مما لاريب فيه أن وفاة الحاجة الزينة في الأسبوع الماضي بمستشفى الزيتونة التخصصي، نتيجة مضاعفات لعملية نقل كلى أُجريت قبل عام أو يزيد بواسطة الدكتور/ كمال أبو سن إختصاصي جراحة الكلى، وتداركاً لبعض المضاعفات الناجمة عن هذه العملية الجراحية الدقيقة، ألتمس أهلها الطبابة في القاهرة، ولكن لم يتم الشفاء المأمول هناك، فعاد بها أهلها إلى مستشفى الزيتونة، إلا أنَّ حالتها المرضية تدهورت أكثر من ذي قبل وإنتقلت هذه الحالة كما يقول أهل الفقه، رغم إحتجاج أهلها ورفضهم الإقرار بالموافقة على المزيد من العمليات الجراحية لإنقاذ حياتها، من مرحلة القضاء المؤجل (المرض) إلى مرحلة القضاء المبرم (الموت)، فتنزل فيها قول الله تعالى " كل نفس ذائقة الموت "، أثارت جدلاً واسعاً طبياً وإجرائياً وقانونياً لم يقتصر على صفحات الصحف، بل إمتد إلى مجالس المؤانسة داخل السودان وخارجه. فالطبيب مهمته الأساسية تخفيف الألم وعلاج المرض، والشفاء من الله تعالى، مصداقاً لقوله تعالى:" وإذا مرضت فهو يشفين ". وأحسب أن وفاة الحاجة الزينة كانت مدخلاً لإثارة صحافية خطيرة عن الأخطاء الطبية، وأثارت قضية مسكوت عنها بغير حق آماد طوال، ودفعت الكثيرين إلى إثارتها بغير علم. وقد يجهل الكثيرون صحافيين وغير صحافيين أن إثارة مثل هذه القضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية تتطلب معالجة حصيفة، لأن الإثارة غير المنضبطة والمعالجة غير العلمية تحدث ضرراً كبيراً لا يقتصر أثره على المخطئ أو المخطئيين سواء كان طبيباً أو مستشفى، بل يمتد هذا الضرر إلى إهتزاز ثقة المريض بالطبيب السوداني، خاصة وأن هذه الثقة لا أقول إنها مهزوزة في الأصل، ولكن هناك عوامل عديدة تساهم في إهتزازها قد لا يكون الطبيب عاملاً رئيسياً فيها، رغم أنه الأكثر ضرراً من مثل هذه العوامل المفضية لإهتزاز الثقة بين الطبيب والمريض، لأن هذه الثقة من العوامل النفسية المهمة في مراحل العلاج، على الرغم من أنَّ الطبيب السوداني داخل السودان وخارجه لا يقل كفاءة مهنية أو مقدرة إبداعية في مجال تخصصه. فهناك العديد من الأطباء الإختصاصيين السودانيين في أوروبا وأمريكا ودول الخليج أصبحوا من المراجع المهمة في مجالات إختصاصهم، حتى أن بعض أطباء أهل تلكم البلدان يرجعون إليهم لأخذ الرأي والمشورة الطبية، في ما إستشكل عليهم من أمر في مجال تخصصهم. ومما يعضد ما ذهبت إليه في هذا الصدد، أن كثيراً من السودانيين القادرين على العلاج في الخارج يحرصون على مقابلة أطباء سودانيين لثقتهم في هؤلاء، بينما العثرات التي تواجه أطباء الداخل ليس في كفاءة الطبيب نفسه، بقدر ما هي بعض المعوقات الناجمة عن نقص في المعدات والأجهزة الطبية المتقدمة التي يعمل الأخ/ البروفسور مأمون محمد علي حميدة – وزير الصحة في ولاية الخرطوم جاهداً في توفيرها في مستشفيات ولاية الخرطوم، حتى في المستشفيات الثانوية والمراكز الصحية في الأطراف، والدليل على ذلك أن الرئيس عمر البشير لدى إفتتاحه لمستشفى إبراهيم مالك، قال في كلمته إنه شاهد عبر التلفزيون مستشفى متقدماً في معداته وأجهزته الطبية، فظن وليس كل الظن إثم أن هذا المستشفى خارج السودان، ولكنه فوجئ بأنه مستشفى حاج الصافي بالخرطوم بحري، على الرغم من أن الكثيرين خاصة بعض الصحافيين والإعلاميين سُعدوا بهذه الشهادة من قبل الرئيس لتطور الخدمات الصحية، ولكن في حقيقة الأمر، بإعتباري صحافي سوداني حزنت أيم حزن، لأن الإعلام لم يستطع أن يبرز مثل هذه الجهود التي تستهدف تطور الخدمات الصحية في ولاية الخرطوم للرئيس، ناهيك لعامة الناس. أما عن الأخطاء الطبية ليس هناك مستشفى داخل السودان أو خارجه تخلو من الأخطاء الطبية، ولكن من الضروري أن تحرص المستشفيات على تفادي هذه الأخطاء، وذلك من خلال تطبيق البروتوكولات الطبية لحماية المرضى من الوقوع في الأخطاء الطبية التي قد تكلفهم حياتهم. وجميل أن يستغل البروفسور مأمون حميدة وزير الصحة ولاية الخرطوم سانحة إفتتاحه لمؤتمر جمعية إختصاصي جراحة الكلى والمسالك البولية يوم الجمعة الماضي في قاعة الصداقة بالخرطوم أن يفاجئ المؤتمرين ويتحدث عن الأخطاء الطبية بإيراد مقاربات مهمة عن الأخطاء الطبية في أمريكا وبريطانيا والسعودية، ويطالب بضرورة إنشاء نيابات ومحاكم خاصة بالأخطاء الطبية، إنفاذاً لتحقيق العدالة ومحاسبة المخطئ، وحفاظاً على تمتين الثقة بين الطبيب والمريض، مشيراً إلى خطورة الحديث عن الأخطاء الطبية بغير علم ودراية في إهتزاز ثقة المريض في الطبيب، ومن ثم إنهيار مسعى توطين العلاج ولم يكتفِ البروفسور مأمون حميدة على ذلكم الحديث، بل دعا إلى قيام سمنار عن الأخطاء الطبية تنظمه وزارة الصحة بولاية الخرطوم بعنوان "الأخطاء الطبية وحقوق المرضى بين القانون والعرف"، بمشاركة عدد من الأطباء الإختصاصيين والقانونيين والجهات المختصة، وذلك في العاشرة من صباح يوم السبت المقبل بفندق كورال الخرطوم (هيلتون سابقاً)، كل ذلك من أجل خلق توعية عامة في هذا الخصوص، ونشر ثقافة معرفية عن حقوق المرضى القانونية والعُرفية تجاه قضايا الأخطاء الطبية. أخلص إلى أن المجلس الطبي منوط به أمر معالجة قضايا الأخطاء الطبية، فعليه من الضروري تفعيل آلية منضبطة بمحاسبة المخطئين سواء كانوا أطباء أم مستشفيات عامة أو خاصة، والعمل على حماية المرضى من تداعيات هذه الأخطاء التي من بينها كُلفة الحياة نفسها، وأحسب أن قضية الأخ الدكتور كمال أبو سن كشفت خللاً واضحاً في معالجة المجلس الطبي بشأن إجراءات المحاسبة، إذ أنه لم يعلم الدكتور أبو سن، حسبما ذكر في مؤتمره الصحافي أنه لم يكن يعلم بأمر إيقافه إلا من الصحف، وهذا إجراء أقل ما يقال فيه أنه يفتقد الشفافية والوضوح. كما أن المستشفيات التي يعمل فيها الدكتور أبو سن لم تخطر كتابة بأمر الإيقاف. وكان من الضروري أن تكون هناك متابعة من قبل المجلس الطبي لقراراته، لاسيما مثل هذه القرارات العقابية. من هنا أحسب أن سمنار الأخطاء الطبية يوم السبت المقبل سيكون مسرحاً ليشهد الحضور دفوعات المجلس الطبي لما أثير حول قضايا الأخطاء الطبية، والوقوف على آلية إجراءات المحاسبة والمتابعة، وليجيب المجلس الطبي على تساؤلات الكثيرين حول لماذا في هذا التوقيت تم تسريب خبر إيقاف الدكتور أبو سن للصحف، بينما القرار صدر في 11 ديسمبر الماضي؟ في خاتمة هذه العُجالة أجدد مطالبة الأخ البروفسور مأمون حميدة بقيام نيابة ومحكمة خاصة متعلقة بقضايا الأخطاء الطبية، حماية للأطباء والمرضى معاً. لأن التسويف والتأخير في حسم مثل هذه القضايا يشكل خطراً على إستدامة الثقة بين الطبيب والمريض، ومن ثم سيكون من أخطر تداعياته التشكيك في مصداقية توطين العلاج في السودان.