عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة المشروعية ومآلاتها فى السودان .. بقلم: طلعت الطيب
نشر في سودانيل يوم 18 - 03 - 2013

أولا: في الذكرى الستين لإتفاقية جلاء المستعمر عن السودان 12 فبرابر 1953
حينما نجح عمال السكة الحديد فى تنفيذ إضرابهم الشهير فى العاشرة صباح 5 مارس 1953م، كتب ناظر المحطة الشهير حسن ابو صرة برقية الى الأستاذ السلمابى محرر صوت السودان وقد كانت إضافة الى النيل، تعبر عن الاحزاب الطائفية فى ذلك الزمان ، وتناصب إتحاد نقابات العمال العداء - كان نص البرقية كما يلى:
السلمابى صوت السودان الخرطوم
الإضراب نجح نشاطركم الأحزان.
قام السلمابى بنشر البرقية وعلق تحتها قائلا :
وانا بدورى أشاطركم الأحزان فى وفاة (أبيكم ستالين)*.
وقد صادف ذلك اليوم وفاة الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين بسكتة دماغية!
والحقيقة أن الجميع كان يعلم أن ذلك الإضراب كان سياسيا فى جوهره، وإن أخذ شكلا مطلبيا فى ظاهره، بل كان فى حقيقته يعبر عن رفض إتحاد نقابات العمال لإتفاقية الحكم الذاتى للسودان والتى جرى التوقيع عليها فى القاهرة فى يوم 12 فبراير 1953م، بيد أن الرفض اخذ شكلا مطلبيا مبطنا. وكان إتحاد النقابات قد أصدر بيانا بعد ذلك بأيام يدين الإتفاقية ويهاجم الأحزاب التى قبلتها من وراء ظهره كما قال، وقد جاء بيان الإتحاد بعدما أعلن الحزب الشيوعى (الذى كان يعرف بإسم الحركة السودانية للتحرر الوطنى – حستو) عن مقاطعته للإتفاقية بحجة أنها مدت من عمر الإستعمار ثلاث سنوات ومبررات أخرى كان قد ساقها ذلك الحزب، وقد كان من الأفضل تأييد الإتفاقية التى تمّ بموجبها الإعتراف بإستقلال السودان، ثم نقدها بعد ذلك بغرض إصلاح نواقصها إن وجدت. تسبب ذلك الموقف فى حدوث مواجهات عنيفة بين اللجان الوطنية العمالية التى كان يوجهها الحزب الشيوعى فى أوساط العمال، والجماهير التى كانت تعبر عن فرحتها بتوقيع الإتفاقية، الأمر الذى تمخض عن أحكام بالسجن وقعت على بعض الشيوعيين وأفراد من اللجان الوطنية المذكورة. قبل ذلك، كانت مركزية نقابة السكة حديد قد رفضت إقتراحا تقدم به المرحوم قاسم أمين يقضى بأن تقوم المركزية بإقتراح الإضراب على إتحاد النقابات، مما إضطر إتحاد العمال - الذى كان تحت سيطرة قيادات شيوعية مثل سلام وآخرين- إضطرّ بعد هذا الرفض لأن يلجأ الى حيلة أخرى من أجل شرعنة قراره بالإضراب، حيث إدّعى أنه جمع ما أسماه ب(مجالس إدارات النقابات) وتوصل معهم الى قرار يوصى برفع مذكرة الى السكرتير الإدارى تحتوى على عدة مشاكل عمالية قاموا بتحديدها فى شكل نقاط، ثم باشرت قيادة الإتحاد صياغتها وأرسلتها للحكومة وأمهلتها سبعة أيام للرد وإلا فإن مجلس الإدارات سيتخذ القرار المناسب. هذا عن قصة الإضراب الناجح الذى نفذه العمال رغم سوء توقيته، حفاظا على وحدتهم ونكاية فى الطائفية التى كانت تتربص بهم، وتصالحا مع الأمر الواقع الذى فرض عليهم فرضا. أما الإتفاقية ومعارضتها، فقد دفع الحزب الشيوعى فيها الثمن فادحا حيث كان رد فعل الشعب السودانى بكل قطاعاته عنيفا تجاهه، وكانت المظاهرات الشعبية المبتهجة بالإتفاقية تحاصر دار إتحاد نقابات العمال وتطالب بطرد قياداته، وكان البعض يشترون جريدة الطليعة، ليمزقونها ويدوسون عليها بالأقدام. إضطرّت قيادة الحزب الشيوعى أمام هذا التصعيد للإجتماع فى مارس من نفس العام وإتخذت قراراتها بتأييد الإتفاقية، وزعمت أنها كانت قد بنت معارضتها لإتفاقية الجلاء بعد أن نظرت إليها من جانب واحد، ثم أصدر إتحاد نقابات العمال بيانا جاء فيه (إن الإتحاد ليس حزبا سياسيا يفرض على أعضائه العمال رأيا سياسيا معينا وأن النقابات كذلك ليست احزابا سياسية وأن العمال لهم الحق فى أن يعتقدوا ما شاءوا من الآراء السياسية وعليهم أن يدركوا أن نقابتهم وإتحادهم بوصفها جبهات تضمهم جميعا ولا مجال للنشاط الحزبى فيها!)
وقد علق النقابى الراحل على محمد بشير موسى، وهو محق، فى كتابه (تاريخ عمال السكة حديد والحركة النقابية فى السودان) على مفردة جبهات فى بيان الإتحاد قائلا :( لا أدرى كيف تتميز النقابات بأنها جبهات طالما أنها لا تمارس نشاطا سياسيا)*. ومع تأكيدنا على تهافت بيان الإتحاد فإن ذلك لا يمنعنا من الرد، ولو بتساؤل آخر حول ما الذى يمكن أن يمنع إتحاد النقابات من إستخدام كلمة جبهة فى ظل هيمنة الماركسية على تفكير قيادته، وحيث تعتبر منظمات العمل العام والنقابات مجرد أدوات يستخدمونها فى الصراع الطبقى الدائر لمصلحة ما يعتبرونه قوى التقدم من أجل إلحاق الهزيمة بأعداء الشعب الطبقيين وسحقهم بلا هوادة، حتى تواصل قاطرة التاريخ سعيها الحثيث ومسيرتها الحتمية نحو الجنة الإشتراكية !
كانت الجهات التى تصيغ الرأى العام فى سودان الأربعينات والخمسينات هى مؤتمر الخريجين العام، قيادات الأحزاب السياسية التى إنبثقت عنه، ثم الصحف والجمعيات الأدبية والطلاب والنقابات ، ولذلك يمكن إطلاق صفة المجال العام عليها لطابعها الأهلى غير الرسمى، والذى لم يكن يتخذ القرارات أو يرسم سياسات الدولة، لكنه يستطيع أن يؤثر فيها، وحيث كانت الدولة فى قبضة الإستعمار الانجليزى ثم صارت فى قبضة الجيش السودانى قرابة نصف قرن من عمر السودان المستقل. والمجال العام أو الفضاء العام إذا صحت ترجمتى لمفردة public sphere هو مصطلح قام بصكه الفيلسوف الالمانى يورجن هابرماس فى دراسته الشهيرة فى ستينات القرن الماضى تحت عنوان (التحولات البنيوية للمجال العام)**. والمقصود بالمجال العام مجمل نشاط الناس وآرائهم التى تساهم فى تكوين الرأى العام وتشكيله.
قام هابرماس بمراجعة تاريخ ظهور وإضحملال الرأى العام الحديث حيث لاحظ أن بروزه فى بدايات القرن التاسع عشر كان نتيجة مباشرة لرسوخ الحقوق المدنية civil rights كحق التعبير والتنظيم والنشر، هذه الحماية للحريات العامة كانت ضرورية لتدشين منتديات الحوار فى المجتمع مثل المقاهى العامة، الأندية، الصالونات والمجلات الأدبية، الجمعيات والصحف، وهو حوار يشمل كل مناحى الحياة من شئون عامة وأخرى خاصة، ويجرى بحرية وتكافؤ وندية، ولأنه أخذ شكلا طوعيا فقد ساعد على تراكم ثقافة جديدة أتاحت للمشاركين فيه، ضمن أشياء أخرى، إعادة إكتشاف إحتياجاتهم ورغباتهم الحقيقية والقدرة على التعبير عنها، الأمر الذى ساعد على تشكيل مفهوم مشترك حول ماهية المصلحة العامة The common good. بالنسبة لهابرماس فإن تلك الثقافة إستطاعت أن تبلور مفاهيم ومعايير normative notion مكنت الرأى العام من تحديد المصلحة العامة وكيفية تحقيقها فى كل لحظة من عمر المجتمعات الإنسانية . منتديات الحوار كانت عبارة عن الفضاء العام الذى ظل يشكّل الرأى العام، وهذا الفضاء العام يتميز بالهشاشة رغم إحاطته بسياج منيع من الحقوق المكتسبة بفضل النهضة والتنوير الأوروبى. إستطاع الفضاء العام أن ينمو تدريجيا ليبلور رأيا عاما له تأثيرا كبيرا وحاسما فى تشكيل الوعى العام، وبالتالى القدرة على تقييم أداء الدولة ومعايير الصواب والخطأ فى السياسات والقرارات التى تصدرها. بمعنى آخر صار الرأى العام معيارا للخطأ والصواب فى أعين غالبية المواطنين، وله بالتالى القدرة على منح أو منع الشرعية فى كل ما يدور فى دهاليزالدولة والمجتمع. إمكانيات الرأى العام على التأثير ترجع الى مصداقيته المستمدة من طابعه العفوى، وتقبل الناس له، والثقة فيه لانه يصدر عن مشاركة طوعية، وضمن حوار يستخدم الناس فيه المنطق السليم وإعمال العقل والنقد البناء، بدلا عن الإتباع الأعمى للتقاليد والذى كان سائدا قبل ظهور الحداثة الأوروبية. وجود مجتمع مدنى معافى وفضاء عام متماسك يؤدى فى العادة إلى تشكيل رأى عام يكون بمثابة بوصلة يستطيع أن يركن لها الشعب بإطمئنان وأن يحتكم اليها بالتراضى، وليس بالقسر الذى ظلت تمارسه الديكتاتوريات المتعاقبة على السودان، لأن الرأى العام الحر والمستقل يمتاز بالقدرة على حيازة قبول غالبية افراد الشعب، ولأنه يكرس مشروعية تتأسس على ذلك النوع من القبول الذى لا يتعارض مع المنطق أوالوجدان السليم. من الواضح إذن أن الفضاء العام فى الدول الديمقراطية الحديثة أصبح يؤدى وظيفة سياسية وإجتماعية على قدر كبير من الاهمية رغم انه لا ينتمى إلى أي مؤسسة سياسية بعينها، ولا يمكن تحديده بدقة بحكم أنه فضاءا ممتدا يملأ كل الفراغات الموجودة بين المجتمع المدنى والدولة. وقد لاحظ هابرماس مدى هشاشة الفضاء العام فى مراجعته لتاريخ الدولة الألمانية، لأن التطور الرأسمالى الذى صاحبها قد ترافق مع إحتكار قلة من الأفراد لوسائل الإعلام والصحف، فى ظل غياب تام للدولة والرقابة الإدارية التى تضمن قدر من الإستقلالية لوسائل الاعلام الأهلية، وهو ما سهل توجيهها وأفقدها طابعها الحر والمستقل، وقاد الى تزييف المشروعية، الأمر الذى هيأ المسرح السياسى تماما لصعود النازية لتملأ الفراغ الناشىء وتحكم سيطرتها على مفاصل المجتمع والدولة.
هذا التلخيص المبسط لمسألة المشروعية وأهميتها وشروط ظهورها وإضمحلالها، وإرتباطها الوثيق بالفضاء العام يمكن ان يعيننا على فهم أبعاد ومآلات تدهور الأوضاع فى السودان منذ إستقلاله، للدرجة التى هددت ديمقراطيته الوليدة فى الصميم، وقادتنا الى الحلقة الشريرة المتمثلة فى ثلاث ديمقراطيات قصار يعقب كل منها شتاء الدكتاتورية العسكرية القاسى وليلها الطويل الذى قضى على الإخضر واليابس. ويؤكد هذا الزعم الطابع الدينى الإستبدادى الذى لازم دكتاتورية جعفر نميرى فى سنواته الأخيرة وسهّل الامر على الإسلام السياسى تنفيذ إنقلاب الإنقاذ بعد ديمقراطية قصيرة، والإستمرار لأكثر من عقدين من الزمان، وقاد ضعف المشروعية إلى جرجرتها داخل المساجد وأتاح لرجال الدين – تماما مثلما كان يفعل بابا الفاتيكان فى العصور الوسطى الاوروبية – أتاح لهم فى المقابل الإفتاء فى كل شىء والقدرة على منح المشروعية أو منعها وفق إجماع كان قد تشكل فى بدايات القرن الثالث الهجرى، وهو إجماع لا علاقة له البتة بتجربتنا الحياتية (وشئون دنيانا). هناك إفتراض مفاده أن ظاهرة إنتشار الإسلام السياسى تعد إحدى مآلات ضعف مناعة المجتمع بسبب غياب الفضاء العام، وان التطرف الدينى كان البديل الذى إستطاع أن يملأ الفراغ الناجم عن غياب الرأى العام الناضج والمستقل. إن ما يعضد مثل هذا الإفتراض هو تعاقب ثلاث ديكتاتوريات عسكرية كل واحدة منها أطول عمرا وأشد قتامة وتطرفا عن سابقتها. ولذلك يدعو المقال إلى إعاد قراءة تاريخنا الحديث لأن الأزمات العميقة تتطلب مثل تلك المراجعات. ولعلنا قد لاحظنا ضمن قراءتنا لحدث تاريخى مثل إتفاقية إستقلال السودان التى وقعت فى مثل هذا اليوم قبل ستين عاما، كيف تآمر الحزب الشيوعى فى فرض إرادته على العمال مستخدما ما أسماه اللجان الوطنية العمالية التى يتم توجيهها بواسطة الفراكشن الشيوعى، بل حتى اللجوء إلى حيل أخرى مثل إستخدامه لما أسماه ب(مجلس إدارات العمال) حتى يمكّن إتحاد نقابات العمال من فرض الإضراب فى نفس توقيت التوقيع على إتفاقية الإستقلال!. ولأن الأحزاب العقائدية ذات الايديولوجيات الشمولية تؤمن بإمتلاكها مفاتيح المعرفة والبوابة المفضية الى الحقيقة المطلقة، فإنها لا تحفل فى العادة بالإجماع الذى يتوصل إليه الناس بعد حوارات حرة وطوعيه فى الفضاء العام، بل تمارس التعالى عليه، ولذلك تميل الى التآمر الإدارى على ذلك الاجماع الحر والعفوى بغرض إغتياله، ومن ثم فرض وصايتها عليه، على الرغم من أنه يشكل عصب العملية الديمقراطية نفسها. وهذه التدابير الإدارية تبدأ من تبنى أشكال مركزية قابضة داخل التنظيم العقائدى نفسه. الأمر الذى يقود فى النهاية إلى زعزعة ثقة الشعب تجاه مثقفيه ومنظماته، ويقوم بتهيئة النفوس للبيان العسكرى الأول. إستخدام منظمات المجتمع المدنى بإعبارها مجرد آليات فى الصراع الطبقى كما تعتقد نظرية المعرفة الماركسية، وإغفال دورها كآليات لإضفاء الشرعية، يعد أمرا فى غاية الخطورة، خاصة فى ظروف بلد يعانى من التخلف وضمور المؤسسات مثل السودان حيث يضع الشعب الذى ينوء تحت ثقل الامية والفقر كل آماله وثقته فى رأسماله الحقيقى، المتمثل فى المتعلمين من أبنائه وبناته أيا كانت درجة تعليمهم.
الجزء الثانى من المقال يتعرض لتجربة مؤتمر الخريجين العام الذى إقتصر فى تكوينه على النخبة المتعلمة القليلة، وسط محيط شاسع من الأمية، ولم يشمل فى تكوينه النساء أو المهمشين أو العمال. ولكن ذلك لا يقدح فى تجربة المؤتمر أو خصوبتة حيث تخلق فى رحمه وخرج منه قادة العمل الوطنى على مستوى جيل الإستقلال. وكيف أن تجربة مؤتمر الخريجين العام تستحق إعادة القراءة والتقييم بشكل خاص، لأنها فى تقديرى ليست مجرد يوتوبيا للبرجوازية الصغيرة، أو مجرد (صفوة) فهى لا تقتصر على ذلك التوصيف الأيدولوجى المخل، بل تتخطاه لأن تكون فترة من تاريخ شعبنا ونضالاته جديرة بالإحترام والتأمل والمراجعة، وتجربة أثبتت قدرتها على الإلهام والعطاء.
أزمة المشروعية ومآلاتها فى السودان (2 من 2)
اليوبيل الماسى لمؤتمر الخريجين
فى ورقته حول الإصلاح الديمقراطى داخل حزبه تحت عنوان " آن أوان التغيير" كتب الراحل المقيم الأستاذ الخاتم عدلان الملاحظة التالية: ( لقد جاء فى كتيب - لمحات من تاريخ الحزب الشيوعى – أحكام لا تخلو من قسوة بحق المثقفين. فقد أشير إلى أنهم هرعوا وراء المكاسب الشخصية وأصبحوا عناصر يائسة، زاهدة فى الكفاح ، وأصبحوا رصيدا للمستعمر فى كل خطواته، وإنحصر نشاطهم فى أندية الخريجين وفى الجمعيات الأدبية، والحفلات الإجتماعية. وهذه أحكام لا تتسم بالموضوعية. فالنهوض بأعباء الوظيفة الحكومية، بما ينطوى عليه من المكاسب الشخصية المشروعة، ليس يأسا، وزهدا فى الكفاح، وليس إنحيازا إلى المستعمر. كما أن النشاطات الأدبية والإجتماعية فى أندية الخريجين لم تكن اعمالا إنصرافية، بل كانت أعمالا مناسبة لظروف الهجمة الشرسة والقمع الذى اعقب ثورة 1924 التى طالبت بالإستقلال، بل إن هذه المؤتمرات كانت الحاضنة الرؤوم لكل الإتجاهات التى أدت إلى بروز الأحزاب فيما بعد.).. إنتهى.
ثلاثة أرباع القرن مرت على تأسيس مؤتمر الخريجين العام (فبراير 1938- فبراير 2013)، وهى ذكرى عظيمة وتجربة كبيرة لا بد من التأمل والمراجعة بشأنها، خاصة فى ظل الأزمة السياسية العميقة التى نعيشها اليوم بعد سيطرة الإسلام السياسى على مقاليد الحكم فى البلاد منذ نهاية ثمانينات القرن الماضى. وهى أزمة تجسدت بوضوح فى التدهور الإقتصادى المريع، وإنتشار الفساد فى كل مفاصل الدولة والمجتمع لغياب الرقابة والحريات العامة، وبحكم أن فلسفة المشروع الحضارى الإقصائية ظلت تفترض أن مجرد الإنتماء إلى الإسلام السياسى ونيل البطاقة الحزبية، يكفى لمنح حصانة أخلاقية لا تستدعى رقابة من الآخرين، ومن صحف حرة وقضاء مستقل. تجسدت الأزمة أيضا فى إنفصال دولة جنوب السودان ضمن إستفتاء صوتت فيه شعوب الجنوب للإنفصال بأغلبية ساحقة بعد تجربة مريرة مع التهميش والحرب الجهادية، هذا إضافة إلى إنتشار الحروب الأهلية فى أطراف البلاد شرقا وغربا وجنوبا. وكنت فى الجزء الأول من هذا المقال قد زعمت أن المسألة برمتها تتعلق بأزمة مشروعية خانقة، حيث أن مناعة المجتمع تجاه تخليق المشروعية من خلال رأى عام مستقل ومجتمع مدنى ناضج ومستقر مهددة بإستمرار، وهى مشروعية ظلت تتدهور منذ الإستقلال وحتى عشية إنقضاض الترابى وحزبه على السلطة. والمشروعية، أقصد بها قبول غالبية الناس للنظام السياسى الذى يحكمهم، وهو شىء لا ينطبق على تجربة الإنقاذ التى إعتمدت القمع والتنكيل وإبتزاز المجتمع المتسامح بإسم الجهاد منذ مجيئها إلى السلطة بالغدر، فهى لا تعتمد على المشروعية أو القبول مثلما تفعل حكومات الدول التى تطبق التعددية الديمقراطية. والمشروعية بهذا الفهم تكون بمثابة الاجسام المضادة التى يفرزها جهاز المناعة فى الجسم، وجهاز المناعة للمجتمع المدنى هو الرأى العام المستقل. وكنت أيضا قد أوضحت أن المشروعية تتطلب مجالا عاما تتوفر فيه الحريات حتى تكون لديها القدرة على تخليق إجماع وتصورات حول أولويات الدولة والمجتمع فى جميع المجالات، وهى تصورات أيضا تأتى فى إطار رأى عام يقوم على المحاججة الحرة والطوعية بين الناس العاديين والمتخصصين بغرض إستشراف ما يمكن أن يحقق المصلحة العامة. ولذلك يأتى القبول النفسى، وهو قبول القلب قبل العقل، بسبب الطابع العفوى الطوعى والمخلص للحوار بين المواطنين فى شئونهم العامة والخاصة، ثم يأتى المنطق والمحاججة والمعرفة والخبرة التى يراكمها الناس فى المجال الذى يشتغلون فيه لترسخ القبول وتعمل على عقلنته. وتتأسس المشروعية على شرطين، الأول هو توفر الحريات العامة من اجل حوار مثمر، أما الثانى فهو توفر حساسية الدولة ( كجهة رسمية معنية بإتخاذ القرارات) تجاه الرأى العام (بإعتباره الجهة الاهلية الخاصة بإجماع الناس وبالقدرة على تقييم القرارات التى تصدرها الدولة)، وهى علاقة عضوية يفرضها التداول السلمى للسلطة السياسية حيث تكون الشفافية تجاه الرأى العام من أهم المعايير التى يستعين بها المواطن فى عملية الإدلاء بصوته لصالح مرشح ما. صحيح أن الخيارات بين مرشح وآخر تفرضها بعض الإختلاف فى التوجهات والاجندة السياسية، لكن يبقى الإجماع واسعا فى العديد من القضايا. فعلى سبيل المثال تصرف حكومات المحافظات الكندية على الرعاية الصحية والتعليم العام، عشرات بل مئات البلايين من الدولارات سنويا من أموال دافع الضرائب، وليس هناك خلاف حول ذلك، حيث رسّخت ثقافة الديمقراطية والحقوق هذا الأمر منذ زمن، فأصبح هناك إتفاقا كاملا عليها بين جميع أحزاب الطيف السياسى من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها بإعتبارها من حقوق الإنسان الأساسية، وربما يكون الخلاف عادة إن وجد، هو حول ضرورة مراجعة بعض التفاصيل، وطريقة تلك المراجعة، من آن لآخر لضمان فعالية وإستدامة مثل هذه الخدمات الضرورية وعدم إستغلالها لمآرب شخصية.
مراجعة تاريخ السودان الحديث قبل قيام مؤتمر الخريجين عملية تستدعى التأمل فى ثلاثة عوامل لعبت دورا محوريا فى إضعاف الفضاء العام أو المجال العام وربما شلته تماما، وبالتالى مصادرة دوره فى التأثير، أودرجة تقبل الناس له، ومن ثم فتحت الباب واسعا للإنقلابات وما عرف بالدائرة الشريرة من ديمقراطية يعقبها إنقلاب عسكرى طويل فى تعاقبا يبدو سرمديا إرتبطت به الحالة السودانية. علاج هذه الظاهرة المزمنة يستدعى إصلاحا حزبيا ديمقراطيا وليس مجرد إعلان إحتفالى للنوايا الحسنة للأحزاب كما حدث فى الديمقراطية الثالثة حين تم التوقيع على ما يسمى ب (ميثاق الدفاع عن الديمقراطية)، والتى كانت إجراءا مظهريا لم يصمد كثيرا أمام الواقع لعدم قيام قيادات الاحزاب بمسؤولياتهم المباشرة تجاه ذلك الإصلاح الحزبى كشرط ضرورى لإستدامة الديمقراطية. هذه العومل الثلاثة تمثلت فى التصورات الأيديولوجية للاحزاب العقائدية ومسلكها السياسى، وهى الظاهرة التى كنت قد أشرت اليها فى الجزء الأول من هذا المقال، أما العامل الثانى الذى ساهم فى إضعاف المشروعية وتقبل الناس للرأى العام الحر فى المجتمع والثقة به، فهو المتجسد فى الوصاية التى تمارسها الاحزاب السياسية على منظمات المجتمع المدنى، وهى وصاية تعبر عن الثقافة الموروثة فى مجتمع أبوى وصائى. العامل الثالث الذى يمكن ان يساهم بفعالية فى إضعاف المشروعية خاص بإنعدام حساسية الدولة تجاه الرأى العام الحر لدرجة الإحتقان، لعدم إستدامة الديمقراطية، وهو إحتقان يكون نتيجته عزل المجال الرسمى (الدولة) عن المجال الاهلى (المجال العام)، كظاهرة أصبحت مزمنة وغير قابلة للعلاج فى ظل الإنقاذ كما نلاحظ،، لأنها تقود لإنحراف الدولة والناس معا وإنتشار الفساد والفوضى وعدم الإكتراث، وضيق دائرة إتخاذ القرار، تصحبه محاولات شرسة من قبل الدولة لمصادرة الحريات العامة حتى لو كانت هامشية. إنعدام الحساسية تجاه الرأى العام ليس أمرا جديدا فى السودان فقد خبره الناس حتى فى ظل وجود برلمانات منتخبة وصحافة حرة، نظرا لطبيعة الاحزاب الطائفية التى تؤول اليها الامور فى النظام التعددى، حيث تنعدم الديمقراطية فى الحياة الحزبية وفى كلما يتعلق بالحساسية والشفافية نتيجة دمج الطائفة الدينية فى الحزب السياسى. ولأن الطائفية جبلت على الأنانية، فقد تعاملت مع مؤسسات الحكم Public office كسيد وليس كخادم، ولذلك عرفت الحكومات التى تشكلت على خلفية إئتلافات بين زعيمى الانصار والختمية بعد الإستقلال ب(حكومات السيدين) تارة، أو (الدكتاتوريات المدنية) تارة أخرى. وقد كان التحالف الذى قاده عبد الله خليل أحد مخرجات مثل تلك الحكومات، وقد إنتهى كما هو معروف بتسليم السلطة المدنية إلى الجنرال عبود نتيجة لتراكم الإحتقان بين المجال الرسمى والمجال الأهلى. ويبدو حينها ان الجيش كمؤسسة تمتلك القوة قد أصبح خيار الطائفية لأنه الأقدر على قمع القوى الحديثة والرأى العام المستنير. ففى ظروف إنسداد قنوات التواصل بين المجالين الرسمى والأهلى، إنعدمت القدرة على التشخيص والعلاج وهو شىء يستحيل القيام به دون إعادة تسليك قنوات التواصل بين الدولة والمجتمع المدنى، ويعود العجز فى ذلك إلى عدم توفر الرؤية والإرادة السياسية لدى القيادات الطائفية. وكانت حكومة السيدين قبلها قد قامت بإلغاء أول قانون للإنتخابات ينص على منح دوائر القطاع الحديث والمدن وزنا إنتخابيا أكبر من دوائر القطاع التقليدى، حتى تكون الديمقراطية فى السودان اكثر فعالية لظروف التخلف والامية المتفشية فيه. وهى القوانين التى كانت قد وضعها سوكومارسن ومن معه من خبراء سودانيين وأجانب، بعد عمل تقييم دقيق لأوضاع السودان والوقوف على أحوال مجتمعاته فى الحضر والريف قبيل إستقلال البلاد. حدث ذلك النوع من التراجع لأن الطائفية إهتمت منذ البداية بالمكاسب الحزبية الضيقة وغلبتها على المصلحة العامة، وقد إشتهرت ديمقراطيتنا البرلمانية بالإئتلافات قصيرة العمر عديمة الفعالية Double shuffle الأمر الذى قاد إلى شكوك عميقة تجاه إمكانية أن تكون الديمقراطية أداة لخدمة الناس ووسيلة للنهضة الوطنية الشاملة. أما إضعاف الأحزاب العقائدية للمجال العام من ناحية ثانية فهو يجىء بسبب التعالى على المجتمع والإحساس الزائف لدى عضويتها بإمتلاك الحقيقة، وهى من إشكاليات مبدأ الجوهرانيةEssentialism الفلسفى ،الذى يمكن التعرف عليه بوضوح فى نقد ما بعد الحداثة. والجوهرانية تعنى صيرورة الطبقة العاملة لأن تكون الجوهر المعبّرعن الحق والعدل عند اليسار الماركسى، أما فى حركات الإسلام السياسى فإن مثل ذلك الجوهر يرتبط بالإجماع الفقهى الذى تحقق فى بدايات القرن الثالث الهجرى. تصورات المتعلمين عند أهل اليسار تكون قاصرة عن إدراك الواقع وسير التاريخ كونها تصدر عن مجرد (برجوازية صغيرة حائرة)، أما مفهوم الضلال عن الحق لدى حركة الإسلام السياسى، فيعبر عن نفسه من خلال مفردة (الجاهلية الحديثة أو جاهلية القرن العشرين) بإعتبار أنها غير خاضعة لذلك الإجماع الفقهى المتوارث فى تصوراتها الاخلاقية، حيث يعد ذلك إنكارا لما عرف من الدين بالضرورة، لأن التعامل مع العصر خارج ذلك الإطار بدعة ، وإن كل بدعة ضلالة.. إضعاف الحوار والمحاججة الطوعية الحرة يتم بالإعتداء عليها، كما أوضحت فى الجزء الاول من هذا المقال، بواسطة التدابير الإدارية إضافة إلى إطلاق الشائعات وإبتزاز المجتمع المدنى المتسامح خاصة من قبل الإسلام السياسى. لا أستطيع إتهام الأيديولوجية وحدها فى ذلك لأنها تقوم بوظيفة تعمل على دعم الثقافة الوصائية الموروثة، بدلا عن التصدى لها وفضحها. ويمكن ملاحظة ميل الثقافة الموروثة ونزوعها نحو الوصاية فى محاولات (الأشقاء) فى فرض هيمنتهم على مؤتمر الخريجين منذ منتصف الأربعينات، والتقاعد عن التعاطى مع قضايا الواقع وتعقيداته والإكتفاء بالعناية بالواجهة، بعد ذلك التاريخ.
تاتى أهمية اليوبيل الماسى لمؤتمر الخريجين العام فى مراجعة قضية المشروعية، مشروعية الإصلاح والتحرير التى قادها المؤتمر، ثم مشروعية قيادة المتعلمين لدفة البلاد. وهى مشروعية يتم تكريسها من خلال الحوار الطوعى وتلاقح الأفكار والعقل الناقد الذى يتمتع به من نال قسطا من التعليم. المحاججة والحوار الحر هو ما ساهم فى تطوير أطروحات المؤتمر وأهدافه من مجرد جهاز نقابى إلى دور وطنى مستحق. وقد ظلت أزمة المشروعية بعد إغتيال المؤتمر تؤرق الجميع، تؤرق حسنى النية كالعناصر الوطنية التى أسست مؤتمر الطلاب المستقلين فى النصف الثانى من سبعينات القرن الماضى ثم العناصر التى أوجدت تنظيم الطلاب المحايدين على بدايات الثمانينات، وحتى الحركات الشبابية الوطنية المتمردة مثل (قرفنا) و(التغيير الآن ) وغيرها. وبنفس القدر إهتمت به الأحزاب العقائدية بسبب أجندتها القائمة أصلا على فرض هيمنتها متى ما سنحت الفرصة، وحتى تستغل (مفهوم قومية) القوات المسلحة كأداة لتلك السيطرة والهيمنة، وهو إستغلال لفكرة الحياد كما نرى. سرقة المؤتمر الوطنى الإنقاذى الحاكم لإسم المؤتمر بعد مفاصلة القصر والمنشية، ومحاولات إخفاء الجبهة الإسلامية لهوية إنقلاب الإنقاذ إمعانا فى إدّعاء الحياد لضمان نجاحه، تستطيع أن توضح ما قصدت. والملاحظ ان الأحزاب العقائدية لا تقبل التعددية إلا مضطرة ومرغمة، وقد ظلت تمارس النقد للطائفية السياسية فى بلادنا منذ الإستقلال حينما تقوى شوكتها، أو تتحالف معها فى ظروف إنحسارها وفقا لرؤية غير نقدية، لأنها لا تؤمن حقيقة بالتعددية الديمقراطية خاصة وظيفتها ذات الطابع الابستمولوجى (المعرفى)، فتعامل الاحزاب العقائدية مع الطائفية لايتم لمصلحة تكريس ثقافة ديمقراطية بقدر ما يصب فى وجهة تعزيز سدانتها الأيديولوجية.
تأسس مؤتمر الخريجين بواسطة عدد قليل من المبادرين وجمعية عمومية تتجاوز الألف شخص بقليل فى مجتمع تتفشى فيه الأمية، وإستطاع رغم ذلك لعب دورا مقدرا فى معارك التحرير من ربقة الإستعمار ولكنه فشل فى الإستمرار والتطور إلى كيان سياسى، رغم أن فكرة المؤتمر الهندى كانت مسيطرة على عقول العديد ممن ساهم فى تأسيس المؤتمر. وهو فشل يعود إلى غياب الثقافة الليبرالية نتيجة لغياب حاضنتها والمتمثلة فى توفر الحريات والعقل المفتوح إضافة إلى إنتشار ثقافة الهيمنة وسط القيادات. وفى تقديرى أن سهام النقد وفق مفهوم (الصفوة) على سبيل المثال، هو الذى طغى وسط جيل الإستقلال فيما يتعلق بمجمل التجربة، وهو مفهوم طبقى فى جوهره، وفى نفس الوقت معيب لأنه غير كافى لرؤية التجربة وبالتالى تقييمها بشكل حقيقى. صحيح أن المؤتمر لم يضم فى صفوفه النساء والمهمشين بحكم ندرة التعليم وظروف التخلف التى كانت سائدة آنذاك، ولم يضم بطبيعته العمال أو المزارعين، ولكن ذلك لا يقدح فى قدرة المؤتمر على التعبير عن رؤية إصلاحية ناضجة أوعن (المصلحة العامة )، وهو التعبير الذى خاطب به الإدارة الإستعمارية لأول مرة حينما أعلن عن وجوده. عبارة المصلحة العامة وضرورة تعاون الجميع من أجل بلوغها كانت قد ظهرت فى أدبيات المؤتمر أبان محنة الإختلاف حول طريقة إعلان المؤتمر عن نفسه. الحوار الحر كان جديرا بتوسيع مفهوم المصلحة العامة وخلق ثقافة جديدة قادرة على التطور بإستمرار وإستيعاب مسألة المركز والهامش، الجندر، والعدالة الإجتماعية وغيرها من القضايا المهمة فيما بعد، وهى ثقافة كانت تشترط توفر الحريات العامة. ولذلك فإن الإشكالية تتجاوز طبيعة التكوين الطبقى للمؤتمر إلى ما هو أهم، أى فى تحجيم الثقافة الحرة، ثقافة الرأى والرأى الآخر، لعدم توفر شروط الحوار والخطاب المرتبط به، وقد كان المؤتمر قادرا على الإنجاز والإستمرار بشكل او بآخر لولا تلك العقبة. طبيعة مؤتمر الخريجين لم تكن تجسد مفهوم الصفوة أو البرجوازية الصغيرة المنبتة عن مجتمعها إطلاقا، بل كان يوتوبيا واقعية إذا صح التعبير، لانها كانت يوتوبيا قابلة للتحقيق، فالمؤتمر لم يكن يعبر عن أيديولوجيا فقط، بل كان فى تكوينه وفى وطريقة أدائه قد تخطى الأيديولوجيا المجردة ليصبح فكرة وايديولوحيا معا both idea and ideology حيث تمثلت الفكرة فى إمكانية تأسيس ثقافة جديدة ذات طابع ليبرالى.
صاحب صعود حزب الوفد فى مصر رياحا تحمل فى طياتها ذلك الطابع الليبرالى، وقد تأثر بها الواقع السودانى. ورغم أنها كانت رياحا خافتة وبطيئة، إلا انها كانت كافية لملأ أشرعة (اللواء الأبيض) بمفاهيم المواطنة والحقوق وقضايا التحرر والتحديث، على انها إصطدمت بالثقافة العربية الموروثة. كان يمكن تطوير الثقافة السياسية وسط منظمات العمل العام فى السودان، لولا غياب الرؤية النقدية للثقافة السائدة، حيث لم تكن تلك الثقافة تعتبر ثورة 24 تجسيدا لأشواق أهل البلاد لأن قيادتها لم تكن من (أولاد البلد)، والمقصود بذلك كان البطل القومى على عبد اللطيف، فى إشارة واضحة لرفض قيادات لا تنتمى للمجموعات التى تعتبر نفسها عربية، مهما بلغت قدرتها على البذل والتضحية، ومهما كان طرحها واقعيا واهدافها سامية، لأن الحقوق هنا تتأسس على (شرف الأرومة) بدلا عن مفهوم المواطنة. كان السيد عبد الرحمن المهدى حريصا على الحد من تطور ثقافة الحقوق حيث لم يكن اصلا يمتلك الرؤية الثاقبة فى هذا الأمر، لذلك سعى إلى قطع الطريق على قيام مؤتمر الخريجين، ففى خطوة إستباقية أعلن عن الدعوة إلى تأسيس ما أسماه بالمجلس الإستشارى، الذى كان من المفترض ان يتم تكوينه من القيادات الدينية والعشائرية، ويتم تطعيمه ببعض المتعلمين ممن شغل مناصب عليا فى الإدارة الإستعمارية. وقد إنتبهت مجلة الفجر لخطورة الفكرة لتنبرى فى عددها الصار فى أغسطس 1937 تقريبا لتلك الدعوة وقامت بتعريتها، وقدمت دفاعا مجيدا عما أسمته بضرورة (إستقلالية) منظمات الخريجين واكدت على دروهم النوعى فى قيادة النهضة الوطنية.
طلعت الطيب
عضو المجلس القيادى لحركة القوى الجديدة الديمقراطية
ونائب رئيس الحركة
Talaat Eltayeb [[email protected]]
///////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.