معاينات اختيار صحفيين للعمل بصحيفة الصحافة كانت نزيهة وعادلة قبول أول مجموعة من الصحفيين الجامعيين بالصحافة السودانية!!!! ما أن قرأت الاعلان القاضي بانعقاد المعاينة الثانية الا وبدأت التفكير في اتخاذ الاجراءات اللازمة للعودة الى الخرطوم وكانت وقتها بصات سفرية أهلية تعمل في خط الخرطوم/الدويم وتتحرك من البر الشرقي في ساعة مبكرة من الصباح، وكان لابد للمسافر أن يستقل (بنطون) الساعة السادسة صباحا لكي يدرك البصات المتجهة الى الخرطوم فقمت بعمل الحجز وبعد مسيرة حوالى ست ساعات تصل البصات الخرطوم، ولقد جاء في الاعلان أن المعاينة الثانية ستعقد بمكتب رئيس هيئة التحرير ورئيس مجلس الادراة وهما منصبان كان يشغلهما الدكتور جعفر محمد على بخيت، يرحمه الله، الذي كان يشغل العديد من المناصب في وقت واحد، وأذكر أنه بوفاته شغرت حوالى سبعة مناصب في وقت واحد، وكان الدكتور بخيت يؤمن بنظرية (الآنية) ويطبقها أيما تطبيق، وهي أن يقوم الشخص بانجاز أكثر من عمل في آن أي وقت واحد، فكان يشغل تلك المناصب في وقت وآن واحد، وكثير من الناس يعتقد في المثل الشعبي السائر (صاحب بالين كضاب)، وقد رسيت المنافسة على حوالى (29) متنافسا من اصل (255) تمت مقابلتهم في المعاينة الأولى. كنت قد تقدمت لوظائف الخارجية في المنافسة على الوظائف المطروحة للعمل كسكرتير ثالث وجلسنا للامتحان كما اسلفت وكنا في انتظار ظهور نتيجة الخارجية وقد فوجئت في المعاينة التي أجراها لنا دكتور بخيت في مكتبه بسؤال منه عما اذا كنت افضل العمل في الصحافة على الخارجية، ولكن جاءت اجابتي واضحة على تفضيل العمل بالصحافة، ووجه لى بعض الاسئلة في الأدب العربي وعن استعدادي للعمل تحت ظروف صعبة وقاسية في مجال الصحافة، من سفر الى الأقاليم ومشقة قد يواجهها الصحفي في بعض المهام الصحفية الصعبة وتحت ظروف غير مواتية، وأنتهت المعاينة وكنت موقنا بأن انطلاقتي المهنية ستكون من (دار الصحافة للطباعة والنشر) {التي زالت من دنيانا، وسويت بالأرض في شارع على عبد اللطيف، جوار صينية الحركة التي ازيلت هي الأخرى كأحد المعالم المشهورة هناك في المنطقة}وكان هذا اسم الجهة التي تصدر جريدة الصحافة المؤممة التي آلت ملكيتها للدولة وهي مؤسسة صحفية عريقة قام بتأسيسها الاستاذ عبد الرحمن مختار، يرحمه الله، وهو شعور سرى في نفسي مؤكدا نزاهة اجراءات المعاينة والتقديم والاختيار المتبعة في أسلوب التوظيف وهو يدحض تماما ما أشيع وما تم الترويج له من قبل العامة أن المعاينات لمثل تلك الوظائف العامة تكون صورية ومجرد تمثيلية تهدف فقط الى خداع الناس على ان الاجراءات صحيحة وسليمة ويكون الشخص الذي سيتم توظيفه معروفا سلفا، وربما خالجني ذلك الشعور نظرا للايحاء الذي تم من قبل العديد ممن عرفتهم ولكن يقيني بنزاهة المعاينات قد تثبت ورسخ منذ خروجي من المعاينة الأولى، وفي انتظار نتيجة المعاينة لم أغادر الى أي جهة بل ظللت ارقب الاعلانات في الصحيفة ذاتها (الصحافة). كان من المفروض أن نتخرج في شهر أبريل عقب الامتحانات التي كانت عادة ما تجرى في مارس (شهر الكوارث) كما كان يسميه الطلاب، لأن كوارث الامتحانات من اعادة ورفت وتعليق ورسوب وغيرها كانت تقع في شهر الامتحانات، ولكن نظرا لحالة عدم الاستقرار التي كانت سائدة في جامعة الخرطوم آنذاك أخرت موعد التخرج الى نوفمير حيث تم تأجيل الامتحانات عن موعدها المعتاد، ومنذ أن وطأت اقدامنا تراب الجامعة لم يهدأ لها بال ولم تشهد استقرار نظرا لحالة الكر والفر بين السلطات والطلاب الذين اشعلوا ما يعرف بثورة (شعبان) التي ادخلت تدابير جديدة وممارسات لم تكن مطروقة من قبل حيث اعتصم الطلاب داخل الحرم الجامعي في مباني الكليات على النيل الأزرق ودفعت سلطة مايو بعشرات الدبابات وكتائب من القوات المسلحة لكي تفك اعتصامهم الذي اصروا الا يفضوه الا من بعد الاستجابة لمطالبهم التي رفعت الى ادارة الجامعة التي كان عميدها انذاك البروفسير عمر محمد عثمان، الذي ناشد بدوره الطلاب وقادة اتحادهم ومجلسهم (الأربعيني) بفك الاعتصام والعودة الى قاعات الدراسة. بحمد الله ظهرت النتيجة وكنت من ضمن الاربعة عشر صحفيا المختارين من بين التسعة والعشرين متقدما الذين رست عليهم المعاينة الأولى ونشر الاعلان بذلك على صفحة (الصحافة) بالصفحة الأخيرة، وهي صفحة منوعات كانت تنشر فيها (الاستراحة) وبعض المواد الخفيفة المسلية. وأذكر تاريخ تعييننا في الجريدة كان في الثالث عشر من فبراير العام 1975 واجتمع بنا الدكتور جعفر محمد على بخيت، يرحمه الله، ريئيس هيئة التحرير وعرض خطة العمل لنا وأطلق علينا اسم الكواكب الاربعة عشر ووصفنا بأننا جامعيين في دار الصحافة ولسنا صحفيين بعد وأدخل نفسه هو ايضا في ذلك التعريف، وطلب منا تنفيذ برنامج للتدريب قبل أن نبدأ في المهام التي اوكلت لنا فيما بعد، ولكن في بداية البرنامج أصدر أمرا كان له كيير الأثر على نفوسنا وهو ايقاف برنامج التدريب في خطواته الأولى وطلب منا الانخراط في هيئة التحرير كأول جامعيين يلتحقون بالعمل الصحفي، وصدرت التعليمات باستلام مناصبنا ضمن هيئة تحرير الصحيفة، حيث اسندت الى مهام متنوعة في أسرة التحرير طفت فيها على جميع أقسام التحرير عدا القسم الرياضي الذي كان رئيسه آنذاك يطلب منى الالتحاق بالقسم، وكرر لي ذلك الطلب مرات عديدة الا أن القسم الرياضي لم يستهويني وجدد الاستاذ هاشم ضيف الله، عليه رحمة الله، طلبه هذا وكان هو يمثابة الأب الروحي لفريق الصحفيين العامل بدار الصحافة وريئس القسم الرياضي ورغم كبر سنه إلا أنه كان يعرف باخلاصه وتفانيه في العمل منذ أن كان منخرطا في سلك التعليم كناظر لكبريات المدارس الثانوية التي عمل فيها كمدرسة حنتوب الثايوية حيث كان مثالا للانضباط والتقيد بالقوانين والنظم وكان أثناء فترة عمله في الصحافة يضطر أحيانا الى (السفر) الي محطة الأقمار الاصطناعية شمال الخرطوم في أم حراز حيث يقوم بمشاهدة بعض المباريات الدولية للتعليق عليها واعداد التقارير الرياضية عن نشاط المباريات التي تبث عبر الأقمار الاصطناعية خلال المنافسات الرياضية الدولية مثل الدورات الاولمبية وكأس العالم وغيرها من المنافسات، حيث كانت تلك الخدمة غير متوافرة الا في مثل تلك المحطات الأرضية المحدودة العدد والامكانيات. وأذكر أنني اضطررت في مالطا عندما كنت اعمل في صحيفة (البيان) العربية التي كانت تصدر من هناك، أن أقوم بترجمة واعداد الصفحة الرياضية ابان تغيب معدها ومقدمها الناقد الرياضي الليبي المعروف الاستاذ مصباح التاجوري في اجازته السنوية المستحقة. كنت في غاية النشاط وقمته وأنا في بداية طريق العمل الصحفي حيث كانت احيانا تنشر لي ثلاث مواد في العدد الواحد، وسرعانما أدرجت ضمن كتاب الاستراحة وهو باب ينشر في الصفحة الأخيرة يحتوي على مادة خفيفة يحكي فيها المحرر طرفة مرت به أو بغيرة أو موقف وكان من الكتاب المشهورين آنذاك الدكتور محمد عبد الله الريح (حساس محمد حساس) وهو من مجموعة حلمنتيش، والاستاذ جمال عبد الملك (ابن خلدون)، وهما من الأقلام المتعاونة مع الصحافة حيث كانت هناك مجموعة من الأدباء والكتاب غير الصحفيين مهنيا ولهم اسهامات ويتعاونون مع الصحافة، والأستاذ زين العابدين أبوحاج {الذي ارتبط اسمه بصحيفة (كردفان) الاقليمية، حيث كان مشرفا على اصدارها}، يرحمه الله، وغيرهم من الأقلام المبدعة التي كانت تثري وتروي حقل الكتابة الابداعية آنذاك. وكانت المجموعة تضم فئات عمرية وخبرات متنوعة وتمثل ألوان طيف ايضا متباينة فكريا وسياسيا، وهذا هو الهدف الذي قصده الدكتور جعفر، لكي تتلاقح تلك الأفكار والتوجهات المتباينة وتثمر ثمارا فريدة، استنفذ فيها الدكتور كل طاقته الاقناعية للسلطات وبخاصة سلطات ما كان يعرف باسم (الأمن القومي) التي كانت ضد تعيين المعارضين من الأحزاب (المحظورة) ابان النظام (المايوي)، وبالفعل لقد جابهنا صراعين أحدهما خارج أسوار صاحبة الجلاله تقوده قيادات الأمن القومي والاتحاد الاشتراكي وهو سياسي محض والآخر مهني، فالسياسي كان اشده ضد العناصر المعروفة (غير المقنعة) السافرة بتوجهها السياسي (المعادي) الذي لايستحسنه النظام المايوي ، وقد برز ذلك الصراع بوضوح على الساحة عندما نشطت سلطات الأمن وعمدت الى وقف نشاط ومسيرة بعض الزملاء بشكل لا مواربة فيه رغم معارضة الدكتور محمد على بخيت الصريحة والمساندة لمجموعة الكواكب، والمهني كان نابعا من جميع عناصر المنظومة الصحفية العاملة بالجريدة النابع من عدم الاستقرار الوظيفي والتوجس من التأثير على الكيانات الصحفية الراسخة من قبل (الذين لم ينالوا قسطا من التعليم الأكاديمي المنتظم) رغم أن مهنة الصحافة آنذاك لم تكن تخضع لتعليم نظامي أكاديمة لخلو ميدان التعليم من كيانات اعلامية أو صحفية مثل كليات الاعلام أو الصحافة المستجدة والمستحدثة التي انتشرت في يومنا هذا. وقائمة الكواكب كانت تضم كل من الأساتذة: نور الدين مدني أبو الحسن، محجوب عروة، الشيخ درويش، الدكتور محمد سليمان شاهين (دكتور بيطري)، رقية السيد، عبد الرحمن عبد الباسط، فتح الرحمن محجوب، عثمان محمد يوسف، يدر الدين محجوب، يرحمه الله، على صديق، محمد عثمان مصطفى (دبايوا)، أحمد طه، محمود الجراح والعبد لله الرشيد حميدة. لقد كانت الفرقة متجانسة مهنيا تجابه تحد حقيقي لكينونتها وقابلية (حياتها) واستمرارها في ذلك الوسط الاعلامي الحيوي، وكان الوسط الاعلامي آنذاك يعج بالشللية والتطلعات الشخصية لكسب ود رجال النظام وذوي النفوذ، الوزراء والسياسيين وأصحاب المناصب التنفيذية العليا في الجهاز الحكومي والحزب الحاكم (الاتحاد الاشتراكي، واللجان التابعة له)، وبشكل سلس وسهل تلمسنا خطانا في ذلك الوسط الجديد وانخرطنا في جميع ادارات وأجهزة وكيانات الصحيفة التي كانت تمثل لسان حال الحزب الحاكم والحكومة المايوية، حيث كان من المفروض الالتزام بالخط الاعلامي المعلن للنظام (طبعا بصرف النظر عن التوجهات والألوان الخاصة بكل فرد). وقد فتحت تلك التجربة الباب على مصراعية لخريجي الجامعات الذين بدأ زحفهم على بلاط صاحبة الجلالة من ذلك الوقت وقد وجدت الصحيفة التوأم (الأيام) الطريق ممهدا لكي تحذو حذو الصحافة، اللتين كان يطلق عليهما بعض الظرفاء صحف (ابراهيم وموسى) اشارة الى رئيسي مجلس ادارتي الصحيفتين آنذاك وهما الاستاذ موسى المبارك الحسن وابرهيم عبد القيوم. alrasheed ali [[email protected]]