شئٌ من التاريخ وعبق الذكريات في بواكير العقد التاسع من القرن المنصرم وبالتحديد في العام الميلادي 1983.. ضرب الجفاف أصقاعاً واسعةً في وسط أفريقيا وشمالها، وانتظم كذلك كافة أرجاء الأقاليم السودانية غربها وشمالها وشرقها.. كانت القبائل الرعوية من الكبابيش في غرب السودان من أكثر القطاعات بلاءً .. فقد أجدبت مراعيها ونفقت قطعانها وجفت عليها المياه في آبارها وحفائرها ووديانها.. لم يُفلح ذلك الجدب في الحقول ولا ذلك النفوق في القطعان والأنفس والثمرات في أن يقطع خواطر الخرطوم التي كانت غارقة في أحلامها، مشغولةً تنصب قرابينا للسماء، وزنازينها القذرة تحتشد بسارقي الخبز والحليب والمستضعفين، وقد اشعل الزبانية ظهورهم وأجسادهم فطفقوا مسحاً بالسوق والأعناق، حتي إذا وهنت عظامهم أو فسدت جلودهم، سلقوا بالسياط جلوداً غيرها. قُطِّعت أطرافهم النحيفة وبُعثرت آمالهم، حتي يعبر عليها السلطان وجنوده ومترفو المدينة إلي جنةٍ عرضُها السموات والأرض أُعدّت للمتقين .. أحال ذلك الجدب مجاميع كبيرة من سكان الأقاليم الغربية من رجال أعزاء مرفوعي الهامات .. سعاةٌ موسرين يملكون أسراباً من الأبقار الحلوبة والنياق والأغنام.. أحالهم بين ليلةٍ وضحاها إلي فقراء معدمين لا يملكون لأنفسهم ولا لأهليهم ضراً ولا نفعا ..هائمين علي وجوههم ضاقت واستحكمت عليهم دوائر الفقر والمرض والفاقة ..وهنت منهم الأجسام وجحُظتِ الأبصار.. فجعلت تتأرجحُ أرواحُهم الطيبة الحائرة ما بين السماء والأرض .. غدواً ورواحا في سعي سرمديٍ بين الحياة والموت .. هاموا في الآفاق سعيا وراء الماء والكلأ. عبروا الوديان القاحلة والفيافي المغفرة، وعانوا حر الشمس وهجيرها ..تبعتهم في مسارهم الطيور الجنائزية الكاسرة، هاجمتهم الضواري والذئاب الجائعة المسعورة فنكلت بقطعانهم وأهلكت الصبية منهم والأطفال الرضع ..تفرقت بهم السبل فمنهم من بلغه الله غاياته وأصاب منها ما أصاب، ومنهم من قضي نحبه وحالت المنية دونه ودون بلوغها .. حتي إذا بلغوا مشرق الشمس، حطوا رحالهم ومتاعهم وما تبقي معهم من الأغنام الهزيلة البائسة علي ضفاف النيل الغربية، في رقعةٍ تمتد من أقاصي شمال أمدرمان وجنوبا حتي مدينة كوستي.. أقاموا لهم خياما من الصوف والشعر.. يقيلل فيها الجوع وتعمرها الفاقة نهارا.. وفي الليل وعند الشط الآخر، تكاد تخطف أبصارهم أضواء المدن القصية الراقصة المتلألإة. دونها النهرُ الذي يتمطي قاطعاً عليهم الطريق كأنما اتخذت المدينة منه سدا.. عبرت أعدادٌ كبيرةٌ منهم مجري النيل فأقاموا في مضارب متفرقة في الفضاء الشاسع ما بين القرية والنهر.. وكغيرهم من سكان بحر أبيض العامرةُ قلوبهم بالرحمة والشهامة.. فقد أحسن أهل قريتنا استقبال الوافدين المنكوبين فآخوهم وأكرموهم وأحسنوا وفادتهم، أطعموهم من جوعٍ وآمنوهم من خوف وبذلوا لهم، علي ضيق ذات اليد منهم، الغطاء والكساء .. ولم تمض أيام قلائل حتي أندمج النازحون الجدد في أسواق القرية ومناشطها .. إنهمك البعض منهم بأعمال البناء والحفريات وآخرين عملوا في السوق والمزارع التي تقع بجوار النيل .. أما النساء منهم فقد عملن في بيوت القرية يغسلن الثياب والأواني، ويؤدين، يحماس زائد، كل الأعمال الوضيعة والقاسية، التي تتحرج منها أو تتحاشاها نساء القرية.. ظللن يقتسمن الطعام والشراب مع أهل الدار .. وعند الغروب يستعجلن العودة لمضاربهن النائية المظلمة، بعد أن تجزل لهن ربات البيوت العطاء ثم لا ينسين أن يزودونهن بشئ من القوت يكفي لإطعام أطفالهن حتي صباح يوم جديد.. دام ذلك الود والتواصل دهراً بين أهل القرية والنازحين حتي بلغ يوماً كماله.. ولكلِ شئٍ إذا ما تمّ نُقصانُ .. فقد تجرأ نفرٌ من رجال القرية طالبين القرب بحسناواتٍ من بين النازحين ذوات فتنة قاهرةٍ وجمال أخاذ .. تصادفت لهم رؤيتهن في الأسواق أو بهن عاملاتٍ بالمنازل، والله يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور.. وللحقيقة فأولئك النازحات كن علي درجة كبيرة من الحسن والجمال طغت حتي علي الفوارق الأجتماعية والثقافية التي ربما كانت كافيةً لجعل ذلك التقارب مستحيلا.. لكن الكثيرين من أهل القرية قد غالبهم ذلك الحسن فكلفوا به زمنا، نازلوه فصرع الكثيرين منهم وأدمي قلوب آخرين، فانقادوا له عشاقاً وعبيداً طائعين .. أوهن ذلك التقارب والهيام حماس ربات المنازل في استقبال العاملات من النازحين في ديارهن، اللاتي تهيأ لهن أنهن غازياتٌ للقلوب، وطالباتٌ للهوي، أكثر منهن صاحبات حاجة وكسيراتٍ غلبتهن قسوة الحياة ومكرها .. تسبب ذلك أيضا في إرسال الكثيرات منهن دون ذنب جنينه إلي خارج الدور والحواري، بجريرة غيرهم، هائماتٍ دون عمل وطريداتٍ دون زاد .. فكما قيل أن من الحب ما قتل .. وقعت زيجاتٌ كثيرةٌ بين رجال القرية الهائمين والفاتنات من صبايا النازحين .. منهم من تجرأ بإعلانها صراحةً ومنهم من وأدها قهراً وتكتم عليها .. فكلما نقضت نساءُ القرية حبلاً للنازحين نهاراً .. عقد رجالهن حبالاً بليلٍ أشدَّ متانةً وأقوم نظما .. (يتبع) Nagi Sharif Babiker [[email protected]]