مثل قرار الرئيس السوداني عمر البشير بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في مطلع أبريل 2013 محاولة لاحتواء المعارضة السياسية، ومنع توسيع رقعة التظاهرات في هذا البلد الذي لا يزال يعاني إشكاليات مزمنة منذ انفصال الجنوب عنه. وفي الوقت الذي دعا فيه البشير – إبان خطابه أمام الهيئة التشريعية "البرلمان" – إلى التوافق والتراضي حول دستور البلاد، فإن المعارضة ترى أن هذه الخطوات ما هي إلا محاولة لكسب وقت لتفادى ثورة شعبية قادمة لا محالة. ووسط هذه التجاذبات السياسية والمأزق المتبادل لكل من الحكومة والمعارضة، بات من المهم محاولة فهم طبيعة تحركات النظام الحاكم في الخرطوم تجاه المعارضة. لماذا تراجع البشير؟ يمكن القول إن محاولة احتواء نظام البشير للمعارضة جاءت على خلفية تحركات للأخيرة لتوسيع رقعة الاحتجاجات ضد النظام، بغية إسقاطه، وإنهاء حكم حزب المؤتمر الوطني للسلطة، أو الوصول إلى تسوية سياسية تمهد الطريق نحو تشكيل حكومة انتقالية قومية بمشاركة الجميع على قدم المساواة.ومن أجل كسب تأييد أوسع، دعت المعارضة إلى إنهاء الحرب، وحل الأزمة في كل من دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، والدعوة إلى مؤتمر دستوري، يشارك فيه كل أهل السودان دون تمييز. وفى هذا الإطار، وقعت أطراف المعارضة وثيقة الفجر الجديد في كمبالا في يناير 2013. وقد تضمنت بنود هذه الوثيقة تأكيد عدة أمور، من أبرزها الإطاحة بالنظام في الخرطوم عبر العمل المسلح، وتكوين حكومة انتقالية مدتها أربع سنوات، والاحتكام إلى نظام علماني لا ديني يفصل الدين عن الدولة، وحل القوات المسلحة السودانية، وتشكيل جيش قومي، وتقسيم السودان إلى ثمانية أقاليم، وفصل جبال النوبة عن كردفان. بيد أن تبني الوثيقة للعمل المسلح، بجانب العمل المدني الاحتجاجي لإسقاط النظام، دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات ضد الموقعين. في الوقت نفسه، تنصلت بعض الأحزاب السودانية الموقعة من تلك الوثيقة بحجة أنها لم تطلع على نصها.ونص ميثاق الفجر الجديد على مجموعة واسعة وعريضة من القضايا والموضوعات، التي تمثل جوهر الإشكاليات المحيطة بالسودان، وأزماته المتعددة سياسيا، وجغرافياً، واجتماعيا، وثقافيا، وإثنيا. وبجانب العمل المسلح، شددت الوثيقة واعتمدت آليات وأدوات العمل السلمي المدني، وذلك حتى تتحول الوثيقة إلى تيار عام شعبي تلتف حوله الجماهير من القوى المختلفة من جميع أنحاء السودان.لكن الوثيقة أثارت جدلا واسعا، كما أحدثت حراكا سياسيا حتى بين قوى المعارضة، وكشفت عن مدى تباين هذه القوى فيما بينها، حيث توزعت ردود الأفعال بين الرفض الكامل أو القبول الجزئي. معالجات النظام للأزمة: وفي مواجهة تحركات المعارضة، عمل نظام البشير على تكتيكات تقليدية عن طريق شق صفوف المعارضة، وتشتيتها، حيث حاول الحزب الحاكم إبرام اتفاقيات منفصلة مع كل طرف على حدة، سواء القوى السياسية، أو الحركات المسلحة، لكنه لم يتمكن من إحداث اختراق حقيقي لدى فصائل مهمة من أطراف المعارضة السودانية. كما أن المعارضة رفضت المبادرة التى أطلقها مساعد الرئيس الدكتور نافع على نافع، حيث عدت مبادرة بلا مضمون، وإحدى حلقات المناورة السياسية التى يتبعها النظام فى لحظات الحرج.فإصرار من المعارضة على أن يتضمن الحوار إلغاء للنظام الشمولي، ونهاية لسلطة الحزب الواحد، واستعادة أجهزة الدولة، ومؤسسات الخدمة المدنية التي استغلها الحزب الحاكم ووظفها لمصلحته ومصلحة المقربين منه، وكذلك إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وإطلاق سراح المعتقلين فى جميع المعتقلات، ووقف الحرب، وحل الأزمة السياسية فى المناطق الثلاث: دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، كخطوات أولية قبل بدء الحوار.. كل ذلك مثل عائقا أمام إمكانية تحقيقه. إزاء هذه القضايا كلها، وأمام حالة الانسداد، وعدم القدرة على التواصل، جاءت مبادرة الرئيس البشير بالإفراج عن المعتقلين السياسيين لمحاولة جذب المعارضة إلى حوار مفتوح من أجل خلق أجواء مصالحة وطنية. وقد اغتنمت القوى السياسية الفرصة، وطالبت بإطلاق سراح النساء المعتقلات من جبال النوبة، وإزالة كافة الموانع التي تحول دون عودة كل من القيادية بالتحالف، هالة عبد الحليم، والمهندس صديق يوسف، والأستاذ علي محمود حسين، وإغلاق مؤسسات الاعتقال التي تراقب وتعتقل الناشطين والسياسيين، ورفع الرقابة الأمنية عن الصحافة، وفك حظر الصحفيين الممنوعين من الكتابة، وإعادة الصحف المصادرة والمراقبة، وتحويل الأجهزة الرسمية من خدمة حزب واحد إلى خدمة الشعب كافة، والسماح للأحزاب السياسية بإقامة الليالي السياسية، والندوات الجماهيرية. كما رفضت قوى الإجماع الوطني الدعوة الرسمية من الحزب الحاكم لصياغة دستور دائم للبلاد، فقاطع بعضها بعدم التعاون أو التوافق مع المؤتمر الوطني، وقالت تلك القوى إنه غير مؤتمن على أية قيمة أخلاقية، سياسية كانت أو دستورية. تصعيد داخلى وضغوط خارجية: ورغم أن الخبرة السابقة تشير إلى عجز القوى السياسية الشمالية عن طرح نفسها للشعب السوداني كبديل للحزب المؤتمر الحاكم منذ 1989، فإن الظروف التي يمر بها السودان والمنطقة ككل تمثل معطيات مختلفة قد تسهم فى إحداث ضغوط كبيرة على النظام، خصوصا أن تبني القوى السياسية للبعد العسكري أصبح معلنا ومدشنا فى حركة المعارضة تجاه إسقاط النظام.ويزيد من الأمر تعقيدا حالة التهميش والإهمال التى يعانيها كثير من السودانيين، ليس فى الأطراف فقط، ولكن فى المركز أيضا. ويعد رد فعل البشير جزءا من رد فعل النظام الحاكم، وإحساسا بالخطر المحدق فى الأفق. ففور ظهور ميثاق الفجر في كمبالا، كان رد فعل النظام عنيفا تجاه القوى السياسية المعارضة، وتحالف كاودا الذى يضم (الحركات الدافورية المسلحة، والحركة الشعبية قطاع الشمال)اللذين وقعا الميثاق، حيث شن مساعد رئيس الجمهورية، نائب رئيس حزب المؤتمر الوطنى للشئون التنظيمية، د. نافع على نافع، هجوما عنيفا على الجبهة الثورية وقوى المعارضة لتوقيعهما وثيقة الفجر الجديد، متهما إياهما بالخيانة لوضع يدهما فى يد المتمردين للعمل على إسقاط النظام على حد قوله. فقد مثلت الوثيقة أداة ضغط هائلة على النظام، خصوصا أنها ركزت على ضرورة بناء سودان يسع للجميع. ورغم المنادة بالعمل المسلح، فإنه ما هو إلا وسيلة وآلية لتغيير النظام. ومتى توافرت آليات أكثر فاعلية، فنحن معها. كما شعر النظام بخطورة تصدير الأزمة إلى الخارج، خصوصا فى ظل الضغوط التى يفرضها الخارج على النظام، لأن المعارضة والحركات المسلحة الموقعة على الوثيقة قامت بإرسال وفود إلى دول الاتحاد الأوروبي، وأخرى إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، من أجل جلب الدعم، وممارسة مزيد من الضغوط على النظام. كما يعطى تدويل الوثيقة فرصة لدى القوى الخارجية للتدخل ، على أساس أن هذه الحركات تطرح نفسها داخليا كبديل، أو مخرج، حال تأزمت الأمور. ويلاحظ أيضا أن الوثيقة فرضت دورا خارجيا، حيث أصبحت كمبالا مركزا رئيسيا للمعارضة السودانية المسلحة، كما أن ذلك يعنى أن أماكن التمركز السابقة تبدلت بفعل عوامل عديدة. فبعد أن كانت ليبيا القذافي، وإريتريا أسياسي أفورقى، وتشاد إدريس دببي، أهم ثلاث دول تحتضن المعارضة السودانية المناوئة لنظام الخرطوم، تحول الدور ذاته إلى أوغندا التي هي الأخرى ليست بعيدة عن الملف السوداني. خلاصة القول إن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين محاولة من الحزب الحاكم فى الخرطوم لاحتواء القوى السياسية المعارضة، كعادته التى يمارسها منذ انقلابه على السلطة التشريعية فى يونيو 1989.ولكن بعد الربيع العربي، والتطور فى الشكل والمضمون في المعارضة المسلحة ضد حزب المؤتمر الوطني الحاكم، باتت عملية التسكين باستخدام أدوات تقليدية حيلة سياسية غير ناجعة. كما أن الاتفاقيات التي تم إبرامها مع القوى سياسية (الأحزاب)، أو الحركات المسلحة، سواء كانت فى شرق السودان، أو غرب السودان، أو جبال النوبة والنيل الأزرق، جاءت بنتائج عكسية، سرعان ما تراجعت الحكومة فى الخرطوم عن الالتزام بتعهداتها. ونتج عن ذلك العودة إلى المربع الأول "الحرب"، مما أدى الى عدم استجابة المعارضة للحوار، بل ظلت تمارس أدوات أخرى، حتى تسقط النظام الذى تراه عائقا أمام التنمية والاقتصاد. نقلاً : عن السياسة الدولية salah ibrahim [[email protected]]