العام فى خدمة الشعب وليس سيدا متعاليا كما جرت العادة فى السودان حتى اليوم، ولكن للامانة، كان إستبعاده من الوزارة أشد الأمواج الثائرة علوا واكثرها عتيا وسموا، لأنها ورغم كل شىء كانت قد ساهمت بقدر كبير فى بث الإستنارة والوعى بين الشباب فى ذلك الوقت. كنت وحتى وقت قريب أتأمل تلك الحادثة من وقت الاخر، وقد لاحظت انه كلما كبرت سنا وتراكمت فى داخلى التجارب، كلما ترسخت قناعاتى بأن الصادق المهدى لم يكن امامه سوى ذلك السناريو للتخلص من وزير تجارته آنذاك، لأن أمثال أبو حريرة عملة نادرة ورأس مال معنوى غير قابل بطبيعته للمساومة أوالتجزئة. ولأن الرجل كان مبدئيا وصلبا ومرنا تجاه كل ما يتعلق بتحقيق المصلحة العامة، فإن سيرته ستظل وسام نعلقه بكل فخر فى صدورنا كمثقفين رغم الخيبات الكبيرة. اللهم جاءك محمد يوسف أبوحريرة وهو لا يملك من حطام الدنيا الفانية سوى محبتنا الغامرة لشخصه ومواقفه . اللهم إجعل محبتنا تلك وأعماله الخيرة شفاعة له عند جلالتك، وتقبله تقبلا حسنا. الهم إجعلنى لسان صدق لكل ما تخفيه صدور الرجال والنساء تجاه هذا الإنسان النبيل وإنا لله وإنا اليه راجعون Talaat Eltayeb [[email protected]]