في خواتيم العام المنقضي 2012م، كانت عاصمة الجنوب جوبا، تضج بخبر مقتل الكاتب الصحفي، إيزايا إبراهام، الذي تسبب انتقاده المتكرر للنظام في مقتله المفجع هذا، وبطريقة إجرامية وقاسية، وهذا الحادث كانت له آثاره جلية بين أوساط النخبة الجنوبية، وبطبيعة الحال طبقتها الحاكمة. وبين كل ذلك، لم يكن هنالك أي خبر يمكن أن يطغى على ما جرى، باستثناء، قيام الدكتور رياك مشار، الرجل الذي يشغل منصب نائب الرئيس، ويعتبر الثاني في الدولة وفي الحزب الحاكم، بالسفر إلى مدينة بور، مسقط رأس إزايا، لتقديم واجب العزاء لأسرته، وعشيرته، ليكون هو وحده، من طاقم الرئاسة الجنوبية، صاحب التقدير عند هؤلاء القوم.. وللأمر دلالات أخرى؛ لأنه يكون كذلك الوحيد بين رجالات قمة الهرم الحكومي، من أدان هذا السلوك، وتعبِّر خطوته هذه عن رفضه التام لها، وهو ما يجعل منه مختلفاً في نظر الأوساط الصحفية والإعلامية، وكذلك في وسط المثقفين الجنوبيين، وأبعد من ذلك في وسط الشباب والطلاب. وهكذا؛ كان واضحاً كما الشمس للكثيرين، أنه يعكس وجهاً للتغيير، من داخل الحكومة ذاتها، واستناداً على موقعه فيها وفي الحزب، وهو صاحب تاريخ داخل الحركة الشعبية وجيشها الشعبي، وله قواعده في التنظيمين، التي تؤهله بامتياز للمنافسة في الانتخابات الرئاسية المُقبلة، ممثلاً لذات المؤسسات إن هي أجمعت عليه، أو ضد مرشحها إن كانت نيته قيادة البلاد وأعلنت هذه المؤسسات عن ترشيحها لغيره. هذا مع العلم، أن ذكريات الرجل مع الانقسامات ليست ببعيدة، ومطلع التسعينيات يظل تاريخاً قريب.. طوال الفترة الانتقالية، فيما قبل الانفصال واستقلال دولة الجنوب، كان رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت يفضِّل المكوث بجوبا رغم منصبه الذي يتطلب تواجده بالخرطوم في مرات كثيرة، وبحسب مصادر مُقربة من طاقم القيادة بالحزب الحاكم، فإن رجل المخابرات الأول بالجيش الشعبي، ظلّ على الدوام مهموماً بكل تحركات منافسيه، وأولهم رياك مشار. وتطور هذا إلى أن أعلن صراحةً، في حوار صحفي نشرته صحيفة السوداني قبل حوالي عام ونيف، أجرته الصحفية المتميزة رفيدة يس، أنه يشعر بالخطر من الذين حوله، ولم يشر باصابع الاتهام بشكل مباشر لمشار، ولكنه ألمح لذلك، وقد صاحب ذلك الحوار الذي أقام الدنيا ولم يقعدها إلا بعد حين، أحاديث تناقلت هنا وهناك عن الصراع الخفي بين الزعيمين. وفي الإطار لابد من التذكير بأن سلفاكير، ومنذ مدة ليست قصيرة، يعاني من حجم الانتقادات شديدة اللجهة حول إدارته لشئون البلاد، ما بين انعدام للأمن على مستوى العاصمة نفسها، والمحسوبية وصعود ذوي القربى وتمتعهم بميزات عالية في جهاز الدولة على حساب الآخرين، وقد خلق هذا الشئ نوعاً من عدم سيادة القانون في بعض الأحيان، وهو المسؤول بشكل مباشر أمام البعض عن هذه الأمور.. قبل أيام، أعلن رياك مشار عن ترشيح نفسه لرئاسة الحركة الشعبية في مؤتمرها العام الاستثنائي المزمع انعقاده، مؤكداً نيته بصفة رسمية الترشح ضد سلفاكير، وكانت مصادر بجوبا قد نقلت نشوب خلافات جديدة بين مشار (الطموح والمثير للجدل) والرئيس كير، وأضافت ذات المصادر في أنباء تداولتها بعض الصحف في الخرطوم، أنهما تبادلا نقاشات حادة بشأن الموضوع، وإن كير أوضح لمشار أنه مهموم من أمر ترشحه وطالبه بالتراجع عن ذلك، بيد أن الأخير رد بأنه لن يتنازل عن أمر الترشح، وقال لسلفاكير "لن أتنازل يومين لصالحك ناهيك عن دورة أخرى". وفي السياق، أكدت دوائر شديدة الإطلاع نشاط حالة من الاستقطاب وسط الجيش الشعبي الذي انقسم إلى معسكرين. وهكذا، انفجرت الخلافات بين الرجلين القديمة والمكتومة، إلا أنها هذه المرة ظهرت للعلن، واحتدمت حتى وصل ذروتها بمنع الرئيس كير نائبه مشار من السفر إلى دُبي فى زيارة كانت مقررة سلفاً.. إبان فترة الانتخابات الماضية، اندلع صراع عنيف في ولاية الوحدة على الترشح لمنصب الحاكم، وكانت زوجة مشار، انجلينا تينج، قد أصرت على منافسة مرشح الحركة الشعبية، تعبان دينق، الذي يسانده بقوة الرئيس كير. وهذا الصراع الذي بدأ في ولاية الوحدة، وكانت أبرز تجلياته في محاولة اغتيال انجلينا، وصل حتى أعلى مراتب قيادة الحزب الحاكم، وانقسم حتى المكتب القيادي في اجتماع شهير حوله، وفي الأخير أقرّ الإجتماع ترشيح تعبان، وخرج كير منتصراً في تلك الجولة على مشار، الذي قالت قيادات أنه حاول عدم التدخل في الأمر، لجهة حساسيته بالنسبة له (كزوج انجلينا).. وتتويجاً لكل هذا التباري، القديم منه والحديث، أصدر الفريق أول سلفاكير ميارديت عشية الإثنين منتصف أبريل الجاري، قراراً جمهورياً بسحب جميع الصلاحيات التنفيذية من نائبه الدكتور ريك مشار تينج، كما نص القرار الذي أذاعته محطة التلفزيون الرسمية على حل اللجنة الوطنية للمصالحة، التي يشرف عليها ويرأسها الدكتور مشار وإيقاف جميع البرامج والانشطة المتعلقة بها، ولم يُشر القرار الي أي تفاصيل في هذا الصدد. ويرجح عديد من المراقبين أن يكون هذا القرار مربوط بالنقاشات التي دارت مؤخراً في اجتماعات المكتب السياسي للحركة الشعبية، حيث أبدى مشار رغبته للترشح لرئاسة الحزب في المؤتمر العام القادم للحزب والمتوقع انعقاده في العام 2015م، وينظر المراقبون إليه باعتباره المنافس الأكثر قوة للرئيس لذا فإن خطوة تقليص صلاحياته تجيئ في إطار تقليص حدود تحركه في مشروع المصالحة الذي يراه المقربين من كير تحضيراً لحملة انتخابية مبكرة.. على أي حال، ها هي بوادر الصراعات حول كرسي الرئاسة في الجنوب السوداني قد بدأت، وعلى الرغم من أن مشار دلف إلى مكتبه في اليوم التالي مباشرة للقرار بكل هدوء، ومارسه نشاطه اليومي بكل أريحية ودون أن تبدو عليه أية اضطرابات أو غضب، إلا أنه من المرجح أن تشهد الفترات المُقبلة إلى حين الإعلان عن الحملات الانتخابية تراشقاً إعلاميا عنيفاً بين الرجلين، وقد يقود الأمر إلى حدوث انقسام في التنظيمين السياسي والعسكري.. ولكن؛ هنالك كذلك من يقفون في المنتصف، وينظرون إلى أبعد من مجرد الصراع، مثلاً؛ كان الناطق الرسمي باسم الحكومة، وزير الإعلام والبث، بنجامين مريال، قد تساءل على صفحته بالفيس بوك عن هذا القرار وما يمكن أن يقود إليه، وبدى أن الشخص المنوط به التوضيح في مثل هذه المواقف، هو نفسه لا يفهم لماذا حدث هذا، وما هو الهدف من هذا القرار، وهو هنا، مع كثيرين وأقربين، سيشرعون من الآن وإلى حين تلك الانتخابات التي ذاع صيتها قبل انطلاقها، في بدء مناقشات جادة بصدد تسوية سياسية تضمن قدراً من الرضا للطرفين، وتُجنِب اللجوء للعنف الذي انهك تلك البقعة الجغرافية الوديعة !.. mohmd hilaly [[email protected]]