عضو المجلس السيادي د.نوارة أبو محمد محمد طاهر تلتقي رئيس الوزراء    كامل إدريس يقف على مجمل الأوضاع بمطارات السودان    معارك ضارية ب (بابنوسة) والدعم السريع تقترب من تحرير الفرقة 22    "وثائقي" صادم يكشف تورط الجيش في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين (فيديو)    السودان.. وفد يصل استاد الهلال في أمدرمان    مسؤول بهيئة النظافة يصدم مواطني الخرطوم    اللواء الركن (م) أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: التقديم الالكتروني (الموحّد) للتشكيل الوزاري    السودان.. كامل إدريس يعلن عن 22 وزارة    هل ستتأثر مصر في حال ضرب المفاعلات النووية؟    إيران تغرق إسرائيل بالصواريخ من الشمال إلى الجنوب    كامل إدريس وبيع "الحبال بلا بقر"    إنريكي: بوتافوجو يستحق الفوز بسبب ما فعله    "كاف" يعلن عن موعد جديد لانطلاق بطولتي دوري أبطال إفريقيا وكأس الاتحاد الإفريقي    عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية جديدة: "قبطي يخرج من بيته" "جريْس" : خسائرُ مُتراكمة .. بقلم: جمَال مُحمَّد إبراهيْم
نشر في سودانيل يوم 26 - 03 - 2013

عام 1972 هوَ عام حزني وأساي. . الشتاءُ القارسُ يَصلُح مشجباً أعلق عليهِ حسراتي.
كأنّ القدر قدْ رسمَ لي، يومَ انْ التحقت بوزارة الدبلوماسية ، أن يخرج من بابها الآخر، عمّي "جريس بُطرس". تقبع المآسي بين مساحات الخروج والدخول. ذلك يوم حزين، لا ولن يبرح الذاكرة .
أنْ يهلك دبلوماسيٌّ في بلدٍ أجنبي، وفي حادثٍ مروري، لممّا يثير الريّب، وعادة تسير الأمور على نهجٍ مختلف، إذ على وزارة الخارجية في البلد الذي وقع فيه الحادث، أن تبذل قصارى الجهود وفق الأعراف، في التثبّت أن الحادث محض ترتيب دبّرته الأقدار وليس لأحدٍ مصلحة ما في هلاك ذلك الدبلوماسي. القصّة التي سمعتها في وزارة الخارجية هنا في الخرطوم، أنّ السفارة السودانية أجرت كل اللازم للتحقّق مِن أنّ القدر، والقدر وحده هو الذي تسبب في الحادث، ولا أساس لما شاع في الوزارة من أن ثمّة شبهة جنائية حول جهة ما لها مصلحة في تصفية ذلك الدبلوماسي في السفارة السودانية، لسببٍ قد يتصل بفتور العلاقات بين موسكو والخرطوم ، إثر إنقلاب فاشل وقع في يوليو من عام 1971، زعمتْ مصادر صحفية أنّ مدبريه وجدوا دعماً من موسكو.
يقول التقرير الذي بعثتْ به السفارة إلى رئاسة الوزارة في الخرطوم:
(( . . إنّ الدّبلوماسي السوداني الأعزب "جريس بُطرس ميلاد"، كان في طريق عودته من أحد مسارح ضاحية "تفيرسكوي"، المنطقة التي يقع فيها مبنى السفارة السودانية في موسكو، وتأوي أيضاً عدداً من مساكن الدبلوماسيين العاملين فيها. "تفيرسكوي" هي الضاحية المميزة التي تحتضن مبنى "الدوما"، مقرّ البرلمان في العاصمة الروسيّة، كما تحتضن المسارح الشهيرة في موسكو. يقيم المستشار "جريس بطرس ميلاد" وحيداً في شقته، وكان يقود سيارته عائداً من مسرح "البولشوي"، حين وقع الحادث ولم يكن برفقته أحد، والطرقات كلّها مكسوّة بجليدٍ ثقيل، يصعب أن يقود أحدٌ سيارته فيه، إلا إذا كان متمرّساً على القيادة في مثل ذلك الطقس المخيف، ودرجة الحرارة تحت الصفر، أو إنْ كانت سيارته مزوّدة بإطارات شتوية تحمي السيارة من الانزلاق. ووفق تقرير الشرطة الروسية فإن "جريس"، القادم من بلاد لا تعرف الجليد، استسهل قيادة سيارته في ذلك الطقس المخيف، فانزلقت السيارة بعد أنْ فقد السيطرة عليها، إذ لم تكن مزوّدة بالإطارات الخاصة بمقاومة الجليد. ارتطمت السيارة بعمودين في الشارع العام، وانقلبت السيارة لأكثر من مرة.. حين هرَع المارّة وبعض من تصادف وجودهم تلك الساعة المتأخرة من الليل لنجدة من بالسيّارة، وجدوا "جريس بطرس ميلاد" جثة هامدة وقد فارق الحياة في التو، رأسه على مقود السيارة والدم النازف من أنفه غطَّى صدره. .))
أطلعوني في الإدارة القنصلية في الوزارة، على نسخةٍ من التقرير الرسمي ممهورةً بتوقيع القنصل العام في السفارة السودانية في موسكو.
ماتَ عمّي "جريس" ميْتة مأساوية سوداء، في مساحات بيضاء من ثلجٍ ومِن بردٍ ومِن صقيع، وكان صعباً عليّ أن أصدق رحيله عن دنيانا، وأنا أكثر الناس حاجة لنصحه، أكثرهم حاجة للإفادة من تجاربه الغنية في وزارة الخارجية السودانية التي حبّب إليّ العمل فيها، هوَ ولا أحد سِواه. لا أعرف كيفَ غلبَ غضبي عليّ، ولم يكن حزني مجرّد حزنٍ على فقدِ عزيز أو دمعة أذرفها عليه. كنتُ أحسّ أنّ ثمَّة من يتربّص بي. ثمّة من يخطط لقطع الطريق عليّ، وأنا أخطو خطواتي الأولى في وزارة الخارجية. خرج من مسرح "البولشوي" ليموت في ثلوج "موسكو"، فيما الممثلون في المسرحية التراجيدية، أحياءٌ يرزقون، فأيّ مسرح ينتظرني أنا في المنعطفات القادمة، والخسران يحيط بي ويحكم حصاره، مثلما يحكم قطاع الطرق محاصرة القوافل الغافلة؟
ثمّة مَن يتربّص بي في جانبٍ آخر ليسلبني سند عمّي "جريس"، وأنا أوثِّق علاقتي بصديقتي "زينب الشقيلي". كنتُ قد اعتمدتهُ عرّاباً لي، يتولاني وأنا أخطو نحو "زينب"، كما هوَ عرّابي وأنا أخطو إلى وزارة الخارجية، دبلوماسياً ناشئا. مكتبة عمّي كانت ملتقانا، ومهبط عشقنا، وانكشافاتنا العاطفية أنا و"زينب". شهودُ المحبة في تلك الأمسيات التي جمعتنا، كانت مجلداتٌ عمّي القديمة في أرفف مكتبته، نلامس أوراقها فتتورّد في اهترائها وتزهر، وهي بين أصابعي وأصابعها. تولتنا المخطوطات القديمة التي خلّفها جدّي "بطرس"، بحنوٍّ موثّق، وكدنا أنْ نكون جزءاً مكتوباً في أوراقها المصفرّة وبين أغلفتها العتيقة.
ألحقتْ السفارة السودانية في موسكو تقريرها، ببرقية تعزية وجّهوها إلى السكرتير الثالث الجديد "عزيز سمعان" ، ابن أخ المتوفي "جريس بطرس سمعان".
أينَ أنت يا جدّي. . كيف أعزّيك وكيف تعزّيني في رحيل حبيبك "جريس". .؟
كنتُ أنتظر عمّي في محطة فارقة.
وقفتُ على سبخةٍ متحرّكةٍ وقدمي تخونني. لم تفتح لي الدبلوماسية ذراعيها مُرحّبة بعد، فقد ولّى زمان تقلّد فيه أقباط من ملتي، مناصب الوزارة في الحكومة، فصار أملي معقوداً ببقاء عمّي دبلوماسياً فاعلاً في الوزارة الخطيرة. كنت أستلهم تطلعاتي من طموحه، ونظري إلى المستقبل، من نظرته. رحل بلا إنذار، وتركني أتقلّب على نارٍ من الوحشة والعزلة التي عشت عمري كله أتجنّبها، فيما قال لي حدسي أنها تنتظرني في مُنعطفٍ ما.
- طلب خليفة المهدي "عبد الله التعايشي" من الأقباط في "أم درمان" أن يختاروا أميراً عليهم ، تعتمده دولة المهدية، أواخر سنوات القرن التاسع عشر. .
ذلك ما حدّثني به عمّي عن تاريخ أسر الأقباط في "أم درمان".
- وهل فعلوا. . ؟ سألته أنا.
- أجل اختاروا واحداً من أقربائنا مِمّن عملوا في بيت خليفة المهدي. إسمه "يوسف ميخائيل" وسلّموه راية الأقباط !
كنتُ أنتظر عمّي في محطة فارقة. .
كنتُ أراه أميراً كبيراً من أمراء أقباط "المسَالمة"، غير أنّ الدولة ليست دولة المهدية التي انهارت تحت سنابك ومدافع الجنرال الغازي "كيتشنر" عام 1898. ها نحنُ بعد ستين عاماً يغادر البلاد المستعمرون، ونستظلّ بعهدِ حكمٍ وطني يتطلع لدورٍ كبير في البلاد وفي المنطقة. أما كان عمّي "جريس" أميراً في الدبلوماسية السودانية، مثلما تخيّلته. .؟ هل كان لزاماً أن يهلك مثلما يهلك في التمثيل لا في الحياة، أبطال المسرحيات التي درج على مشاهدتها في مسارح "موسكو" ؟
يتردّد قلبي قبل أن يخطو نحو "زينب الشقيلي"، ثمّ أنثني أسأل عن عمّي "جريس". التقيهِ فأسأله، وأنا على وشك إكمال آخر اختبارات الدخول إلى السّلك الدبلوماسي:
- هل ترى في ارتباطي بفتاةٍ مسلمة، ما يعزّز من فرص التحاقي بالدبلوماسية. .؟
يلاقى صمتُهُ حيرتي، لكنّهُ يقول لي وقد استجمع رأياً غلّفه بدبلوماسيةٍ تطبّع عليها:
- هذه مدينتنا "أم درمان". . نشأنا بين أحيائها أطفالاً، وكبرنا صبيانا. تنفّسنا هواء أزقتها، وتشرّبنا بروحها السَّمحة. لا تحدّثني عن وظيفةٍ تعزّز ثقةً تعوزك . لا. . ! أنتَ عزيزٌ بدونها. عزيزٌ كإسمك يا "عزيز". أهلك في "أم درمان" يعرفونك "عزيز" حفيد "بطرس سمعان". يعرفونك "عزيز"، حفيد "سِمعان" القناوي الكبير الذي نزح من "قنا" إلى السودان، قبل نحو مائة وخمسين عاما. يعرفون قريبك البعيد "يوسف ميخائيل"، أمير المسيحيين الأقباط في "أم درمان" على عهد الخليفة التعايشي، حتى انهيار الحكم المهدوي في عام 1898. كثيرون يضعون ثقتهم في أهلنا هنا. هذا وزير الزراعة "وديع حبشي"، قبطيٌّ لا ينكر عليه أحدٌ "سودانيته". في الستينيات تولّى منصب مدير الشّرطة قبطيٌّ آخر من آل "سِدرة". للرئيس جعفر نميري مستشار قانوني مسيحي اسمه "يوسف ميخائيل بخيت". يا "عزيز". . ليس لنا أهلٌ غير أهلنا هنا . هذا التراب ترابنا . .
تلك طريقته في الإجابة على تساؤلاتٍ تتولّد مِن حيرتي، يلامسَ خلفية اللوحة ويكتفي بإشارات التاريخ، فلا يرسم بفرشاته خطوط التفاصيل، بل يتركها تندلق بقعاً متداخلة. ما حدّثني أبداً برأيٍ قاطع حول نيّتي الارتباط ببنت آل "الشقيلي". تلّمس هوَ على طريقته، رأيَ أهلها، ولكن لم اسمع منه ما ثبّط همّتي، أو ما زاد حماسي للارتباط بأسرة "الشقيلي". كان يهتمّ بدخولي إلى وزارة الخارجية، أكثر من اهتمامه بدخولي على أسرة "الشقيلي". لكنه وعدني قبل سفره أن يفاتح صديقه "صِدّيق سلطان الشقيلي". هل فعل . . ؟ لست أدري. .
- أنت أوّل قِبطيٍّ يلتحق بوزارة الخارجية ، يا عمّي. .
- لا تتهيّب الدّخول إلى وزارة الخارجية. هذه وزارة جديدة فتيّة، وأنت مؤهّل وتمتلك ميزات تمثيل بلدك، بما لا يجيده آخرون من رفقائك في الجامعة. . أنت تحدّثني عن وزارة الخارجية وكأنك تنسى أن عمرها لم يتجاوز عقد ونيّف من الزمان !
أحكم ربطة عنقه ثم واصل حديثه آمراً:
- نحنُ نبني دبلوماسية للسودان جديدة، تعال بسهمك إليها . .
- قلبي يتبعك، ولكن عقلي يقف على مسافةٍ من قلبي. . !
كنتُ أنتظر عمّي في محطة فارقة. الدمعة حارقة على خسارتي فيه.
بكيتُ ولم يسعفني صبرٌ على فاجعةِ رحيله المُفاجئ.
جدّي "بطرس "، أيّها البعيد. . هل تسمع أنيني وهل تحسّ بحسراتي وخسارتي؟
جاءوا بالجثمان مُسجّى في صندوقٍ إلى الكنيسة، ما أتاح لنا رجالُ الصّحة المرافقون أن نفتحه لنلقي النظرة الأخيرة عليه. نظرتُ حولي، أقباط "أم درمان" جميعهم هنا، ونحن في قدّاس الوداع، فكأنّي في يُتمٍ مُطبق، ووحشةٍ وانعزال. وقف إلى جانبي صديقي "سليم شرقي". صديقي الآخر "ميلاد سيدهم" غاب في رحلة إلى جنوب السودان. بين الحضور في صحنِ الكنيسة، وقف من جيراننا رجالٌ كثيرون من أهلنا في الحيّ، بينهم نفرٌ من آل "حاج حامد" وآل "جوّاد" وآل "حسَّان" وآل "سلطان الشقيلي"، وآل "أنطون شرقي" تميّزهم جلابيبهم البيضاء وعمائمهم الملفوفة بإحكام فوق رؤوسهم. آل "كومار" وآل "نيان" وحدهم الأكثر تميّزاً يعتمرون عمائم "السّيخ" الشهيرة. شاركونا الوقوف للصلاة داخل الكنيسة، ولكنهم صامتون في حزنهم على فقيدنا "جريس". بعد انتهاء الصلاة سمعتُ هَمْهَمتهم : آمين ، آمين. لاحظت مثلما لاحظ كثيرون، في لحظات الحزن تلك، أنّ "صدِّيق سلطان الشقيلي" هو الوحيد الذي فضّل البقاء خارج صحن الكنيسة، ولم يشارك بالحضور في القدّاس.
في سرادق العزاء الذي نصبناه في قلب الشارع القديم في حيّ "المسالمة"، جاء الشيوخ والصبيان والنساء. جلس آل "سمعان" في قلب السّرادق، يتلقون العزاء. في "المسالمة"- حيّ المسيحيين- وفي "حيّ العمدة" وحيّ "الرِّكابية"، يعزّي المسلمون والهنود والمسيحيون بعضهم بعضا، في فقدِ أيّ عزيز لديهم. بعضهم رفع يده في عفوية صادقة يقرأ "الفاتحة"، فنرفع أيدينا ونتمتم. تتوحّد الدموع في سيمفونية البكاء، فالحزن هنا لا يُمايز بين دينٍ ودين، ولا بين عمامةٍ عربية أو عمامةٍ "سيخ" هندية، ولا بين سروال وجلباب. لاحظتُ زملاء الراحل وقد تدافعوا إلى السرادق. دبلوماسيون كبار في أزياء أنيقة وربطات عنق لامعة، لم أتعرّف بعد على أسمائهم، أو مسمّيات وظائفهم، أو حقيقة مهامهم، لكنهم بادروا إليّ معزّين، وقد تبيّنوا أنّي السكرتير الثالث الجديد، ابن أخ المرحوم "جريس بطرس سمعان" . قدمنا لهم الماء البارد وفناجيل القهوة المُرَّة.
سمعتُ واحداً منهم يهمس لزميله ويرمقني بعينٍ حزينة، ولكنّي تبيّنت بوضوحٍ عبارته:
- أيكون هوَ "القبطيّ" الوحيد والأخير في الوزارة، بعد فاجعة رحيلِ عمِّهِ . .؟
أجابهُ الآخر، وقد أبعدَ عينيه عنّي:
- ليتهُ لا يكون الأخير. ستختلّ فسيفساء الدبلوماسية السودانية ، أليسَ كذلك. . ؟
هل موتُ عمّي إيذانٌ بموت شيءٌ آخرٌ، لا أكاد أدرك كنهَهُ، في تلك اللحظة تحديداً؟
حرّك فيّ حديث الدبلوماسيين وتهامسهما، هواجسَ قديمة حول جذورنا. جذور أسرتي. هذا الذي يبحث عنه جدّي "سِمعان" القناوي، وقاده إلى السودان، هل تركه وراءه في "قِنا " في ديار مصر، دفيناً في جوف الصحراء مع آثار الفراعين الأوّل، أم تقصّاه عند ضفاف النيل، هنا في "الخرطوم" و"أم درمان" و"الخرطوم بحري". . ؟ الكنوز الدفينة لا تبحث عن مالكيها، ولكن التاريخ يُحدَّث عن سُرّاقٍ نهبوا ما لم يملكوه، والتاريخ ليس مهمته إصلاح الحال، أو تعويض الغافل عن غفلته. لن يكون للتاريخ دورٌ يشبه دور الشرطيّ أو دور الصيرفي. أتراني أكمِّل مسيرة أجدادي في بحثهم المضني عن ذلك الذي خلفوه وراءهم ولا يزال بعيد المنال . . ؟
قال لنا أستاذ التاريخ مرَّة : لا تنسوا أن "ترهاقا" جدّكم جميعا . .
ترى مَنْ يَرى بين أهرامات مروي وأهرامات الجيزة، نَسَباً وقرابة . . ؟ يحتشد تاريخي هكذا بين الآثار الملتبسة. . ب"البطارسة" و"السِّماعين". هُم أقباطٌ عرفوا النيل مأوىً لأحلامهم ولتطلعاتهم ولأقدارهم. . تماهوا مع تراب "أم درمان"، قبلَ أن يصير غباراً أو طينا، أو قيظاً لافحاً قاسياً لا يرحم. . الذي يبقيني هنا، شاخصاً إلى التاريخ، هو ذات الذي أجبر مفتش مدينة "أم درمان"، الإنجليزي مستر "برامبل"، لاستثناء جدّي "بطرس ميلاد" من الترحيل القسريّ مع بقية المصريين المغادرين إلى مصر، بعد حادثة اغتيال "السردار السير لي ستاك" في القاهرة عام 1924، وما جرَّته من وبالٍ على كل مصري أو من له جذور مصريّة ومقيم في بلاد السودان.
قال الخواجة "جورج برامبل"، وقد تراجع عن قراره :
- "بطرس" . . أرى جذرك الذي في السودان، أقوى من جذرك في مصر !
أجل. صدقَ الخواجة مع جدّي. الذي يبقيني مستمسكاً بجذوري هنا، هو حافزٌ تاريخيّ يشدّني إلى التراب. إلى وجه الحياة البشوش في مدينتي "أم درمان".
ذات يوم جمعة وأنا بين مخطوطات مكتبته، أنتظر أن تطلّ عليّ حبيبتي "زينب"، قال لي عمّي وقد كان يعدّ لسفره إلى "موسكو":
- هو التاريخ يقف إلى صفّك يا "عزيز" يا ابن أخي "سِمعان". .
خفقَ وجداني به خفقاً قويا. . لكن تواترتْ الصوّرُ إلى ذاكرتي، تقفز منها وإليها . رأيتُ "سِمعان" القناوي الكبير و"سيدهم" و"الشقيلي" و"حامد" و"شرقي أنطون"، يخرجون من "أسيوط" ومن "إسنا" ومن "قِنا" في صعيد مصر، في سنوات عجفاء بلون التراب. . تراب وادي النيل ومياهه المقدسة. عبروا قفاراً خالية من الحياة، إلى بلادٍ قادتهم إليها تطلعاتهم وأحلامهم. . وأيضاً أوهامهم. .
الخرطوم - مارس : 2013
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.