يقول المثل السوداني: "يتعلم الحلاقة في رؤوس اليتامى"، يُقال لمن يُولى، أو يتولى، أمرا فيخبط فيه خبط عشواء، يُصيب أحيانا ويُخطئ في غالب الأحيان، غير آبه لما يُسببه ذلك للآخرين من مضار.ويقول المثل التونسي – وهو الأصح لالتزامه بالقافية – "يتعلم الحِجامة في رأس اليتامى". والحِجامة هي عموم ما يقوم به "حلاق الصحة" في الأيام الخوالي من حلاقة وتزيين وحجامة وختان "للذكور" وعلاج للناس والدواب. كانت ليلى بن على "حجّامة" قبل أن يتزوجها الرئيس التونسي السابق، فخرجت من صالون تصفيف الشعر إلى قصر قرطاج، سيدة تونس الأولى، ثم صاحِبَتها والمتصرفة في شؤونها وثرواتها، هي وأسرتها الممتدة، إلى أن أودت بحكم الرئيس الهرم إلى التهلكة، وعصفت باستقرار تونس الخضراء الظاهري إلى الأبد، أو إلى حين، إن أراد الله بشعب تونس خيرا. في أيام القبضة الأمنية الخانقة لنظام بن علي، سأل مُقدم برنامج الأطفال في التلفزة التونسية الصغيرات في الاستوديو ماذا يُردن أن يُصبحن حين يكبرن. قالت طفلة: "أوَلِّي (أصبح) دكتورة"؛ وقالت أخرى: "أوَلِّي مهندسة"؛ وقالت ثالثة" "أولِّي مديرة بنك". أما الرابعة فقد قالت في ثقة: "أوَلّي حجّامة!" ورغم المحاذير، لم يتمالك مُقدِّم البرنامج نفسه، فقال دون أن يتدبر:"تولّي حجّامة وباش تعرِّسي الرئيس!" فاختفى من الشاشة الصغيرة ومن ظهر الدنيا! قبل أيام، طافت قوات من الشرطة العسكرية شوارع الخرطوم، تُطارد الشبابّ ذوي الشعر الطويل أو الكث، وتُمسك بهم وتحلق شعرهم في قارعة الطريق. وقبل ذلك، ولأكثر من نصف قرن من الزمان، ظلت مُعظم الأنظمة العربية (والأفريقية) تُطاردنا وتتعلم الحلاقة في رؤوسنا، نحن اليتامى، لا تأبه إن امتدت الحلاقة إلى تسبيب الكدمات والجروح، أو إن أصبحت جزا للشعر والأرزاق والأعناق! تعلم القذافي الحلاقة (والفلسفة والشطط) في رؤوس الليبيين لأكثر من أربعة عقود، ولم يتعلم شيئا حتى لقي حتفه، وحيدا مشوش الفكر(كما كان دائما رغم حارساته، وكتبه الخضراء، ونظريته الثالثة وهرطقته في ما يعلم وما لا يعلم) في مصرف لمياه الأمطار: أمّم المساكن الخاصة وعجز عن إدارتها في حين كان يستطيع بناء مسكن لكل ليبي وليبية؛ وألغى التجارة فشكت ليبيا الغنية من نقص السلع؛ وألغى اللغة الإنجليزية وحرق كتبها ثم أعادها بعد أن تسبب قراره في ضرر يصعب اصلاحه؛ وأهدر ثروات ليبيا في بناء النهر العظيم دون تدبر لفوائده ومضاره؛ وخرج على قواعد اللعبة الدولية برعاية أعمال التخريب والإرهاب حتى أجبر على دفع تعويضات هائلة عن يدً وهو صاغر؛ وشتم الشعب الليبي واحتقره حتى دفعه لحمل السلاح؛ وبعثر الجهود والأموال والنوايا الحسنة في زعزعة الأنظمة القريبة والبعيدة وبيته من زجاج هش؛ وفوق كل ذلك، هدم اسس أنظمة الحكم والإدارة والاقتصاد ليظل متفردا بكل صغيرة وكبيرة؛ ثم ضاف الإهانة للأذى بانكار أنه الحاكم الآمر وادعاء أنه قائد للثورة ومفكر أممي! وفي افريقيا الوسطى، قفز عسكري نصف أمّي غريب الأطوار من بقايا الحرب الفرنسية في "لهند الصينية" على كرسي الرئاسة وما لبث أن توّج نفسه إمبراطورا (بمبالغ طائلة في بلد يفتقد لأبسط الخدمات الأساسية) وطفق يتعلم الحلاقة في رؤوس شعبها اليتيم (بمساعدة فرنسا)، حتى طورد كالكلب الضال تاركا وراءه في قصره الامبراطوري بقايا أعضاء بشرية قيل أنه كان يأكلها لتمنحه قوى خارقة، (وما أراها أفادته بشئ!)، وتاركا وراءه تدخل أزمة إثر أزمة حتى يوم التاس هذا. وفي يوغندا، جوهرة أفريقيا، قفز إيدي أمين، وهو عسكري نصف أمّي آخر من بقايا الجيش البريطاني، على كرسي الحكم، وتعلم حلاقة خشنة في رؤوس شعبه اليتيم، ثم تركه نهبا للفقر والفوضى وحروب أهلية لا زالت تستعر، ولجأ إلى السعودية حتى مات فيها نسياً منسيا بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس بشططه وغلوائه. وقد تعلمت أنظمة عسكرية ومدنية عديدة في بلدان أفريقية أخرى الحلاقة في رؤوس شعوبها، وتركت وراءها تركة مثقلة وقنابل موقوتة تتفجر كل حين وآخر. وفي العراق، تعلم صدام حسين الحلاقة في رؤوس العراقيين بسيف حاد أهرق دماء العراقيين وغيرهم. بنى العراق بفضل عائدات النفط،، ثم هدمه (إلى الأبد فيما يبدو) بفضل حكم الفرد المطلق الذي لا يأتيه الباطل، ولا يسمح بالرأي المخالف. ثم مضى إلى ملاقاة ربه بعد أن أذله الأمريكان شر ذلة بعد عز تليد. ثم تعلم "بريمر" ورهطه الأمريكان، حلاقة باهظة الثمن في رؤوس العراقيين حتى اكتشفوا أنهم أخرجوا مارد الانقسامات الطائفية والأثنية والجهوية، ومارد الفساد والعنف الذي ظل مكبوتا لقرون، من القمقم. ولما فشلوا في إرجاعه في قمقمه، لاذوا بالفرار من العراق تحت مسميات شتى، تاركين العراقيين لمصيرهم. وفي السودان، لا يزال نظام "الانقاذ" يتعلم الحلاقة في رؤوس السودانيين، مستخدما سيف التمكين وسيف الهندسة الاجتماعية (التي فشل فيها من قبله كثيرون)، وسيف "البروباقاندا". زعم أن مشروعه هو "إعادة صياغة الإنسان السوداني"، فنجح فقط في تفكيكه وتفكيك بلاده ببتر جنوب السودان، واشعال الحرائق في غرب وجنوب وشرق ما تبقى منه، وانهاك وسطه بالفساد، وسوء الإدارة، والتخبط، وذبذبة المواقف والسياسات، وغياب الرؤية، واضمحلال الدولة، وبالقمع. في تعليق يائس على خبر قيام الشرطة العسكرية بمطاردة الشباب في شوارع الخرطوم وحلق شعرهم، تساءل صديق لي: ماذا نقول؟ نعيماً؟! (إيلاف والراية القطرية27 مارس)