حضر (غاضبون) وغاب (درع السودان) وآخرين    السهم الدامر والهلال كريمة حبايب في إفتتاح المرحلة الأخيرة من الدوري العام    شاهد بالصورة والفيديو.. تيكتوكر سودانية تثير ضجة غير مسبوقة: (بحب الأولاد الطاعمين "الحلوات" وخوتهم أفضل من خوة النسوان)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تظهر بدون "مكياج" وتغمز بعينها في مقطع طريف مع عازفها "كريستوفر" داخل أستوديو بالقاهرة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    "الجيش السوداني يصد هجومًا لمتمردي الحركة الشعبية في الدشول ويستولي على أسلحة ودبابات"    يبدو كالوحش.. أرنولد يبهر الجميع في ريال مدريد    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    ايران تطاطىء الرأس بصورة مهينة وتتلقى الضربات من اسرائيل بلا رد    غوغل تطلب من ملياري مستخدم تغيير كلمة مرور جيميل الآن    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    خطأ شائع أثناء الاستحمام قد يهدد حياتك    خدعة بسيطة للنوم السريع… والسر في القدم    وجوه جديدة..تسريبات عن التشكيل الوزاري الجديد في الحكومة السودانية    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    (برقو ومن غيرك يابرقو)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المُعْضِلَةُ اللُغَويَّةُ فِي النِّزاعَاتِ السُّودانيَّة! .. بقلم/ كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 21 - 03 - 2013

من بين كلِّ مشكلات بناء الدَّولة الوليدة في جنوب السُّودان، بعد انفصاله في عقابيل حرب أهليَّة ضروس لم تتوقف، منذ 1955م، سوى لسنوات معدودات، ما تنفكُّ المشكلة اللغويَّة تطلُّ برأسها، وبإلحاح استثنائي، في أيَّة مناسبة، حتَّى لو كانت ورشة عمل تدريبيَّة كالتي أقيمت بجوبا، مؤخَّراً، حول حقوق النِّساء، حيث انطرح مطلب كتابة الدُّستور باللغات المحليَّة كضرورة لتيسير فهم النُّصوص، حسب النَّائبة البرلمانيَّة فويبي فونا (المصير الإليكترونية؛ 18 يناير 2013م). كذلك من بين كلِّ هموم الحركة الشَّعبيَّة/شمال، في مناطق سيطرتها بجبال النوبا بجنوب كردفان، حيث ستكمل الحرب الأهليَّة الجَّديدة عامها الثاني بعد ثلاثة أشهر، ما تنفكُّ نفس المشكلة تطلُّ برأسها في أيَّة مناسبة، حتى لو كانت الامتحانات النهائيَّة لتلاميذ يدرسون بالإنجليزيَّة، وفق المنهج الكيني، تحت إشراف إدارة التَّعليم بالحركة، في ظروف الحرب، وتشرُّد عشرات الآلاف بين معسكرات اللجوء والنزوح (مركز جنوب كردفان الإعلامي؛ 22 فبراير 2013م).
(1)
تركيزنا على هذين النَّموذجين ليس، فقط، بجامع الآيديولوجيَّة والقيادة السِّياسيَّة لدى "الحركة الشَّعبيَّة" في كليهما، رغم أن ذلك قد يكون كافياً في حدِّ ذاته، بل، أيضاً، بجامع التَّناقض بين توفُّر عنصر الفدائيَّة لدى بعض المجموعات الإثنيَّة غير المستعربة/غير المسلمة في بلادنا، والتي تقاتل ضدَّ ما تعتبره استضعافاً لها، من جهة، وبين افتقار نفس هذه المجموعات، من جهة أخرى، إلى عنصر الوعي بذاتها على صعيد مكوِّنها الثَّقافي! وتأكيداً لهذه المفارقة، ما من أحد، بالغاً ما بلغت عداوته للحركة الشَّعبيَّة في الجَّنوب سابقاً، وفي جنوب كردفان وغيرها حاليَّاً، يمكن أن ينكر روح الفداء التي ظلت تتحلى بها هذه الحركة في حربها مع المركز. مع ذلك، عند بلوغها الاستقلال في الجَّنوب عام 2011م، وبدلاً من أن تعمل على تطوير إحدى اللغات المحليَّة لتصبح اللغة الرَّسميَّة للدَّولة الوليدة، لجأت لاعتماد الإنجليزيَّة على هذا الصَّعيد، مواصلة لمكابرة سياسيَّة قديمة ظلت تتمثَّل في الدَّفع الحثيث من جانب أقسام مختلفة من الإنتلجينسيا الجَّنوبيَّة نحو إقصاء العربيَّة التي هي، في المقام الأوَّل، لغة أفريقيَّة، مثلما ظلت تتمثَّل في الإصرار العنيد على تضمين الإنجليزيَّة في النُّصوص الدُّستوريَّة كلغة رسميَّة للجَّنوب، رغم أنها ليست لغة أفريقيَّة، دَعْ انحصار استخدامها بين أقليَّات النُّخب المتعلمة. كذلك جرى، في بعض سياقات هذا التَّخبُّط، اقتراح السَّواحيليَّة، أيضاً، كلغة للإقليم (Nile Mirror, Feb. 1974). وقد يجدر بنا أن نشير، هنا، إلى أنه لم يشذ عن تلك المكابرة سوى البرنامج الذي اختطه جوزيف قرنق، إبَّان توليه وزارة شئون الجَّنوب قبيل إعدامه (1969م 1971م)، حيث شرعت إدارته، بتأثير، ولا ريب، من برنامج الحزب الشِّيوعي الذي كان ضمن قيادته، في دراسة تبنِّى إحدى لغات الجَّنوب، كالدينكا الأوسع انتشاراً، لتكون لغة الإقليم القوميَّة. بل لعلَّ اللافت هنا، بوجه خاص، أن جوزيف قد جعل من تلك المهمَّة أولويَّة تسبق حتَّى التَّنقيب عن النَّفط الذي اعتبر استخراجه، في ظروف استمرار الحرب الأهليَّة، سبباً إضافيَّاً للتباعد بين الشَّمال والجَّنوب!
(2)
وفي تقرير خاص نُشر مؤخَّراً (موقع "نيلان" على الشبكة؛ 14 فبراير 2013م)، طرح أبراهام داليانق ثلاث مفارقات في غاية الأهميَّة حول تجليَّات هذه المعضلة اللغوية في دولة الجَّنوب الوليدة: المفارقة الأولى أن الإنجليزيَّة ما تزال بعيدة عن أن تكون اللغة الرَّسميَّة، لأسباب عملية ليس أقلها أن أغلبيَّة الرَّسميين تلقوا دراساتهم بالعربيَّة في الخرطوم. أمَّا المفارقة الثَّانية فهي أن العربيَّة ما تزال تمثِّل أداة التَّواصل اليوميَّة lingua franca بين مختلف المجموعات الإثنيَّة، رغم أن الشَّكل السَّائد منها، والذي يُعرف ب "عربي جوبا"، يمزج، بصورة شديدة الخصوصيَّة، بين العربيَّة العاميَّة وبين ألفاظ وتصاريف غير عربيَّة، لكن قدرة الجَّنوبيين على استخدام هذه اللغة تتفاوت من منطقة لأخرى، فعلى حين يستطيع الجَّميع، مثلاً، فهمها والتحدُّث بها في الولاية الاستوائيَّة الكبرى، لا تستطيع ذلك سوى القلة في ولاية البحيرات، ما يجعل الاستعانة باللغات المحليَّة، عن طريق الإعلام المسموع عبر محطات ال FM المتعدِّدة، ضرورة ملجئة. وأمَّا المفارقة الثالثة فهي أن نفس الدُّستور الانتقالي لسنة 2011م الذي فرض الإنجليزيَّة "لغة رسميَّة عاملة"، أوجب أيضاً احترام، وتطوير، وتعزيز هذه اللغات المحليَّة التي تتكلمها نحو 64 قبيلة.
هكذا يمثِّل الافتقار إلى لغة جامعة موحِّدة، فضلاً عن تفشِّي الأميَّة بأحد أعلى معدَّلاتها في العالم، واحداً من أكبر التَّحدِّيات الشَّاخصة في أفق التَّواصل عبر الإعلام المقروء بالذات، خصوصاً مع سكان الرِّيف.
من جهة أخرى تتَّخذ هذه المعضلة اللغويَّة أحد أبرز وجوه تجليَّاتها، في الدَّولة الوليدة أيضاً، على مستوى التعليم الجَّامعي. فمَن تلقوا تعليمهم العام بالعربيَّة في دولة الشَّمال الأم، قبل الانفصال، ثمَّ التحقوا، بعده، بجامعات الجَّنوب، يعانون الأمرَّين من التعلم بالإنجليزيَّة. وقد فسَّر أحد هؤلاء سبب رسوبهم في الامتحانات بأنَّهم، ببساطة، لا يستطيعون فهم الأسئلة! ووفقاً لراديو "مرايا إف إم" أضحت أجندة صراعات الطلاب تشمل حتَّى لغة التَّدريس، فخلال عشرة أيام فقط تمَّ تنظيم احتجاجين كبيرين على تلقي المحاضرات بالإنجليزيَّة في جامعتين مختلفتين! وفي ذلك، بالقطع، أثر من الإضعاف الممنهج الذي تعرَّضت، وتتعرَّض له الإنجليزيَّة، كلغة للعلم الحديث، ضمن تخبُّط السِّياسات الرَّسميَّة في الدولة السُّودانيَّة منذ انقلاب 1989م، مِمَّا يلقي على عاتق دولة الجَّنوب الوليدة بمهمَّة دعم وتعزيز مقدرات الطلاب، على الأقل في مستوى التَّعليم الجَّامعي، ورفع تأهيلهم لاستخدام الإنجليزيَّة كلغة للأكاديميا، باعتبار أن ذلك أضحى، منذ زمن بعيد، ولأسباب عدة، من ضرورات العصر؛ لكنه لا ينهض، إطلاقاً، كمبرِّر لإهدار قضيَّة تطوير اللغة المحليَّة، سواء في مستوى التَّواصل، أو الاستخدام الرَّسمي.
هنا تبرز أهميَّة العربيَّة؛ فعلى حين تثور، حاليَّاً، المشكلة الخاصَّة بلغة التَّعليم الجَّامعي في الجَّنوب، تكاد لا تنتطح عنزان على كون العربيَّة ما تزال تؤدِّي دورها في كلا الاتِّجاهين: لغة للتخاطب بين المختلفين الإثنيين في الشَّارع، وفي الجَّيش الشَّعبي، بصفة خاصة، منذ عهد قيادة جون قرنق، وحتى قيادة سلفا كير، حاليَّاً، ولغة، كذلك، للتفاعل الاجتماعي للطلاب أنفسهم، بل حتَّى لنشاطهم السِّياسي في الحرم الجَّامعي خارج قاعات المحاضرات.
وهكذا، في حين يبدو، على هذه الخلفيَّة المعقدة، أن الطريق ما يزال طويلاً أمام دولة الجَّنوب لتطوير لغة واحدة جامعة، إزاء ضرورات التنوُّع الإثني، ومهام إدماج العائدين من الشَّمال، فإن المرء ليدهش من المنهج العدمي الذي تهدر به نخبة الحركة الشَّعبيَّة الحاكمة اللغة العربيَّة، مع أنَّها اللغة الوحيدة المؤهَّلة، حاليَّاً، رغم الكثير من التَّعقيدات، ورغم عهود الصِّراعات المريرة، كي تكون، ليس، فقط، لغة التَّواصل الاجتماعي اليومي، بل ولغة المعاملات الرَّسميَّة، لينقلبوا يبحثون، بشقِّ الأنفس، عن لغة "أخرى" تجمع وتوحِّد أشتات التَّكوينات القوميَّة شديدة التَّنوُّع!
(3)
الوضع في جبال النوبا بجنوب كردفان لا يختلف كثيراً. وفي مبحثنا بعنوان "جبال النوبا الإنجليزيَّة"، المنشور منذ ما يربو على العقد، قبل أن يُعاد نشره كفصل ضمن كتابنا بعنوان "الآخر" الصَّادر عن "دار مدارك" عام 2004م، كنا قد نبَّهنا إلى خطورة نفس المنهج العدمي الذي تعاملت به الحركة الشَّعبية مع قضيَّة اللغة في مناطق سيطرتها بالجِّبال، عقب اتِّفاقها مع الحكومة، مطالع الألفيَّة، على وقف إطلاق النَّار واقتسام النُّفوذ في جنوب كردفان.
لقد كان المأمول، وقتها، أن تفتح ترتيبات السَّلام هناك طريقاً سالكا لبسطه على مستوى السُّودان كله، بما يحافظ على وحدة شعوبه، وسلامة أراضيه؛ أي أن يشكل سلام الجِّبال نموذجاً يحتذى في مناطق النِّزاعات السُّودانيَّة الأخرى، خصوصاً دارفور. غير أن الآيديولوجيَّة التي تبنَّتها الحركة لم تكن لتساعد على ذلك، حيث سعت، في ما يتَّصل باللغة مثلاً، للترويج، على أوسع نطاق في أوساط النوبا، للفكرة الزائفة حول أن الإنجليزيَّة هي لغة "التَّحرير!"، بينما العربيَّة هي لغة "الطغيان!"، أو القاطرة التي نقلت إليهم الشَّريعة الإسلاميَّة وسلطة الخرطوم! ولم تصعب على مراسل إحدى المحطات الأجنبيَّة ملاحظة أن تلك المشاعر العدائيَّة تجاه اللغة العربيَّة إنما تلخِّص الكثير من العداوات الثقافيَّة، والدِّينيَّة، والعرقيَّة، والسِّياسيَّة (موقع "بي بي سي"؛ 21 يوليو 2004م).
ونسبة لندرة من تلقوا تعليماً يمكنهم من تدريس الإنجليزيَّة هناك، بسبب الحرب الأهليَّة التي دارت رحاها، في تلك المناطق، لعشرات السنين، فقد اضطرت الحركة لاستيراد مدرِّسين من كينيا ويوغندا! وروى المراسل، في بعض تقاريره، أن التلاميذ والمدرِّسين بمدرسة كاودا أبلغوه بأنهم، في منطقتهم تلك، يتحدثون الإنجليزيَّة فقط؛ كما أكد له مرافقه جوما إبراهيم، المفتِّش بمدارس الجَّيش الشَّعبي، قائلاً: "نحن هنا نتحدث بالإنجليزيَّة فقط. غير مسموح للأطفال التَّحدُّث بالعربيَّة في المدرسة". ويستطرد المراسل في ملاحظته قائلاً إن تلك السِّياسة ليست، في حقيقتها، غير ردِّ فعل، أو تمظهر معكوس، لنظام آخر، حيث كان التَّحدُّث باللغات المحليَّة، على أيام هيمنة حكومات الخرطوم على الجنوب، ممنوعاً داخل المدارس؛ وكان المدرِّسون الشَّماليون يحضُّون التلاميذ على التَّحدُّث بالعربيَّة. لكنه ما يلبث أن يستدرك قائلاً إن ما يتمخض، مع ذلك، عن جهود تعميم الإنجليزيَّة مختلف، فعليَّاً، على أرض الواقع؛ ويدلل على ذلك بأنه، وهو يغادر المدرسة، مرَّ بفتيات يرددن أغنية، أثناء لعبهنَّ في الباحة، ولما سأل مرافقه جوما عن لغة تلك الأغنية أجابه الأخير بشيء من التَّردُّد: "نعم، كما ترى .. إنهنَّ ينشدن بالعربيَّة!" (المصدر).
هكذا تكذِّب معطيات الواقع ترويجات الآيديولوجيَّة! فالعربيَّة في جبال النوبا، كما في غيرها من المناطق، أوسع انتشاراً، وأعمق تأثيراً، من الدِّعاية الانفصاليَّة بالغاً ما بلغت من الكثافة والنشاط. وربَّما تكفي، على هذا الصعيد، ملاحظة المراسلين الأجانب أن الأوامر يجري تناقلها بين صفوف جيش الحركة باللغة .. العربيَّة! وأن عمال الإغاثة السُّودانيين الذين يديرون مشروعات للجمعيَّة الخيريَّة التَّابعة للكنيسة النرويجيَّة في كاودا يعقدون اجتماعاتهم المسائيَّة اليوميَّة بالإنجليزيَّة، بينما يتبادلون أحاديثهم خارج الاجتماعات .. بالعربيَّة! واعترف أحد ضبَّاط جيش الحركة بأنه يتحدَّث العربيَّة بطلاقة أكثر حتَّى من لغته الأصليَّة، وإن كان ذلك، كما قال، يشعره بالخزي (المصدر).
(4)
يجدر بالحركة الشَّعبيَّة، من موقعها في ريادة حركة الهامش، أن تعيد النظر في سياستها اللغويَّة بوجه عام، وفي سياستها إزاء العربيَّة على نحو خاص، فهي تتنكب الجَّادة بشأنها مرَّتين: مرَّة حين تتعاطى معها كجزء من مكونات البنية الفوقيَّة superstructure، كالأعراف، والتَّقاليد، والمعتقدات، والأمزجة، فتستهدفها بالكراهة والرَّفض، بينما هي ليست كذلك، ومرَّة أخرى حين تسعى، حتَّى وفق الافتراض، جدلاً، بأنها كذلك، إلى محوها وهدمها بالقرارات، والتَّعليمات، والأوامر!
العربيَّة هي اللغة الأفريقيَّة الوحيدة الأكثر تأهيلاً لأن تكون أداة تواصل بين مفردات أمَّة، كأمِّتنا، لم تعبُر طور التَّكوين، بعد، ولأن تضحى حامل ثقافة المشروع الدِّيموقراطي للوحدة المتنوِّعة في بلادنا، إذا تمَّ تخليصها مما شابها، تاريخيَّاً، وعلق بها، من عيوب الاستعلاء والتَّعصُّب البغيضين. وربَّما كان من دلائل تمام هذا التأهُّل أن العربيَّة ظلت تتفاعل، بتلقائيَّة وسلاسة، مع غيرها من اللغات الوطنيَّة في بلادنا، برغم أدواء السِّياسات الرَّسميَّة، فما انفكت تتشقق، شعبيَّاً، إلى لهجات عربيَّات كثر، كعربي أم درمان، وعربي جوبا، وغيرهما شرقاً وغرباً.
ولعل المفارقة تبدو جليَّة، هنا، حين نذكر كيف أن مانفستو الحركة الأوَّل (1983م) حمَّل الاستعمار وحده وزر "التَّفريق" بين أبناء الوطن الواحد "ليسود"! والمقصود من ذلك، بالطبع، ما سمى ب (السِّياسة الجَّنوبيَّة) التى استنَّتها الإدارة البريطانيَّة خلال الثلث الأوَّل من القرن العشرين، وأقامت هيكلها الأساسي على ترسانة من القوانين والإجراءات الرَّامية لاستبعاد المؤثِّرات الشَّماليَّة، وإعاقة التَّقارب بين شطري الوطن الواحد، آنذاك، كقانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م، وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م، واللذين قُصد منهما أن يصبح الجَّنوب، فضلاً عن جبال النوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، أرضاً أجنبيَّة بالنِّسبة للسُّوداني الشَّمالي، وإلى ذلك قانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م، وفرْض الإنجليزيَّة لغة رسميَّة للجَّنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّماليَّة على أهله، وابتعاث طلابه لإكمال تعليمهم في يوغندا، وما إلى ذلك.
على أن المفارقة ما تلبث أن تزداد جلاءً حين نذكر، أيضاً، أن الأمر لم يحتج، برغم كلِّ تلك السِّياسات وتطبيقاتها، طوال ما يقارب نصف القرن، إلى أكثر من إبداء حسن النيَّة، عن طريق الوعد بتلبية أشواق الجَّنوبيين للحكم الفيدرالي، كي يصوِّت نوَّابهم، في أوَّل برلمان، مع إعلان استقلال السُّودان .. الموحَّد!
***
Kamal Elgizouli [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.