الكشف عن المرشحين للفوز بجائزة الكرة الذهبية 2025    عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    المريخ يختار ملعب بنينا لمبارياته الافريقية    تجمع قدامي لاعبي المريخ يصدر بيانا مهما    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بيان من سلطة الطيران المدني بالسودان حول تعليق الرحلات الجوية بين السودان والإمارات    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية جديدة: "قبطي يخرج من بيته" "جريْس" : خسائرُ مُتراكمة .. بقلم: جمَال مُحمَّد إبراهيْم
نشر في سودانيل يوم 26 - 03 - 2013

عام 1972 هوَ عام حزني وأساي. . الشتاءُ القارسُ يَصلُح مشجباً أعلق عليهِ حسراتي.
كأنّ القدر قدْ رسمَ لي، يومَ انْ التحقت بوزارة الدبلوماسية ، أن يخرج من بابها الآخر، عمّي "جريس بُطرس". تقبع المآسي بين مساحات الخروج والدخول. ذلك يوم حزين، لا ولن يبرح الذاكرة .
أنْ يهلك دبلوماسيٌّ في بلدٍ أجنبي، وفي حادثٍ مروري، لممّا يثير الريّب، وعادة تسير الأمور على نهجٍ مختلف، إذ على وزارة الخارجية في البلد الذي وقع فيه الحادث، أن تبذل قصارى الجهود وفق الأعراف، في التثبّت أن الحادث محض ترتيب دبّرته الأقدار وليس لأحدٍ مصلحة ما في هلاك ذلك الدبلوماسي. القصّة التي سمعتها في وزارة الخارجية هنا في الخرطوم، أنّ السفارة السودانية أجرت كل اللازم للتحقّق مِن أنّ القدر، والقدر وحده هو الذي تسبب في الحادث، ولا أساس لما شاع في الوزارة من أن ثمّة شبهة جنائية حول جهة ما لها مصلحة في تصفية ذلك الدبلوماسي في السفارة السودانية، لسببٍ قد يتصل بفتور العلاقات بين موسكو والخرطوم ، إثر إنقلاب فاشل وقع في يوليو من عام 1971، زعمتْ مصادر صحفية أنّ مدبريه وجدوا دعماً من موسكو.
يقول التقرير الذي بعثتْ به السفارة إلى رئاسة الوزارة في الخرطوم:
(( . . إنّ الدّبلوماسي السوداني الأعزب "جريس بُطرس ميلاد"، كان في طريق عودته من أحد مسارح ضاحية "تفيرسكوي"، المنطقة التي يقع فيها مبنى السفارة السودانية في موسكو، وتأوي أيضاً عدداً من مساكن الدبلوماسيين العاملين فيها. "تفيرسكوي" هي الضاحية المميزة التي تحتضن مبنى "الدوما"، مقرّ البرلمان في العاصمة الروسيّة، كما تحتضن المسارح الشهيرة في موسكو. يقيم المستشار "جريس بطرس ميلاد" وحيداً في شقته، وكان يقود سيارته عائداً من مسرح "البولشوي"، حين وقع الحادث ولم يكن برفقته أحد، والطرقات كلّها مكسوّة بجليدٍ ثقيل، يصعب أن يقود أحدٌ سيارته فيه، إلا إذا كان متمرّساً على القيادة في مثل ذلك الطقس المخيف، ودرجة الحرارة تحت الصفر، أو إنْ كانت سيارته مزوّدة بإطارات شتوية تحمي السيارة من الانزلاق. ووفق تقرير الشرطة الروسية فإن "جريس"، القادم من بلاد لا تعرف الجليد، استسهل قيادة سيارته في ذلك الطقس المخيف، فانزلقت السيارة بعد أنْ فقد السيطرة عليها، إذ لم تكن مزوّدة بالإطارات الخاصة بمقاومة الجليد. ارتطمت السيارة بعمودين في الشارع العام، وانقلبت السيارة لأكثر من مرة.. حين هرَع المارّة وبعض من تصادف وجودهم تلك الساعة المتأخرة من الليل لنجدة من بالسيّارة، وجدوا "جريس بطرس ميلاد" جثة هامدة وقد فارق الحياة في التو، رأسه على مقود السيارة والدم النازف من أنفه غطَّى صدره. .))
أطلعوني في الإدارة القنصلية في الوزارة، على نسخةٍ من التقرير الرسمي ممهورةً بتوقيع القنصل العام في السفارة السودانية في موسكو.
ماتَ عمّي "جريس" ميْتة مأساوية سوداء، في مساحات بيضاء من ثلجٍ ومِن بردٍ ومِن صقيع، وكان صعباً عليّ أن أصدق رحيله عن دنيانا، وأنا أكثر الناس حاجة لنصحه، أكثرهم حاجة للإفادة من تجاربه الغنية في وزارة الخارجية السودانية التي حبّب إليّ العمل فيها، هوَ ولا أحد سِواه. لا أعرف كيفَ غلبَ غضبي عليّ، ولم يكن حزني مجرّد حزنٍ على فقدِ عزيز أو دمعة أذرفها عليه. كنتُ أحسّ أنّ ثمَّة من يتربّص بي. ثمّة من يخطط لقطع الطريق عليّ، وأنا أخطو خطواتي الأولى في وزارة الخارجية. خرج من مسرح "البولشوي" ليموت في ثلوج "موسكو"، فيما الممثلون في المسرحية التراجيدية، أحياءٌ يرزقون، فأيّ مسرح ينتظرني أنا في المنعطفات القادمة، والخسران يحيط بي ويحكم حصاره، مثلما يحكم قطاع الطرق محاصرة القوافل الغافلة؟
ثمّة مَن يتربّص بي في جانبٍ آخر ليسلبني سند عمّي "جريس"، وأنا أوثِّق علاقتي بصديقتي "زينب الشقيلي". كنتُ قد اعتمدتهُ عرّاباً لي، يتولاني وأنا أخطو نحو "زينب"، كما هوَ عرّابي وأنا أخطو إلى وزارة الخارجية، دبلوماسياً ناشئا. مكتبة عمّي كانت ملتقانا، ومهبط عشقنا، وانكشافاتنا العاطفية أنا و"زينب". شهودُ المحبة في تلك الأمسيات التي جمعتنا، كانت مجلداتٌ عمّي القديمة في أرفف مكتبته، نلامس أوراقها فتتورّد في اهترائها وتزهر، وهي بين أصابعي وأصابعها. تولتنا المخطوطات القديمة التي خلّفها جدّي "بطرس"، بحنوٍّ موثّق، وكدنا أنْ نكون جزءاً مكتوباً في أوراقها المصفرّة وبين أغلفتها العتيقة.
ألحقتْ السفارة السودانية في موسكو تقريرها، ببرقية تعزية وجّهوها إلى السكرتير الثالث الجديد "عزيز سمعان" ، ابن أخ المتوفي "جريس بطرس سمعان".
أينَ أنت يا جدّي. . كيف أعزّيك وكيف تعزّيني في رحيل حبيبك "جريس". .؟
كنتُ أنتظر عمّي في محطة فارقة.
وقفتُ على سبخةٍ متحرّكةٍ وقدمي تخونني. لم تفتح لي الدبلوماسية ذراعيها مُرحّبة بعد، فقد ولّى زمان تقلّد فيه أقباط من ملتي، مناصب الوزارة في الحكومة، فصار أملي معقوداً ببقاء عمّي دبلوماسياً فاعلاً في الوزارة الخطيرة. كنت أستلهم تطلعاتي من طموحه، ونظري إلى المستقبل، من نظرته. رحل بلا إنذار، وتركني أتقلّب على نارٍ من الوحشة والعزلة التي عشت عمري كله أتجنّبها، فيما قال لي حدسي أنها تنتظرني في مُنعطفٍ ما.
- طلب خليفة المهدي "عبد الله التعايشي" من الأقباط في "أم درمان" أن يختاروا أميراً عليهم ، تعتمده دولة المهدية، أواخر سنوات القرن التاسع عشر. .
ذلك ما حدّثني به عمّي عن تاريخ أسر الأقباط في "أم درمان".
- وهل فعلوا. . ؟ سألته أنا.
- أجل اختاروا واحداً من أقربائنا مِمّن عملوا في بيت خليفة المهدي. إسمه "يوسف ميخائيل" وسلّموه راية الأقباط !
كنتُ أنتظر عمّي في محطة فارقة. .
كنتُ أراه أميراً كبيراً من أمراء أقباط "المسَالمة"، غير أنّ الدولة ليست دولة المهدية التي انهارت تحت سنابك ومدافع الجنرال الغازي "كيتشنر" عام 1898. ها نحنُ بعد ستين عاماً يغادر البلاد المستعمرون، ونستظلّ بعهدِ حكمٍ وطني يتطلع لدورٍ كبير في البلاد وفي المنطقة. أما كان عمّي "جريس" أميراً في الدبلوماسية السودانية، مثلما تخيّلته. .؟ هل كان لزاماً أن يهلك مثلما يهلك في التمثيل لا في الحياة، أبطال المسرحيات التي درج على مشاهدتها في مسارح "موسكو" ؟
يتردّد قلبي قبل أن يخطو نحو "زينب الشقيلي"، ثمّ أنثني أسأل عن عمّي "جريس". التقيهِ فأسأله، وأنا على وشك إكمال آخر اختبارات الدخول إلى السّلك الدبلوماسي:
- هل ترى في ارتباطي بفتاةٍ مسلمة، ما يعزّز من فرص التحاقي بالدبلوماسية. .؟
يلاقى صمتُهُ حيرتي، لكنّهُ يقول لي وقد استجمع رأياً غلّفه بدبلوماسيةٍ تطبّع عليها:
- هذه مدينتنا "أم درمان". . نشأنا بين أحيائها أطفالاً، وكبرنا صبيانا. تنفّسنا هواء أزقتها، وتشرّبنا بروحها السَّمحة. لا تحدّثني عن وظيفةٍ تعزّز ثقةً تعوزك . لا. . ! أنتَ عزيزٌ بدونها. عزيزٌ كإسمك يا "عزيز". أهلك في "أم درمان" يعرفونك "عزيز" حفيد "بطرس سمعان". يعرفونك "عزيز"، حفيد "سِمعان" القناوي الكبير الذي نزح من "قنا" إلى السودان، قبل نحو مائة وخمسين عاما. يعرفون قريبك البعيد "يوسف ميخائيل"، أمير المسيحيين الأقباط في "أم درمان" على عهد الخليفة التعايشي، حتى انهيار الحكم المهدوي في عام 1898. كثيرون يضعون ثقتهم في أهلنا هنا. هذا وزير الزراعة "وديع حبشي"، قبطيٌّ لا ينكر عليه أحدٌ "سودانيته". في الستينيات تولّى منصب مدير الشّرطة قبطيٌّ آخر من آل "سِدرة". للرئيس جعفر نميري مستشار قانوني مسيحي اسمه "يوسف ميخائيل بخيت". يا "عزيز". . ليس لنا أهلٌ غير أهلنا هنا . هذا التراب ترابنا . .
تلك طريقته في الإجابة على تساؤلاتٍ تتولّد مِن حيرتي، يلامسَ خلفية اللوحة ويكتفي بإشارات التاريخ، فلا يرسم بفرشاته خطوط التفاصيل، بل يتركها تندلق بقعاً متداخلة. ما حدّثني أبداً برأيٍ قاطع حول نيّتي الارتباط ببنت آل "الشقيلي". تلّمس هوَ على طريقته، رأيَ أهلها، ولكن لم اسمع منه ما ثبّط همّتي، أو ما زاد حماسي للارتباط بأسرة "الشقيلي". كان يهتمّ بدخولي إلى وزارة الخارجية، أكثر من اهتمامه بدخولي على أسرة "الشقيلي". لكنه وعدني قبل سفره أن يفاتح صديقه "صِدّيق سلطان الشقيلي". هل فعل . . ؟ لست أدري. .
- أنت أوّل قِبطيٍّ يلتحق بوزارة الخارجية ، يا عمّي. .
- لا تتهيّب الدّخول إلى وزارة الخارجية. هذه وزارة جديدة فتيّة، وأنت مؤهّل وتمتلك ميزات تمثيل بلدك، بما لا يجيده آخرون من رفقائك في الجامعة. . أنت تحدّثني عن وزارة الخارجية وكأنك تنسى أن عمرها لم يتجاوز عقد ونيّف من الزمان !
أحكم ربطة عنقه ثم واصل حديثه آمراً:
- نحنُ نبني دبلوماسية للسودان جديدة، تعال بسهمك إليها . .
- قلبي يتبعك، ولكن عقلي يقف على مسافةٍ من قلبي. . !
كنتُ أنتظر عمّي في محطة فارقة. الدمعة حارقة على خسارتي فيه.
بكيتُ ولم يسعفني صبرٌ على فاجعةِ رحيله المُفاجئ.
جدّي "بطرس "، أيّها البعيد. . هل تسمع أنيني وهل تحسّ بحسراتي وخسارتي؟
جاءوا بالجثمان مُسجّى في صندوقٍ إلى الكنيسة، ما أتاح لنا رجالُ الصّحة المرافقون أن نفتحه لنلقي النظرة الأخيرة عليه. نظرتُ حولي، أقباط "أم درمان" جميعهم هنا، ونحن في قدّاس الوداع، فكأنّي في يُتمٍ مُطبق، ووحشةٍ وانعزال. وقف إلى جانبي صديقي "سليم شرقي". صديقي الآخر "ميلاد سيدهم" غاب في رحلة إلى جنوب السودان. بين الحضور في صحنِ الكنيسة، وقف من جيراننا رجالٌ كثيرون من أهلنا في الحيّ، بينهم نفرٌ من آل "حاج حامد" وآل "جوّاد" وآل "حسَّان" وآل "سلطان الشقيلي"، وآل "أنطون شرقي" تميّزهم جلابيبهم البيضاء وعمائمهم الملفوفة بإحكام فوق رؤوسهم. آل "كومار" وآل "نيان" وحدهم الأكثر تميّزاً يعتمرون عمائم "السّيخ" الشهيرة. شاركونا الوقوف للصلاة داخل الكنيسة، ولكنهم صامتون في حزنهم على فقيدنا "جريس". بعد انتهاء الصلاة سمعتُ هَمْهَمتهم : آمين ، آمين. لاحظت مثلما لاحظ كثيرون، في لحظات الحزن تلك، أنّ "صدِّيق سلطان الشقيلي" هو الوحيد الذي فضّل البقاء خارج صحن الكنيسة، ولم يشارك بالحضور في القدّاس.
في سرادق العزاء الذي نصبناه في قلب الشارع القديم في حيّ "المسالمة"، جاء الشيوخ والصبيان والنساء. جلس آل "سمعان" في قلب السّرادق، يتلقون العزاء. في "المسالمة"- حيّ المسيحيين- وفي "حيّ العمدة" وحيّ "الرِّكابية"، يعزّي المسلمون والهنود والمسيحيون بعضهم بعضا، في فقدِ أيّ عزيز لديهم. بعضهم رفع يده في عفوية صادقة يقرأ "الفاتحة"، فنرفع أيدينا ونتمتم. تتوحّد الدموع في سيمفونية البكاء، فالحزن هنا لا يُمايز بين دينٍ ودين، ولا بين عمامةٍ عربية أو عمامةٍ "سيخ" هندية، ولا بين سروال وجلباب. لاحظتُ زملاء الراحل وقد تدافعوا إلى السرادق. دبلوماسيون كبار في أزياء أنيقة وربطات عنق لامعة، لم أتعرّف بعد على أسمائهم، أو مسمّيات وظائفهم، أو حقيقة مهامهم، لكنهم بادروا إليّ معزّين، وقد تبيّنوا أنّي السكرتير الثالث الجديد، ابن أخ المرحوم "جريس بطرس سمعان" . قدمنا لهم الماء البارد وفناجيل القهوة المُرَّة.
سمعتُ واحداً منهم يهمس لزميله ويرمقني بعينٍ حزينة، ولكنّي تبيّنت بوضوحٍ عبارته:
- أيكون هوَ "القبطيّ" الوحيد والأخير في الوزارة، بعد فاجعة رحيلِ عمِّهِ . .؟
أجابهُ الآخر، وقد أبعدَ عينيه عنّي:
- ليتهُ لا يكون الأخير. ستختلّ فسيفساء الدبلوماسية السودانية ، أليسَ كذلك. . ؟
هل موتُ عمّي إيذانٌ بموت شيءٌ آخرٌ، لا أكاد أدرك كنهَهُ، في تلك اللحظة تحديداً؟
حرّك فيّ حديث الدبلوماسيين وتهامسهما، هواجسَ قديمة حول جذورنا. جذور أسرتي. هذا الذي يبحث عنه جدّي "سِمعان" القناوي، وقاده إلى السودان، هل تركه وراءه في "قِنا " في ديار مصر، دفيناً في جوف الصحراء مع آثار الفراعين الأوّل، أم تقصّاه عند ضفاف النيل، هنا في "الخرطوم" و"أم درمان" و"الخرطوم بحري". . ؟ الكنوز الدفينة لا تبحث عن مالكيها، ولكن التاريخ يُحدَّث عن سُرّاقٍ نهبوا ما لم يملكوه، والتاريخ ليس مهمته إصلاح الحال، أو تعويض الغافل عن غفلته. لن يكون للتاريخ دورٌ يشبه دور الشرطيّ أو دور الصيرفي. أتراني أكمِّل مسيرة أجدادي في بحثهم المضني عن ذلك الذي خلفوه وراءهم ولا يزال بعيد المنال . . ؟
قال لنا أستاذ التاريخ مرَّة : لا تنسوا أن "ترهاقا" جدّكم جميعا . .
ترى مَنْ يَرى بين أهرامات مروي وأهرامات الجيزة، نَسَباً وقرابة . . ؟ يحتشد تاريخي هكذا بين الآثار الملتبسة. . ب"البطارسة" و"السِّماعين". هُم أقباطٌ عرفوا النيل مأوىً لأحلامهم ولتطلعاتهم ولأقدارهم. . تماهوا مع تراب "أم درمان"، قبلَ أن يصير غباراً أو طينا، أو قيظاً لافحاً قاسياً لا يرحم. . الذي يبقيني هنا، شاخصاً إلى التاريخ، هو ذات الذي أجبر مفتش مدينة "أم درمان"، الإنجليزي مستر "برامبل"، لاستثناء جدّي "بطرس ميلاد" من الترحيل القسريّ مع بقية المصريين المغادرين إلى مصر، بعد حادثة اغتيال "السردار السير لي ستاك" في القاهرة عام 1924، وما جرَّته من وبالٍ على كل مصري أو من له جذور مصريّة ومقيم في بلاد السودان.
قال الخواجة "جورج برامبل"، وقد تراجع عن قراره :
- "بطرس" . . أرى جذرك الذي في السودان، أقوى من جذرك في مصر !
أجل. صدقَ الخواجة مع جدّي. الذي يبقيني مستمسكاً بجذوري هنا، هو حافزٌ تاريخيّ يشدّني إلى التراب. إلى وجه الحياة البشوش في مدينتي "أم درمان".
ذات يوم جمعة وأنا بين مخطوطات مكتبته، أنتظر أن تطلّ عليّ حبيبتي "زينب"، قال لي عمّي وقد كان يعدّ لسفره إلى "موسكو":
- هو التاريخ يقف إلى صفّك يا "عزيز" يا ابن أخي "سِمعان". .
خفقَ وجداني به خفقاً قويا. . لكن تواترتْ الصوّرُ إلى ذاكرتي، تقفز منها وإليها . رأيتُ "سِمعان" القناوي الكبير و"سيدهم" و"الشقيلي" و"حامد" و"شرقي أنطون"، يخرجون من "أسيوط" ومن "إسنا" ومن "قِنا" في صعيد مصر، في سنوات عجفاء بلون التراب. . تراب وادي النيل ومياهه المقدسة. عبروا قفاراً خالية من الحياة، إلى بلادٍ قادتهم إليها تطلعاتهم وأحلامهم. . وأيضاً أوهامهم. .
الخرطوم - مارس : 2013
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.