د. الوليد آدم مادبو إن إصرار النخب المركزية على استبعاد الإرث الثقافي للريف السوداني عمّق الشرخ النفسي وأشعل حدة سياسية انتهت بانفصال الجنوب. ومع الجنوب لم نخسر أرضًا فحسب، بل خسرنا مستودعًا ثقافيًا عظيمًا كان يمكن أن يكون ركيزة لانصهار الوجدان الجمعي، ذلك الانصهار المطلوب لدعم الكونفدرالية إن استعصت الفدرالية. واليوم، إذا لم نتدارك الأمر، فسيكون الغرب والشرق في الطريق ذاته، إذ لا شيء أخطر من تصدع الوجدان؛ فهو الباب السري لضياع الأوطان. يقول هايدغر: «اللغة بيت الكينونة». فإذا هُدم البيت، ضاع الساكن وفقد المأوى. هكذا تبدو حال الشعوب التي مزّقها الاستبداد؛ إذ لم يكتفِ الطاغية بإسكات الألسنة، بل صادر البيت نفسه، صادر الحيوية اللغوية، جاعلًا الكلمة خاويةً، والقصيدة صدى بلا معنى، واللوحة ظلًّا بلا لون. وحين يُغتال التعبير، لا يبقى أمام البشر إلا أن يلوذوا بالعنف، فتغدو البندقية لغةً بديلة، والخصومة دستورًا مختبِرًا لوحدة الأمة. لقد تكررت هذه المأساة في التجربة السودانية كما في غيرها من التجارب العربية والإسلامية: حين اُختزل الحوار في ضوابط تنظيمية، والفن في أهازيج دينية، والمعرفة في فتاوى سلطانية. الإنقاذ لم تكن نشازًا، بل امتدادًا لمسار طويل جعل من الدولة الثيوقراطية قاعدةً ومن النقد استثناءً. من سنار إلى المهدية، ومن الخلافة إلى أنظمة الريع الخليجية، كان الاستبداد هو القاعدة الذهبية، بينما الحرية لم تُعطَ إلا كزخرف عابر. ثقافة الإقصاء أفرغت الأحزاب والنقابات والهيئات الوطنية من المفكرين ومنتجي الأفكار. وهذا ما أضعف جبهة الصمود المدني وأدى إلى تصدع البنية السياسية. وسيظل غياب «وحدة الدراسات الاستراتيجية» واستبعاد النخب الفكرية والعلمية – بدافع الحسد والغيرة الشخصية – من أخطر آفات العمل السياسي في السودان، إذ ظل الأمر محكومًا بنظرة ذاتية ضيقة للقيادة السياسية، أيًّا كان اسمها أو لونها. أدرك أدونيس أن «الثقافة العربية محكومة ببنية مغلقة، لا تنتج إلا إعادة إنتاج نفسها». وأكد نصر حامد أبو زيد أن النص في وعينا الجمعي لا يُقرأ إلا بوصفه يقينًا مطلقًا، لا سؤالًا ولا جدلًا. ومن هنا، فإن المثقف العربي سواء في المنفى كأركون وشريعتي وسروش، أو في الداخل ظل في مواجهة مزدوجة: سلطة سياسية غاشمة، وبنية ثقافية مهترئة. فحتى حين لم يتصدَّ الاستبداد للنقد مباشرة، كما في حال الأنظمة الأبوية التي ترعى الخمول أكثر مما تعتمد القمع، ظل المثقف أسير بنية معرفية لا ترى في الحوار إلا تهديدًا لوحدة الجماعة. ويأتي فوكو ليضيء هذه المفارقة: الخطاب ليس مجرد كلمات، بل ممارسة تُعيد رسم خرائط السلطة والمعرفة. الخطاب يحدد من يحق له أن يتكلم، وبأي لغة، وتحت أي شروط. الاستبداد يسيّج اللغة، فيجعلها دائرة مغلقة، ويحوّلها إلى جهاز ضبط لا إلى أفق إبداع. وكما قالت حنّة أرندت: «حين تتدهور السياسة، ينهار المجال العمومي، وحين ينهار المجال العمومي، تفسد اللغة». الفساد هنا ليس أخلاقيًا فقط، بل أنطولوجي: فساد في الكينونة نفسها. اللغة تتجدد حين تلبي حاجات الواقع، لكنها تنحدر إذا تحوّل استعمالها من الإبداع إلى الاستسهال. ومع ذلك، يظل الغناء والفن والمسرح، حتى تحت سيطرة الخطابات المهيمنة، وسيلة للتفلت والمقاومة. فالأغاني، كما جسد مصطفى سيد أحمد، تنقل ألم المجتمع وأحلامه، وتعيد للغة حيويتها وحضورها في الفضاء العمومي (إبراهيم برسي). من هنا تتضح المأساة: ما فقدناه لم يكن حرية الكلام فقط، بل إمكانية الاجتماع ذاته. إذ لا وطن بلا لغة حرة، ولا أمة بلا فضاء عمومي يتسع للشعراء والمفكرين كما يتسع للفلاحين والجنود. فإذا ضاق الفضاء، تناثر الجمع؛ وإذا صمتت الكلمة، ارتفع الرصاص. لقد اختبرنا ذلك في شوارع الخرطوم كما في بيروت ودمشق وطهران، حيث أُغلقت أبواب النقاش ففُتحت أبواب السلاح. ولذلك فإن معركة الحرية ليست ضد طاغية بعينه، بل ضد بنية كاملة: ثقافية، معرفية، وسياسية. نحتاج إلى خطاب بديل، خطاب لا يكرّر كليشيهات السلطة ولا يختبئ خلف قداسة النص، بل ينفتح على الحوار الحرّ كما اقترح هابرماس، ويستعيد للغة وظيفتها الأولى: أن تكون جسورًا لا أسوارًا. فبغير الكلمة الحية، لا قيام لجمعية وطنية، ولا أفق لمدنية، ولا معنى للإنسانية. ختامًا، لنعلم أن الزمن يوشك أن ينفد: فإذا استمرّ خنق اللغة وتهميش الريف وإقصاء العقول، فلن يبقى من السودان سوى أطلال متفرقة ينعق فيها البوم. إن تصدع الوجدان هو الطلقة الأولى في رأس الأوطان، فإذا لم ننهض اليوم ونسترد للغة والفكر والفن مكانها في قلب الفضاء العمومي، فإن الغد لن يرحمنا، وسيكتب التاريخ أننا كنا شهود زور على انتحار أمتنا.