ظلت الرأسمالية العالمية بقيادة الولاياتالمتحدة، مدة أربعين عاما بعد الحرب الثانية- ناهيك عن قرون قبلها- حتى بلورت هيمنتها الاقتصادية، بل والسياسية الشاملة على "العالم" فى ثمانينيات القرن العشرين. وذلك عندما استقرت برامج "التكيف الهيكلى" وشروط أو "وصفة" صندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية؛ عندئذ سُمَّي ذلك "إجماع واشنطن" Washington consensus،أو قل الخطة الشاملة "لعالم واحد" من كافة الجوانب ، حتى العسكرية التى تصورناها سقطت مع الاستعمار التقليدى، ولكنها هنا عادت مع المدرسة "النيوليبرالية" الأمريكية أو ما سمى بالرأسمالية المتوحشة، وصاغ مبادئها العشرة جون وليامسون سنة 1989. لكن فجأة، وفى اقل من عقدين أواخر القرن العشرين ومطلع الواحد والعشرين، تبزغ قوة شبحية ذات تأثير بالغ فى هذا "العالم" نفسه، وتُروَّع قيادته، بل وتجبرها على تغيير بعض أساليبها بأشكال مختلفة، نتيجة "الحضور"الخاص والمؤثر اقتصاديا وسياسيا...اعنى حضور "الصين"... ولم يكن ذلك بالطابع الصينى المنعزل القديم، حيث كان ترويعها يسمى وقتها "التنين الأصفر" ورهاب الشيوعية"، ولكنه هنا ذلك الحضور الناعم على مستوى القارات الثلاث الكبرى..بل وخارج دائرة الرأسمالية التقليدية.. و بالأساليب الرأسمالية نفسها.. ولذا يجرى الآن الاتفاق على تسمية ذلك "إجماع بكين" مقابل "إجماع واشنطن". وفيما تابعته من مصادر, فإن المصطلح قد طرحه الباحث الأمريكى "جوشوا رامو" J.R.C.Ramoعام 2004. والواضح من التعريف به أنه من مدرسة "كيسنجر" صاحب "الاختراق العظيم" إلى الصين أوائل السبعينيات من القرن الماضى !. ولذا يتحفظ مثقفون صينيون على المصطلح -"مؤقتا" على ما يبدو- فى تحليلات أمثال "لى زينج" Li xing أو "لى جيباو"، فى دراسة موسعة نشرها مركز "كاساس"CASAS فى كيب تاون حديثا... وغيرهم مما نشرته لهم مؤسسة "فاهامو" المعروفة مع موقع "بامبازوكا" ؛PAMBAZUKA من نيروبى ولندن... وكلها تحت عناوين "الصين وأفريقيا" أو الصين فى أفريقيا... يتفق مجمل المحللين، سواء من داخل السياق أو خارجه، أن "إجماع بكين" يشكل تحديا خطيرا "لاجماع واشنطن" أمريكى الصنع، وركيزة العولمة الحديثة، لأنه يبشر بعالم اخر.. و"بالنموذج الصينى" كنموذج لتنمية بديلة"، وهو ما لا يقبله الغرب، على الاقل لأنه تحت شعار "الخصائص الصينية" التى تضعها الصين للحديث عن "اشتراكية السوق" أو "الرأسمالية الموجهة". وفى تقدير الخائفين من مشروع الهيمنة الجديد أن العولمة الحاليه لا تقبل بمصطلحات: التقدم - التصنيع- النمو- الكفاءة- التنافسية- العقلنة- الابداع فى الادارة، بديلا لمصطلحات اجماع واشنطن عن "السوق- التجارة ثم التنمية". وبهذه التعريفات التى أسماها "رامو" نفسه عناصر "إجماع بكين"... يمهد الفكر الغربى للتنبية لما خلف الاجراءات الاقتصادية الصينية من "القوة الناعمة" للصين ممثله فى سمعتها التنظيمية، وما بدأت تنتبه له من عناصر ثقافية، وتطوير الخطاب السياسى.. بل وما تجده من قبول لدى معظم "النظم الحاكمة" وخاصة الأفريقية التى ترى فى اجماع بكين قبولا بها هى نفسها وإمكان استمرارها ( وفى هذا الإطار كانت قفزة أوائل القرن بزيارة الرئيس الصينى لعشر دول أفريقية ، وافتتاح عشرات المشروعات الصينية بالقارة . ويدهش مفكر أفريقى مثل "كويسى براه"K.PRAH- غانى فى جنوب أفريقيا- من هذا الاتجاه ، لأن "الغرب" لا يحق له التعليق على "الحضور الصينى" وهو الذى استغل واستعبد أفريقيا لعدة قرون، بينما لم تظهر الصين على الساحة الأفريقية إلا منذ بضعة عقود! كما أن الغرب أيد سياسة الحزب الواحد والديكتاتوريات الأفريقية بما فيه الكفاية، وحتى مع ادعاءات مساندة الديمقراطية مؤخرا. أما المفكرون الصينيون فيرون أن المفهوم يفرض نفسه تدريجيا رغم عدم سعى الصين لذلك على الأقل للمدى القريب! ويعبر أحدهم : "لى زينج" بأنه إذا واصل النموذج الصينى نجاحه.. فإن "إجماع بكين" سيواصل نموه... ويبدو أن كاتبا غربيا معروفا مثل "أريف ديرليك"A.Dirlik قد رأى ذلك أيضا بقوله أن "إجماع بكين" ليس فى تمكين الصين اقتصاديا فقط ولكن فى قدرته على الحشد لمعارضى "إجماع واشنطن الامبريالى"! لابد هنا أن يتعرف القارئ على نقاط التأسيس أو الإغراء فى "إجماع بكين" الذى يهدد وحدة نفوذ العولمة! وفى هذه الحدود الضيقة للمقال دعونا نضع الكثير من النقاط تحت منظار التساؤل، وأحيانا الدهشة... والصين دائما مدهشة! فالكتابات الصينية المنشورة فى كتب أفريقية، ولا نقول فى بكين، تشير إلى دولة تقوم على ثلاثية: الجيش -الحزب- الحكومة. لكن هذه الدولة نفسها تتقدم على عناصر أخرى مثل: قيمة الابداع وليس "استلام التقدم" من آخر الخيط" كما ذكر أحدهم! -2- ضمان الديمومة لعملية التنمية، والمساواة وليس مجرد الرفاهية -3- تنظيم فوضى التوقعات والمخاوف السياسية التى يعانى منها علم الاجتماع الحديث وعلم إدارة الأزمات!- وكذلك الاستقلال الذاتى للمشروعات، أى أنها باختصار تنتقل من الاقتصادوية.. إلى المجتمعية. يتحدث الصينيون أكثر فى أسباب تقدمهم عن الاصلاح الزراعى كقوة دفع للانتاج، وعن الدور الكبير الذى تحول "للأسر المعيشية" ،والمشروع الصغير . وتصبح الملكية الخاصة هنا أكثر أهمية لتيسير التسويق للمنتج الزراعى، ثم يتحدث عن الاصلاح الاقتصادى الأوسع- بالتدريج أيضا، وحوار "الماكرو" "والميكرو"؛ وضرورة شعور المواطنين بالعائدات.. نتيجة طبيعة اقتصاد "مملوك من الجميع؛ لكنه محكوم من الدولة، ومراقب بالقوانين "لتضبيط" آليات السوق"... ويقولون صراحة "أن ذلك غير ممكن دون دور فعال لحزب الدولة الصينى لضمان السياسة الكلية وتحقيق الاستقرار السياسى والاجتماعى".... وبهذه السياسة "التدريجية" يمكن الوصول "لتعددية على مستوى العالم ،وخلق قوة متعددة الأطراف... من الواضح أن هذه "الصورة اللامعة" هى ما يغرى الكثيرين بالحديث عن الصين بتعدد وجوهها منذ قدمها مبكرا الزعيم "هسياو بنج" فى خطابه أمام الأممالمتحدة عام 1974 كطريق لخلق "قوة عظمى" من دولة اشتراكية، وحذر بنفسه من أى احتمال لتكون الصين "امبريالية اشتراكية، بل وطالب فى خطابه ذاك بمعارضة الصين لو صارت كذلك! مذكرا فى إِشارة عابرة إلى منتقدي "لين بياو" والكونفو شيوسية..!. كان الرجل يدرك أن الصين ستعيد تحقيق " قفزتها الكبرى" Great leap الشهيرة بوسائل جديدة، ولكنه يدرك أيضا أن ذلك قد يكون موضع معارضة عالمية متوقعه. ولتوضيح إشارات " هسياو بنج" المبكرة نذكر أن زعيما ومفكرا صينيا هاما بحجم "لين بياو" كان هو من صاغ الحملة ضد السوفيت فى الستينيات باعتبارهم "اشتراكية امبريالية"، وجزء من "المدينة العالمية"- وأن الصين هى قلب الريف العالمى الزاحف على هذه المدينة بقوى العالم الثالث...! "القفزة " الصينية الجديدة تختلف عن قفزتها الكبرى فى الخمسينيات ، فالسابقة كانت إلى الداخل أما "القفزة "الجديدة فتتم نحو الخارج بتسارع ملفت .....! قفزة إلى موا قع خطيرة مثل السودان ودار فور وجنوب السودان... ومالى!!. وقفزات فى مواقع شك مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا، وليبيا والمغارب عموما.. ثم قفزات إلى مواقع تاريخية تحدثنا عنها قبلا، فى شرقى ووسط أفريقيا...( تنزانيا – الكونغو..) هى قفزات بالفعل مع مطلع القرن الواحد والعشرين تجعل علاقات الصين التجارية مع أفريقيا تقفز من عشرة مليارات دولار عام 2001 إلى 189.5 مليار دولار 2012 وتوقع وصولها إلى 385 مليار عام 2015!! مقارنا ذلك ببلوغ تجارة الولاياتالمتحدة إلى 108.9 مليار فقط عام 2012. ومع ملاحظة مسعى الصين ليصير "اليوان" عملة دولية أمام الدولار بعد أن هاجمت الدولار كبديل للذهب فى الاحتياطى العالمى. وأن عددا متزايدا من البنوك الافريقية بدأ يتخذ "اليوان" عملة لاحتياطيها أو جزءا منها مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا.بل و سعى البعض لشراء سندات صينية ... الخ. لابد أن ننبه هنا أيضا أن "الهجوم الصينى" تقابله حملة بعيدة التأثير من تيارات متأثرة بالدعاية الرأسمالية المضادة من جهة ،بل وتيارات أخرى تقدمية "تخشى من حرف" التنمية البديلة" المتوقعة إلى عالم "الامبريالية الاشتراكية" التى سقطت أيضا فى الاتحاد السوفيتى بعد ما ابدته من تسلط وحماية لديكتاتوريات معروفة. والحديث يطول بالطبع عن مخاوف افريقيه من اثر انتشار البضائع الصينية، أو رخص أسعارها المعطل لأى تنمية محلية، و تضييع فرص العمل أو خلق نفوذ اقتصادى لطبقات اجتماعية سيئة السمعة، او رأسمالية كمبرادورية بطبعها لا تساند الاستقلال الوطنى الذى كانت تسعى له دائما "الدول النامية" أو "دول التحرر الوطنى" ! وكانت الصين الشعبية الاشتراكية تقف إلى جانبها... ثم أن الصين التى تدخل الآن بين قوى العولمة، لم تُبد إلا مؤخرا بعض مواقف التصدى لنفوذ قوى العولمة العسكرية المهيمنة... ويبقى السؤال المثير: كيف يساعد نمو العلاقات مع الصين الجديده فى إقامة بنية استقلالية حقيقية فى بلدان أفريقيا؟! الملفت كذلك .. أن كثيرا من المثقفين الذين كانوا إلى جانب "الماوية" الثورية يبدون ايضا "تفهما" لوضع الصين "العالمى" الجديد ، مؤكدين أهمية تطورها الإيجابى لصالح توازن القوى العالمى الجديد ، مختلفين فى ذلك عن المخاوف السائدة فى دوائر الأممية الاشتراكية التقليدية . لكن الكثيرين على كل حال يرون أن المشكلة هي فى دول العالم الثالث نفسها ومدى حرصها على تحويل هذه العلاقات لصالح الاستقلال الوطنى ، بطريقة تختلف- مرة أخرى- عن فهم حركة الاشتراكية الاممية التقليدية، آملين مع الجميع- وعلى الأقل- فى صيغة عالم جديد متعدد القوى والأطراف، تجد فيه القوى "الاستقلالية" مكانا فيه للتقدم. hsharawy [[email protected]]