"الدعم السريع" تستولي على اسقاط جوي للفرقة السادسة بالفاشر    المرصد السوداني يكشف معلومات خطيرة حول تجنيد الأطفال في السودان    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    بمكالمة من واشنطن.. نتنياهو يعرب عن أسفه لانتهاك سيادة قطر    تركيا تعلن دعم مشروعات حيوية في السودان    شاهد بالفيديو.. (انتو قاعدين تفضحونا في البلد دي).. "فكي" سوداني يتوعد المطربتين عشة الجبل وهبة جبرة ب"السبحة" وعلى طريقته الخاصة    ((هلال بدون عنوان))    الدفاع والنجومي يفتتحان الموسم بجبل اولياء    من يشعل النار في سلة غذاء العالم؟    القنصل العام بأسوان يشيد بالمواقف المصرية في التخفيف من آثار الحرب    راحة ثلاثة أيام للاعبي الهلال    السيسي وبن زايد يبحثان الأوضاع الإقليمية وزيادة الاستثمارات الإماراتية في مصر    خالد سِلِك.. الحِرْباء عند قاعٍ يُشبه القِمَّة!    حميدتي، حمدوك، الحرّيّة والتغيير، وأتباعهم؛ بيجمع بيناتهم شي مشترك    شاهد بالفيديو.. كورال مصري يغني الأغنية السودانية الشهيرة "كدة كدة يا التريلا" بطريقة مدهشة وموقع مصري يكشف قصة الأغنية وتفاصيلها    تكية الفاشر تقدم وجبة غذائية لمتضرري الحرب    شاهد بالفيديو.. "نحنا في علامات الساعة وما جايبين خبر".. مواطن سوداني يعيش لوحده في قرية كاملة خالية من البشر والحيوانات وناشرو المقطع يكشفون مكان القرية    بريطانيا تتجه لتشديد شروط منح الإقامة الدائمة للمهاجرين    عاجل.."زغاريد" وفرحة كبرى في الفاشر..ماذا يحدث؟    شاهد بالفيديو.. بعد أن وصفه بشيخ "الكمشة".. شيخ الأمين يرد بقوة على "الإنصرافي": (انت سندوتش ما عندك لكن عندك سب الدين والإساءات والسفيه نبذ الباشا)    شاهد بالفيديو.. شاب سوداني بالنيل الأبيض يوثق لحظة إنقاذه لطائر "الباشق" النادر ويطلق سراحه    شاهد بالفيديو.. شاب سوداني بالنيل الأبيض يوثق لحظة إنقاذه لطائر "الباشق" النادر ويطلق سراحه    تعرف على منافس الهلال في الدور التمهيدي الثاني من أبطال أفريقيا وموعد ومكان مباراتي الذهاب والإياب    الهلال يفوز على فريق جاموس الجنوب سوداني بهدف جان كلود ويتأهل    منشور غامض لترامب بشأن "إنجازات عظيمة" في الشرق الأوسط    شاهد بالصور.. حرب السوشيال ميديا تتواصل.. القيادية بالحرية والتغيير حنان حسن تسخر من الناشطة رانيا الخضر وتنشر صورة لها من دون "فلتر" وتهاجمها: (نعم لدعم النساء لا لدعم الغش والنفاق)    بعد الخماسية.. أصوات صراخ وبكاء في غرفة ريال مدريد    حقيقة إعفاء المصريين من الرسوم الجمركية للهواتف المحمولة    رئيس إتحاد المهن الموسيقية يعلق على قرار فصل الفنانة عشة الجبل: (فقدت عضويتها بسبب عدم الالتزام باللوائح)    والي سنار يصدر قراراً بتكليف صلاح قلاديمة مديراً لمنشأة سنار عاصمة الثقافة الإسلامية    القبض على 3 أصحاب مخابز استولوا على أموال الدعم    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    والي نهر النيل يطلع على ترتيبات دخول خمسة آلاف فدان للموسم الشتوي في محلية البحيرة    الطاهر ساتي يكتب: حمى الصراع ..(2)    الرواية... الفن والدور السياسي    شرحبيل أحمد... ملك الجاز السوداني الذي حوّل الجيتار إلى جواز سفر موسيقي    تلاعب أوكراني بملف القمح.. وعود علنية بتوسيع تصديره لأفريقيا.. وقرارات سريّة بإيقاف التصدير    بعد تسجيل حالات..السلطات الصحية في الشمالية تطلق صافرة الإنذار    إغلاق مقر أمانة حكومة جنوب دارفور بنيالا بعد غارات جوية    حسين خوجلي يكتب: بعد جرح الدوحة أليس من حقنا أن نتسائل أين اليمين العربي؟    اللجنة المالية برئاسة د. جبريل إبراهيم تطمئن على سير تمويل مطلوبات العودة لولاية الخرطوم    مياه الخرطوم تطلق حملة"الفاتورة"    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني
نشر في الصيحة يوم 29 - 09 - 2025


د. الوليد آدم مادبو
إن إصرار النخب المركزية على استبعاد الإرث الثقافي للريف السوداني عمّق الشرخ النفسي وأشعل حدة سياسية انتهت بانفصال الجنوب. ومع الجنوب لم نخسر أرضًا فحسب، بل خسرنا مستودعًا ثقافيًا عظيمًا كان يمكن أن يكون ركيزة لانصهار الوجدان الجمعي، ذلك الانصهار المطلوب لدعم الكونفدرالية إن استعصت الفدرالية. واليوم، إذا لم نتدارك الأمر، فسيكون الغرب والشرق في الطريق ذاته، إذ لا شيء أخطر من تصدع الوجدان؛ فهو الباب السري لضياع الأوطان.
يقول هايدغر: «اللغة بيت الكينونة». فإذا هُدم البيت، ضاع الساكن وفقد المأوى. هكذا تبدو حال الشعوب التي مزّقها الاستبداد؛ إذ لم يكتفِ الطاغية بإسكات الألسنة، بل صادر البيت نفسه، صادر الحيوية اللغوية، جاعلًا الكلمة خاويةً، والقصيدة صدى بلا معنى، واللوحة ظلًّا بلا لون. وحين يُغتال التعبير، لا يبقى أمام البشر إلا أن يلوذوا بالعنف، فتغدو البندقية لغةً بديلة، والخصومة دستورًا مختبِرًا لوحدة الأمة.
لقد تكررت هذه المأساة في التجربة السودانية كما في غيرها من التجارب العربية والإسلامية: حين اُختزل الحوار في ضوابط تنظيمية، والفن في أهازيج دينية، والمعرفة في فتاوى سلطانية. الإنقاذ لم تكن نشازًا، بل امتدادًا لمسار طويل جعل من الدولة الثيوقراطية قاعدةً ومن النقد استثناءً. من سنار إلى المهدية، ومن الخلافة إلى أنظمة الريع الخليجية، كان الاستبداد هو القاعدة الذهبية، بينما الحرية لم تُعطَ إلا كزخرف عابر.
ثقافة الإقصاء أفرغت الأحزاب والنقابات والهيئات الوطنية من المفكرين ومنتجي الأفكار. وهذا ما أضعف جبهة الصمود المدني وأدى إلى تصدع البنية السياسية. وسيظل غياب «وحدة الدراسات الاستراتيجية» واستبعاد النخب الفكرية والعلمية – بدافع الحسد والغيرة الشخصية – من أخطر آفات العمل السياسي في السودان، إذ ظل الأمر محكومًا بنظرة ذاتية ضيقة للقيادة السياسية، أيًّا كان اسمها أو لونها.
أدرك أدونيس أن «الثقافة العربية محكومة ببنية مغلقة، لا تنتج إلا إعادة إنتاج نفسها». وأكد نصر حامد أبو زيد أن النص في وعينا الجمعي لا يُقرأ إلا بوصفه يقينًا مطلقًا، لا سؤالًا ولا جدلًا. ومن هنا، فإن المثقف العربي سواء في المنفى كأركون وشريعتي وسروش، أو في الداخل ظل في مواجهة مزدوجة: سلطة سياسية غاشمة، وبنية ثقافية مهترئة. فحتى حين لم يتصدَّ الاستبداد للنقد مباشرة، كما في حال الأنظمة الأبوية التي ترعى الخمول أكثر مما تعتمد القمع، ظل المثقف أسير بنية معرفية لا ترى في الحوار إلا تهديدًا لوحدة الجماعة.
ويأتي فوكو ليضيء هذه المفارقة: الخطاب ليس مجرد كلمات، بل ممارسة تُعيد رسم خرائط السلطة والمعرفة. الخطاب يحدد من يحق له أن يتكلم، وبأي لغة، وتحت أي شروط. الاستبداد يسيّج اللغة، فيجعلها دائرة مغلقة، ويحوّلها إلى جهاز ضبط لا إلى أفق إبداع. وكما قالت حنّة أرندت: «حين تتدهور السياسة، ينهار المجال العمومي، وحين ينهار المجال العمومي، تفسد اللغة». الفساد هنا ليس أخلاقيًا فقط، بل أنطولوجي: فساد في الكينونة نفسها.
اللغة تتجدد حين تلبي حاجات الواقع، لكنها تنحدر إذا تحوّل استعمالها من الإبداع إلى الاستسهال. ومع ذلك، يظل الغناء والفن والمسرح، حتى تحت سيطرة الخطابات المهيمنة، وسيلة للتفلت والمقاومة. فالأغاني، كما جسد مصطفى سيد أحمد، تنقل ألم المجتمع وأحلامه، وتعيد للغة حيويتها وحضورها في الفضاء العمومي (إبراهيم برسي).
من هنا تتضح المأساة: ما فقدناه لم يكن حرية الكلام فقط، بل إمكانية الاجتماع ذاته. إذ لا وطن بلا لغة حرة، ولا أمة بلا فضاء عمومي يتسع للشعراء والمفكرين كما يتسع للفلاحين والجنود. فإذا ضاق الفضاء، تناثر الجمع؛ وإذا صمتت الكلمة، ارتفع الرصاص. لقد اختبرنا ذلك في شوارع الخرطوم كما في بيروت ودمشق وطهران، حيث أُغلقت أبواب النقاش ففُتحت أبواب السلاح.
ولذلك فإن معركة الحرية ليست ضد طاغية بعينه، بل ضد بنية كاملة: ثقافية، معرفية، وسياسية. نحتاج إلى خطاب بديل، خطاب لا يكرّر كليشيهات السلطة ولا يختبئ خلف قداسة النص، بل ينفتح على الحوار الحرّ كما اقترح هابرماس، ويستعيد للغة وظيفتها الأولى: أن تكون جسورًا لا أسوارًا. فبغير الكلمة الحية، لا قيام لجمعية وطنية، ولا أفق لمدنية، ولا معنى للإنسانية.
ختامًا، لنعلم أن الزمن يوشك أن ينفد: فإذا استمرّ خنق اللغة وتهميش الريف وإقصاء العقول، فلن يبقى من السودان سوى أطلال متفرقة ينعق فيها البوم. إن تصدع الوجدان هو الطلقة الأولى في رأس الأوطان، فإذا لم ننهض اليوم ونسترد للغة والفكر والفن مكانها في قلب الفضاء العمومي، فإن الغد لن يرحمنا، وسيكتب التاريخ أننا كنا شهود زور على انتحار أمتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.