لامني بعض من قرأوا مقالي القديم "ما فيش فايدة! آخر واحد يطفي النور" على تشاؤمي وانقطاع عشمي في مستقبل هذه البلاد المنكوبة، وعابوا علي إغفالي للإيجابيات ووقوفي المتكرر عند السلبيات في معظم ما أكتب، وسوداويتي التي تجعلني أري البثور والدمامل في كل مناحي الحياة في السودان الحبيس: في السياسة والنطاسة، والتعليم النظامي والتجهيل المنظم، والتعليم الجامعي الافتراضي، وفي حُفر شوارع الخرطوم، و"مسطحات "الإنترلوك" التي سدت الأفاق، وفي الفساد والإفساد، وفي إطلاق الجميع الحديث على عواهنه (وعواهننا)، وفي بروج إرم ذات العماد المتطاولة، وفي أبراج الحكومة المُشيدة من الزجاج الخالص في شمس الخرطوم اللاهبة، وفي الحُجرات المُحصنة المُكدسة بالعملات الصعبة علينا (الجنيه السوداني)، ودواليب المنازل المُكدسة بالعملات السهلة عليهم (الدولار والريال والليرات الشامية)، وفي "جداد الوالي" والدُجاج المسرطن، وفي انهيار كافة النظم التي تقوم عليها المجتمعات والاقتصاد والحياة. وحين تكاثر علي اللوم من كل حدب وصوب، اخذت نفسي بالشدة، وآليت عليها أن تنزع المناظير السوداء (إن وجدت)، وأن تنظر في رفق وموضوعية إلى ما يحدث (وما لايحدث)، وان تتأنى في إصدار الأحكام، وفي افتراض حسن النية عند حُكامنا، وأن تنتظر السنوات السمان يتلون السنوات العِجاف، وتنتظر "مخرجات" الاستراتيجيات طويلة الأكمام، والبرامج الاسعافية قصيرة القوادم، وأن تتفاءل بالخير عسى أن تجده في بشائر الذهب وما يحويه باطن الأرض من كنوز، وما يخرج منها من بطيخ وشمام ومورنقا وهوهوبا نغزو به أسواق الدنيا ونُباهي يه الأمم كافة، ومن مدن طبية يهفو لها مرضى العرب والعجم والزنج، ومن سياحة "نظيفة" في ربوع همشكوريب وتهميم، وجُزر سياحية في بحر القلزم هي واسطة العقد وسرة الدنيا مثل ارخبيل دقرسم الذي يُعمره المستثمرون الأجانب بمليارات الدولارات. وحتى لا أعود لسابق تشاؤمي، طفقت أنظر خارج الحدود في خواطر مصرية وصينية وأمريكية، وسياحات في مواضيع شتى لا صلة لها بما نُعانيه من عنت وسأم وغضب حتى اتهمني بعض من أعدهم من خلصائي بأنني جبُنت ولحقني رأس سوط، أو طرف من وعيد. كذلك شكمت النفس عن مُطالعة الصحف والتلفاز والإذاعة، "مُضارفة" لصحتي وسلامة عقلي من ناحية، وإمعانا في البعد عما يبعث على التشاؤم والغيظ الحزين، في محاولة لافساح المجال لرؤية الإيجابيات، من ناحية أخرى. غير أن "أولاد الحلال" لا يتركونك وشأنك؛ يقلقون منامك بما ينقلونه لك من منغصات، نجحتُ – إلى حد ما – في التعامي عنها. أتاني أحد "الأصدقاء" بصورة لملصق ضخم نُصب في فندق "كورينثيا" (المُقام على ارض "جنينة النزهة" التي تركها لنا الإنجليز فبعناها بثمن بخس للعقيد الأممي، وشردنا أسودها ومرافعينها وتماسيحها الحزينة)، ضمن "فعاليات" اجتماعات تخص ولاية جنوب كردفان. لم أنشغل كثيرا بعقد الاجتماع/الورشة/المؤتمر/الندوة وغرضه و"مآلاته" وحوافزه ولافتاته البلاستيكة الملونة، و"دلاقينه" التي تهفهف في الأركان. شبعنا حتى التُخمة من المؤتمرات وورش العمل والندوات المنعقدة كل صباح تحت رعاية السيد فلان، وتحت شعارات من شاكلة "نعيدها سيرتها الأولى (وما يُضير الشاة سلخها بعد ذبحها)". ولم يُثيرني أن تعقد جنوب كردفان "فعالياتها" في فندق كورينثيا الفخم على شاطئ النيل الخالد وأطرافها تحترق، وأهلها يهيمون على وجوههم في مدن شمال كردفان وما وراءها. ما اثار حفيظتي وأجج غضبي الذي حسبته انفثأ، لافتة ضخمة داخل الفندق كُتب عليها :"المسح المشترك لولاية جنوب كردفان". وإلى هنا يُمكن التغاضي عن معنى المسح وجدواه، ولا مانع لدينا (وإن لم نُستشر) أن يُبحث المسح في فندق فاخر في الخرطوم. ما أطار يافوخي هو إصرار المُنظمين (لسبب أحهله) كتابة نفس العنوان باللغة الإنجليزية الفُصحى، مستعينين بذلك بالمستر "قوقل"، جزاه الله عنا خير الجزاء لما قدمه للبشرية من خدمات جليلة. كتبوا بالإنجليزية: Joint Survey Mandate South Kordofan! ويبدو أن أحدهم سأل "قوقل" عن ترجمة كلمة "ولاية" بالإنجليزية فأجابه العم "قوقل" فورا: mandate ، وهي ترجمة صحيحة لولا أنها في غير مكانها لأن ولاية ترجمتها ايضا State وليس على قوقل حرج إن لم يعرف السياق وهو بعيد في فسطاط الكفر! لا ألوم أحدا على مثل هذه الغلطة الشنيعة، فما يُفيد اللوم في مثل هذه الهنات البسيطة؟ بل ألوم نفسي لأنني ما زلت اتفاءل خيرا وافترض الحد الأدنى من الحرص والاهتمام والجدية والتجويد. والحمدلله على نعمة الجهل بالجهل! وآخر واحد يطفي النور ويغلق الأبواب والنوافذ ويهيل علينا التراب الوطني! ما فيش فايدة!