كنت قبل سنوات في طريقي إلى صلاة الجمعة، ترافقني ابنتاي: رنا ذات التسع سنوات، وراما ذات السبع، كنت مشغولًا بالتفكير في أمر من شؤون الأسرة أو معارك ومتاعب العمل الصحفي. كان مؤشر المذياع على إحدى المحطات الدينية في ال"إف إم". فجأةً انتبهت إلى صمت البنتين على غير عادتهما المشاغبة التفتُّ نحوهما فإذا بملامحهما تحمل مزيجًا من الانتباه والمتعة. اقتربنا من المسجد العتيق، وكان الإمام قد صعد إلى المنبر يلاحق أنفاسه المتقطعة. بينما مصدر انجذاب طفلتيَّ كان حديثًا إذاعيًا ممتعًا للشيخ الراحل محمد سيد حاج، وهو يشرح مدارج السالكين لابن القيم، صاحب القلم السيّال والسحر الحلال. أصدقكم القول: لم أكن أعرف الرجل كما يستحق حتى إنني لم أكن أركز في اسمه: أهو محمد أم أحمد سيد؟! كنت حين أراه في الفضائيات أظنه واعظًا سلفيًا متشددًا، ينهل من عزائم الحنابلة، ويتكئ على مأثورات ابن تيمية، وفتاوى ابن باز والعثيمين، وتصحيحات الألباني. لكن المرة الأولى التي التفتُّ فيها لأهمية هذا الرجل كانت حين شاهدت عبر فضائية النيل الأزرق جموع الآلاف يشيعونه إلى مثواه الأخير مشهد غامر بالحزن الصادق والدموع الحارة لا دموع التمثيل أمام الكاميرات. أغلب المشيعين كانوا شبابًا ونساءً. رجل يحظى بكل هذا الحب والوفاء، لا بد أنه كان جديرًا بهما. أمام المسجد أوقفت السيارة. كان الإمام يخطب بصوت فاتر وعبارات شاحبة، كأنه يقرأ من ورق بارد. وفي المقابل، كان الشيخ محمد سيد حاج، بصوته الخريفي الجميل عبر المذياع، يتحدث عن فضائل الصبر بطريقة خلاقة بديعة يمزج النصوص بالموروث الشعبي يستحضر الحكم والأمثال السودانية يقارب وقائع الحاضر بموروث الماضي، بانتقالات رشيقة بين الفصحى والعامية. تدفق سلس للمعلومات، واستخراج سريع للعبر والفوائد . وجدت نفسي وطفلتي في حالة "احتجاز جميل" الزجاج المغلق يفصلنا عن خطبة الجمعة، لكن قلوبنا كانت مأخوذة بخطاب الشيخ. استفتيت نفسي، فاخترت الاستماع إليه من داخل السيارة، ثم الدخول للصلاة خلف الإمام في المسجد. بعد تلك الواقعة، ومع متابعة لاحقة وتأملات متأنية، أيقنت أن أعظم ما فعله الراحل محمد سيد حاج أنه سودن الخطاب السلفي؛ أطفأ لهيب "فقه الصحراء"، ونزع مرارات الجدل العقيم حول المسائل والنصوص. شقّ طريقًا أخضر، سيُسجَّل باسمه، بمرجعية سلفية الملمح، صوفية المذاق، ومزاج سوداني أصيل. وربما كان للطف أهل حلفا نصيب في تشكيل تلك الحالة الجمالية المدهشة. الراحل محمد سيد حاج –رحمه الله– صاحب الابتسامة الفيّاضة، واحد من أولئك الذين قدَّر الله ألّا نكتشف فرادتهم إلا بعد أن يواروا الثرى.