د.صبرى محمد خليل- استاذ الفلسفه بجامعه الخرطوم [email protected] هناك العديد من المظاهر الفكريه والسلوكيه السلبيه التى تسود بين المثقفين والمتعلمين السودانيين، فهى توجد فى مجموعهم ان لم توجد فى جميعهم . هذه المظاهرالسلبيه هى افراز امتداد الحياه فى ظل تخلف النمو الحضارى للمجتمع السودانى نتيجه لعوامل داخليه(كالتقليد، الجمود..) وخارجيه(الاستعمار،التبعيه...) متفاعله ، و فى ذات الوقت فانها احد اسباب استمراره لأنها تفتك بمقدرة المثقفين الذين هم قادة حركة التطور الاجتماعي في كل المجتمعات. الخلط بين المثقفين والمتعلمين: والحديث عن المثقفين السودانيين يقتضى التمييز بين المثقفين (أي الذين لهم المقدرة الفكرية لإدراك المشكلات الاجتماعية، ومعرفة حلولها، والمقدرة على العمل الجماعي اللازم لحلها)، والمتعلمين أو الأكاديميين (الذين لا يعرفون من العلم إلا ما تعلموه في معاهده المتخصصة، ويجهلون علاقته بمشكلات الواقع الاجتماعي، أو لا يهتمون بتلك الصلة)، حيث يشيع فى الحياه الثقافيه والفكريه السودانيه الخلط بينهما. الفرديه : من أهم هذه المظاهر السلوكية السلبية الفردية، ومرجع هذه النزعة الفردية عند بعض المثقفين أنهم قادة حركة التطور في كل المجتمعات، وإذاكانوا في المجتمعات المتقدمة كثرة تفيض عن الحاجة. فإنهم في المجتمعات المتخلفة قوة نادرة؛ ذلك لأنهم أكثر معرفة وعلماً ومقدرة على العمل من الكتلة السائدة. فلا تستطيع مجتمعاتهم أن تستغني عنهم، وبينهم وبين سواد الشعب المتخلف ثغرة فاصلة. يمكن أن يضاف إلى هذا أسباب عدة، منها أن برامج التربية والتعليم والثقافة والإعلام في المجتمعات المتخلفة كانت لفترة طويلة من وضع القوى الاستعمارية لخدمة غاياتها. ومن غاياتها إضعاف العلاقة الاجتماعية التي تربط الناس بمجتمعاتهم في مصير واحد حتى لا تعود هذه الروابط إلى وعن الناس التزامهم بتحرير مجتمعاتهم. ومنها احتضان القوى الاستعمارية للعناصر المتفوقة من المتعلمين وإتاحة فرصة إكمال ثقافتهم في معاهدها وجامعاتها عن طريق البعثات، وهنا تدس في الأذهان مُثُلاً عُليا غريبة عن مجتمع المبعوث. ومنها ميراث الممارسة الليبرالية ذلك المذهب الفردي الذي يتجاوز تجميد الإنسان إلى إطلاق الفرد من التزاماته المترتبة علي انتمائه إلى مجتمعه؛ فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع فردي لا إنساني؛ وتكون الفردية فيه قيمة لا يخجل منها صاحبها، بل يفخر بها بقدر ما يكون لها من ضحايا من أفراد آخرين. الفردية السلبية والفردية الايجابية:غير أن هذه الفردية قد تأخذ شكلاً سلبياً، أو شكلاً إيجابياً. أما الشكل السلبي؛ فيأخذ شكل العزلة عن الجماهير. أوشكلاً إيجابياً كالاستعلاء على الناس، والتشبث بالقيادة، والتوقف أو الانعزال، أو التمرد على العمل الجماعي ما لم يخضع الناس لإرادته. من أشكال الفردية الايجابية البيروقراطية؛ فالبيروقراطيون هم قطاع من المتعلمين يشكلون جزءاً من موظفي الدولة، يُفرطون في توفير الشرعية الشكلية للقوانين واللوائح (عدم تناقضها مع قواعد الدستور، أو القانون) مع إهمالهم لمضمونها ( كأدوات وُضِعت لتنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم)، كما تستخدم فئة منهم السلطة الممنوحة له لتعويض سنوات الفقر بالاختلاس أو تعويض سنوات الذل بالاستبداد بالناس. ولا يمكن مقاومه البيروقراطية إلا بمنح الشعب حق الشكوى ،لا بمنح الموظفين الحضانة ضد الشكوى. بين التغريب والتقليد: من هذه المظاهر السلبيه ان المثقف السودانى فى محاولته الاجابه على السؤال المتعلق بكيفيه تحقيق التقدم الحضارى للمجتمع السودانى ظل يدور فى حلقه مفرعه مضمونها اما القول بإلغاء القيم الحضارية للشخصية السودانيه واستبدالها بقيم جديدة (التغريب)؛ متناسيا ان أن محاولة اجتثاث أي شخصية من جذورها محاولة فاشلة لن تؤدى إلا إلى حطام شخصية. او القول بالإبقاء علي الشخصية السودانيه كما هي كائنة (التقليد)؛ متناسيا ان هذا يعنى الإبقاء على المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية التي افرزها التخلف الحضاري. ولم يفلح المثقف السودانى فى الوصول الى اجابه جدليه مضمونها الغاء المظاهرالسلبيه للشخصيه السودانيه بالغاء سببها (تخلف النمو الحضارى) وابقاء قيمها الحضاريه لتسهم سلبا فى بناء شخصيه مطهره منها وايجابا فى انتاج مظاهر ايجابيه. ان كلا الموقفين (التغريب والتقليد) يلتقيان فى النتيجه رغم تناقض المقدمات التى ينطلقان منها ، فالمجتمع السودانى مثلا يعانى من شيوع نمط التفكير البدعى متمثلا فى أنماط من الفهم الخاطئ للإسلام؛ والتي تكتسب قدسية نسبتها إلى الدين. ومن أسباب استمرار هذا الجهل بالدين، وبالتالي استمرار الفهم الخاطئ له، والذي يساهم في الإبقاء على واقع تخلف النمو الحضاري للمجتمع السودانى،ان التيار التغريبي يرى أن التقدم لا يمكن أن يتم إلا بإلغاء الدين أو تهميشه. وهو بهذا يكرس للجهل بالدين وسط المثقفين الذين من المفترض أن يكونوا طليعة المجتمع في تثقيفه، وتوعيته بالإسلام وقيمه الحضارية الإنسانية، ومحاربه الفهم الخاطئ للدين الذي يساهم في الإبقاء على واقع التخلف الحضاري، وتقديم فهم صحيح له. بالاضافه الى ان التيار التقليدى يخلط بين الدين الصحيح وقيمه الانسانيه والحضاريه والمظاهر السلبيه التى افرزها واقع تخلف النمو الحضارىللمجتمعات المسلمه. النخبويه بدلا من الطليعيه:ومن هذه المظاهر السلبيه اتصاف المثقفين السودانيين بالنخبويه بدلا من اتصافهم بالطليعيه، اى إنه بدلاً من ان يكون المثقفين السودانين طلائع التغيير الفكرى للمجتمع السودانى بتبنيهم لنمط تفكير اجتهادى علمى عقلانى ، فإنهم أصبحوا انعكاسا لواقع تخلف النمو الحضارى بتبنيهم لنمط تفكير بدعى شبه خرافى شبه اسطورى شانهم شان باقى فئات المجتمع ، مع رغبتهم فى التميز الوظيفى والاقتصادى والاجتماعى... عن هذه الفئات. وايه هذا شيوع انماط من التفكير و السلوك الخرافى (كالاعتقاد بامكانيه العلم الغيب ( رمي الودع وقراءه الكف وضرب الرمل وقراءه الأبراج )و عدم احترام قيمه الزمن... ) و الاسطورى(كالقبول المطلق لفكره وبالتالي الرفض المطلق للأفكار الأخرى ، الشك المطلق أي إنكار إمكانية التحقق من صحة أي فكرة.، أو النزعة القطعية أي التسليم بصحة فكرة دون التحقق من كونها صادقة أم كاذبة،الاستناد إلى الإلهام أو الوجدان و الخياال الذي يلغى العقل ،اللامنطقيه و التناقض ... ) والبدعى (كتقديس الاولياءورفعهم الى مرتبه الانبياء... ) بين جميع فئات المجتمع بما فيها الفئات المتعلمه. عدم انجاز التغيير الفكرى: ان تغيير اى مجتمع لا يتم بالقفز على الواقع بل بالتدرج بالانتقال به مما هو كائن إلي ما هو ممكن الى ما ينبغي إن يكون فالتغييرلابد ان يتم عبر مرحلتين المرحله الاولى هى مرحله التغيير الفكرى، والمرحله الثانيه هى مرحله التغيير السياسى. ونلاحظ ان السياسة السودانية ظلت تحاول دائماً الانتقال إلى مرحلة التغيير السياسي دون ان تكمل إنجاز مرحلة التغيير الفكري ،لان المثقفين السودانيين لم يؤدوا دورهم الاساسى، وهو انجاز التغيير الفكرى سلبابمحاربة التفكير البدعى شبه الخرافي وشبه الاسطوري ، وايجابا بانتاج ونشر التفكير الاجتهادي العلمي والعقلاني.