عيناك ما لونهما.. شئ من التاريخ وعبق الذكريات كنا كلنا حضورٌ في الزي المدرسي الرسمي، نهتف في صوت واحدٍ ونرجِّعُ ذلك الهتاف حتي يبحّ صوتنا وتجف منا الحناجر والحلوق، دون أن ندري لهتافنا كُنها، ونحن نصطفُّ في صفوفٍ طويلة ممتدة ..جميع الطلاب بكافة مدارس القرية ذلك اليوم وقوفٌ تحت هجير الشمس الحارقة، مصطفين في الميدان الواسع الذي يمتد ما بين المسجد والمبني القديم للمجلس البلدي الذي كان يواجه المدرسة الأميرية من الناحية الغربية.. نتصبب عرقاً دون إفطار من التاسعة صباحا وحتي الثانية ظهرا في إنتظار أن يطل علينا ذلك الضيف الكبير. .. كنا نعرف أنه المحافظ وأنه رسولٌ يمثل الحكومة بجاهها وسلطانها، لكنا كنا نجهل الصلة ما بين قدومه للقرية وبين وقوفنا القسريّ الطويل دون طائلٍ تحت هجير الشمس ولظاها وحناجرنا مبحوحة بتمجيده والهتاف بأسمه.. دروسٌ مبكرةٌ في المداهنةِ والنفاق حُمِّلنا أوزارَها ونحن في باكورةِ الحياة.. فلم تكن لنا ضالة لديه كي نصيبها ولا موعد لنا نبغيه حتي نصطلي حرارة ذلك الإنتظار الممل الطويل.. وهو بدوره لا حاجة له بنا لأنه يعلم أننا نكذب حينما نهتف له بطول حياة .. فنحن لا نعرفه حتي.. فلماذا إذن هتافنا وتحرقنا لمقدمه دون طائل .. ساعات طويلة ونحن وقوفا.. قهراً.. في إنتظار موكب السيد المحافظ الذي عادة ما يتأخر لساعات عديدة .. أو لا يأتي حتي صباح اليوم التالي .. تجف ثم تبتل ملابسنا بالعرق وتموت أرجلنا من ضعفنا وهوان أمرنا علي الناس.. لكن ليس لدينا من خيار فالذي يغادر الصف سوف يلقي أثاما وعقابا قاسيا حينما ينقلب للمدرسة صباح اليوم التالي .. من مكان بعيد من حيث نُصلب وقوفاً، نُداري أشعة الشمس النافذة براحاتنا، حتي يتراءي لنا أمام المنصة التي نُصبت تحت السرادق الظليل .. شخصٌ في جلباب أبيض يخاطب الحاضرين.. وقف وقد حسُن هندامه ومحيّاه.. قصير القامة داكن اللون .. مكتنزٌ لحمًا وشحما.. بدانته الظاهرة لا تشابه أهل القرية ذوي الأجسام النحيفة، نضارة وجهه وبريقه لا يليقان وسحناتهم ووجوههم التي صلتها قساوة الشمس وأعياها سعيها الحثيث في طلب الرزق ومدافعته.. إصطفت أمام المنصة وتحت الظل مقاعدٌ فاخرةٌ وثيرة جلس عليها أناسٌ وجهاءٌ في هندامٍ حسن وأناقة ظاهرة.. جلس يتوسطهم جلالة السيد المحافظ .. رجل أبيض اللون مربوع القامة ممتلئ الجسم ..تبدو عليه سمات النعمة والدعة والراحة .. في زي أفرنجي راقي ..لا يشبهنا ولا نشبهه.. حتي أنّا كنا نحسبه واحدا من سلالة المستعمرين الذين فاتتهم قوافل الجلاء .. معظم الذين اتخذوا مقاعد للسمع علي جانبيه ذات اليمين وذات الشمال هم أيضاً أناسٌ غرباءٌ علينا لا يشبهون أهل قريتنا ولا يتحدثون بلسانها .. ربما أتوا من الخرطوم والحواضر البعيدة.. لا يأبهون بالقرية ولا بأهلها ولا يحفلون بهم، شئٌ ما جعلهم يتكبدون مشقة السعي والحضور إليها.. جلس علي مقربةٍ منهم ضباط المجلس البلدي والموظفون بالمحلية ووجهاء القرية الذين كانوا يلصقون بالساسة أينما حلوا.. يقعدون إذا قعدوا ويقومون إذا قاموا .. لا مهن لهم يحترفونها غير الساسة والمجالس لكنهم مع ذلك أكثر أهل القرية ثراءً وأعلاهم صوتا .. فلله في خلقه شؤون.. الرجل ذو الجلباب الأبيض الأنيق، يخاطب الحشود بصوت عالي وحنجرة فولاذية لا يكل من الزعيق.. يتمطي حديثه ويتعرج لا تدرك له بدءا ولا ختاما.. نعقل بعضاً من مقاله ونجهل بعضا.. لكنا لم نكن نحفل بما ندركه أو ننشغل بما يفوتنا منه.. عادةً ما كان يتحدث أنه رأي في المنام ليلة البارحة التي سبقت قدوم المحافظ للقرية .. رأي المحافظ في حُلة من الدمقّسِ والحرير، يركب حصاناً ملوناً من النور أو من الذهب والفضة، لا يهم، وأن طيورا ذات ريش بلوري كانت تتقدم الموكب، ونساءٌ حسناواتٍ من أهل الجنة كن يحملن الأيقونات والقناديل المضيئة يتقدمن موكبه البرزخي، وينثرن الورود والبيارق الملونة ولايبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها.. كنا كثيرا ما نندهش من تلك المصادفة المستديمة.. التي دائما ما تجعل هذا الرجل المكتنز يحلم دون سواه، بتلك الأشياء المبهرجة وفي الأمسية التي تسبق وصول المحافظ للقرية بليلة واحدة .. ماذا لو أتته الرؤية بعد مغادرة المحافظ .. وماذا إذا أتت الرؤية ولم يأت المحافظ .. !! كانت الحيرة تقتلنا ونحن صغارٌ يُفَّعٌ لم نبلغِ الحلمَ بعد .. ساعات طويلة أخري من الإنتظار وصبر كصبر آل ياسر علي الخطب الملساء الطويلة كالأفاعي .. يعقبها السيد المحافظ فيعتلي المنصة وفي يده محارم بيضاء ناصعة،يلوح بها في يمناه حينما تقاطعه الهتافات، ويهُشُ بها علينا ،يحيينا ويبشرنا بما تنوي الحكومة بذله لقريتنا الطيبة لترفع عنها الضر والعنت، وتبدلها بعد خوفٍ أمنا.. يجتاحنا فرحٌ عارم وبهجةٌ وتفاؤل بما تعتزمه الحكومة في حق القرية وأهلها، ونحس يومها أن نعيما مقيما سوف يتنزل علي القرية.. ونصفق تصفيقا حاداً حتي تكل أكفُّنا الصغيرة وتجف حناجرنا من الهتاف "عاش الشعار" "يحيا الشعار" .."مرحب مرحب بالشعّار".. وبينما نحن مازلنا وقوفا كالأشجار اليابسة.. ينكبُّ الأكابرُ من القوم تحت ظل السرادق المحروس بالعسكر .. علي موائد طعامَ أُعدت بعناية فائقة وهي تحتشد بما لذ وطاب من أطايب اللحوم والطيور والثريد.. مسكينة طيور القرية وخرافها.. لا نعلم كم أنفق القوم في هذه الوليمة الطيبة ولا من أين لهم ما أنفقوا فيها .. لا نسأل ولا نعلم وما ينبغي لنا .. ما زلنا وقوفا نكابد مرارة الجوع وحر الشمس وهجيرها ..لكن سعادةً فائقة تعترينا ونحن ننسج بالأماني لحماً وسداةً لقريتنا الجديدة.. نبنيها ونعيد بناءها علي وعود السيد المحافظ.. حجراً حجرا، بيتاً بيتا، حتي يكتمل البناء في مخيلتنا الصغيرة قصرٌ من الأماني بمياهه العذبة الرقراقة، بخمائله وزرعه وضرعه.. سعداء سنكون في مدارسنا ومستشفياتنا وصحتنا وأموالنا .. تواشيح من الأحلام تستغرق بعدها القرية في سُباتٍ عميق .. لنصحو مرة أخري في العام القادم تحت الشمس وهجيرها لنهتف نفس الهتاف نمضغ الكذب نفسه، نزدرده ونجتره ..نجوع ونعطش نفس الجوع والعطش وتجف عروقنا.. والرجل المكتنز ذو الأحلام القرمزية.. هو هو .. والمحافظ يبيعنا الأماني المُجنَّحة ونبادله نحن القصص الملساء والأحلام الوردية، حلماً بحلمٍ وكذبةً بكذبة .. نحن نكذب والرجل المكتنز ذو الجلباب الأبيض يكذب .. لكن لماذا تكذب الحكومة .. هل تخافُ الناسَ حتي يضطرها ذلك الخوف أن تكذب لإرضائهم؟ .. الناس الذين لا يجرُؤون علي حسابها حينما تكذب.. من أين لهم الشجاعة أن يسائلوها حينما تصدق وتتحري الصدق .. كنا صغارا وما زلنا نسائل أنفسنا حينما تكذب الحكومة ..ما الذي يجبرها علي الكذب؟ .. Nagi Sharif Babiker [[email protected]]