Fadil Abbas [[email protected]] (مقال مترجم عن دراسة قام بها: آني فريتا س، معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، التابع للإتحاد الأوروبي. يونيو 2013) (( إن اقتسام المياه، ذلك المورد الاستراتيجي المتجه نحو الندرة، عملية من التعقيد والصعوبة بمكان؛ وفى حالة النيل بالتحد يد، فإن تعاطي سياسات مياه النيل ظل دائماً تجربة محفوفة بالمزالق والمخاطر والشكوك المتبادلة،...إذ يعيش علي شواطئ هذا النهر 430 مليون نسمة... موزعين بين 11 دولة: (بوروندي، جمهورية الكنغو الديمقراطية، مصر، إرتريا، إثيوبيا، كينيا، رواندا، السودان، جنوب السودان، تنزانيا، يوغندا)، ...وهو أطول نهر عابر للدول فى إفريقيا. وحتي اليوم، ليست هناك رؤية محددة لدي الأطراف الإفريقية المتشاطئة حول كيفية اقتسام مياه نهر النيل العظيم. هذا، ولقد تم التوصل للعديد من التفاهمات والإجراءات حسنة النية بالسابق، ولكنها لم تتحول حتي هذه اللحظة إلي آليات تخدم قضية التعاون بين الدول المعنية. وهكذا، ظلت السياسات المائية النيلية تسير علي أنغام روتينية رتيبة، ولم يكدر صفوها أي حدث مجلجل ملفت للنظر؛ ولكن، في الآونة الأخيرة، بدا ما قد يعكر الصفو... ويرجّ الوضع الراهن المستكين رجاً. الطلب المتزايد: لم تكن هناك مواثيق أو بروتوكولات مائية فى العهود الإستعمارية...سوي بضع اتفاقيات ثنائية قصيرة النظر...حيث أنها لم تشمل الدول الأخري صاحبة الحق في مياه النيل؛...... أما اليوم، فقد برزت للوجود "مبادرة دول حوض النيل" متعددة الأطراف، عام 1999، لتكون بمثابة إطار تدخل في بردته كل دول الحوض... في عملية تعاون وتناغم لا بأس بها. وتهدف هذه المبادرة التى احتفت بها الأسرة الدولية ووقعتها تسع دول (بوروندي والكنغو ومصر وإثيوبيا وكينيا ورواندا والسودان وتنزانيا ويوغندا)...تهدف للإستئناس بمنهجية جديدة وعادلة ومستدامة في مقاربة ملف مياه النيل. علي كل حال، شهدت دول المبادرة التسع انفجاراً سكانياً هائلاً فى العقد الأخير...مما زاد من حاجتها لمياه النيل؛ وحسب تقديرات الأممالمتحدة، فإن عدد سكان هذه الدول سيتضاعف مع حلول 2050...كما سيتضاعف سكان المدن الكبري بمنطقة حوض النيل ثلاث مرات. ولقد تنامت الحاجة للمياه كذلك فى مجال انتاج الطاقة والمواد الغذائية من خضر وفاكهة وأعلاف. والجدير بالذكر أن 2% فقط من مياه النيل تتم الاستفادة منها حالياً لأغراض الري؛ وهذا وضع فى طريقه للتغيير، ليس فقط بفضل التقنيات الحديثة التى شهدتها عمليات الري الصناعي، إنما كذلك بسبب الحاجة المتزايدة لري المزارع الضخمة على ضفاف النيل التى أنشأتها الشركات الإقليمية والعالمية فى السنوات الأخيرة؛ وكذلك أخذت العديد من دول الحوض، مثل إثيوبيا ويوغندا، بالشروع فى محاولة الاستفادة من مياه النيل المتدفقة بأراضيها...لتوليد الطاقة الكهربائية الهايدرولوجية. وثمة مشكلة أخرى تساهم فى تفاقم الضغوط المتزايدة فى مجال الطلب...وهي نقص الموارد المائية بصفة عامة فى الحوض بأسره، وسيستمر هذا التناقص بشرق إفريقيا بالذات فى المستقبل المنظور؛ ورغم الاختلافات فى التوقعات المحددة من الناحية المترولوجية، إلا أن معظم الخبراء يتفقون علي أن التغيير المناخي والبيئي الراهن...سيكون له أثر سلبي على موارد حوض النيل المائية في العقود القادمة، بلا أدني شك. دول المنبع ودول المصب: وبالنظر للحاجة المتزايدة لمورد المياه التى تواجهها دول المبادرة، فقد دخلت هذه الدول فى مفاوضات متعددة الأطراف بغرض إعادة النظر فى الطريقة المتبعة حالياً فى إقتسام مياه النيل،... وتوصلت بعد مفاوضات مكثفة ومطولة "للإتفاقية الإطارية للتعاون" عام 2010...بديلاً عن "المبادرة" المذكورة،....ولكن لم توقع عليها حتي الآن سوي ست دول... كلها من دول المنبع: بوروندي وإثيوبيا وكينيا ورواندا وتنزانيا ويوغندا،... بينما استنكف عن التوقيع كل من السودان ومصر اللذين يزعمان بأن الإتفاقية تتجاوز الحقوق المكتسبة لكليهما فى مياه النيل. وبالإضافة لهذه الإتفاقية "محل الخلاف"، باشرت إثيوبيا نشاطها الخاص بتشييد سد جديد علي النيل الأزرق (سد النهضة الكبري)، فأشعلت فتيل الخلافات العميقة بين دولتي المصب (مصر والسودان) ودول المنبع....وسيكون هذا السد من أكبر مولدات الطاقة الكهرومائية بإفريقيا، ولكن بعض الدراسات تشير إلي أنه سيؤُثر سلباً لا محالة علي كميات المياه التى تغذي نهر النيل... وكمحاولة لرتق الفتق ورأب الصدع، تم تشكيل لجنة فنية ثلاثية لتقدير آثار السد السالبة علي كل من إثيوبيا ومصر والسودان؛ وبرغم التمثيل المتكافئ باللجنة، فإن طبيعتها الفنية قد لا تسمح لها بالخروج بقرارات سياسية ذات وزن...تساهم فى حل القضية. إن الجوانب الفنية لهذه الأزمة متداخلة مع الجوانب السياسية؛ فبقدرما كانت النقاط الفنية متفقاً عليها، بقدرما سيصبح التفاهم والاتفاق السياسي ميسوراً. ولقد ثار جدل كثيف حول التفاهمات الأخيرة - مثل "المبادرة" و"الاتفاقية الإطارية"- باعتبارهما أقل من الطموحات الخاصة بحل هذه المشكلة حلاً جذريا،... و لا بد من حلول متعددة الأطراف وشاملة... بالإضافة للإتفاقيات الثنائية التي تستهدف التوازن الصحيح والعادل بين المصالح المختلفة والرؤي المتباينة، علي أرضية من المرونة والانفتاح علي الآخر واحترام وجهة نظره. ً اللاعبون المفصليون: لقد دخل عنصر جديد خطير ضمن الجهات المانحة والممولة لمشاريع الاستفادة من مياه النيل، بالإضافة لمن كانوا معروفين قبل سنوات: وهو "صندوق حوض النيل" المشترك بين "المبادرة" والبنك الدولي. ولكن هذا الصندوق كان دائماً يفترض الموافقة الجماعية المسبقة من جانب كل دول الحوض...قبل الدخول فى عملية تمويل لأي مشروع هادف للاستفادة من مياه النيل في تدعيم البنية التحتية...لأي من الدول الواقعة علي ضفاف النيل.... ولكن، مع ظهور ممولين جدد مثل الصين والهند ودول الخليج العربي، أصبح التقيد بشرط الموافقة الإجماعية غير وارد.... ولقد جاء هؤلاء الممولون الجدد بشروط مرنة وغير محملة ببنود تعجيزية مثل تلك التى اشتهر بها البنك الدولي، مما شجع الدول المتلقية المعنية علي المضي قدماً فى تحقيق طموحاتها التنموية الوطنية التى قد تتعارض مع مصالح الدول الأخري المطلة على النهر. وهكذا، فقد إرتج ميزان القوي المائي الذى ظل يحافظ علي الحد الأدني من التفاهم بين دول حوض النيل، بما جنبها المواجهة الصريحة حتى الآن. علي كل حال، يجب أن نأخذ فى اعتبارنا أن إدارة مياه النيل لا تنحصر فقط في المورد المائي، إنما تستبطن كذلك النمو الاقتصادي والشؤون الاقتصادية برمتها، فى إطار الطموحات السياسية الوطنية التى تحف بها، الخاصة بكل دولة علي حدة. وفى السنوات الأخيرة، تعرضت السياسات المائية الخاصة باقتسام الموارد المائية، وما يتبعها من نشاط دبلوماسي، لاختلاجات وهزات واضحة فى منطقة حوض النيل. ولقد شهدت المنطقة زوال نظام حسني مبارك فى مصر ووفاة الرئيس الإثيوبي ملس زيناوي، مما أوجد ضبابية سياسية فى كلا البلدين،... وكذلك شهدت العديد من دول المنطقة شيئاً من عدم الاستقرار، مثل إرتريا والكنغو ورواندا وبوروندي والصومال وكينيا... ومن الواضح أن هناك العديد من الاحتقانات بالمنطقة التى قد تنفجر فى أي لحظة؛ فإثيوبيا وإرتريا بينهما حرب وضعت أوزارها بالكاد عام 2000... ولكن ليس هناك ما يمنع تفجرها من جديد. ولقد برزت دولة جنوب السودان وأعلنت أنها بصدد إنشاء مشاريع تنموية متكئة على موارد النيل المائية، مما قد يزيد من تصعيد العدائيات بين الدولة الوليدة وكل من السودان ومصر. وبالطبع، فإن مشكلة سد النهضة الإثيوبي فاغرة فمها إلي حين إشعار آخر. وهكذا، فإن الوضع متفجر، خاصة إذا أصبحت مشكلة مياه النيل مادة للمزايدة السياسية أو للدعاية الانتخابية بهذه أو تلك من دول الحوض. دور الإتحاد الأوروبي فى كبح جماح العدائيات: على الإتحاد الأوروبي لعب الدور الإيجابي المنوط به، وهو تشجيع الحلول التفاوضية السلمية...وبناء الثقة المتبادلة والتعاون المشترك بين الأطراف المعنية. وباعتبار خاص لخبرة الدول الأوروبية ومعرفتها بالدول المعنية منذ أيام الاستعمار، فإنها مؤهلة للعب هذا الدور الإيجابي، وذلك حتي تمهد الأرض للتمويل اللازم لمشروعات التنمية بحوض النيل كله...علي أرضية من السلام والوئام وروح التعاون... وبهذا يتم ربط المبادرات الدبلوماسية لتقريب الرؤوس بالمساعدات التى تقدمها الدول الأوروبية فى مجال تشييد البني التحتية بهذه الدول.... وهذه أشياء برع الأوروبيون فيها، بدليل النجاحات التى حققوها فى بناء الإتحاد نفسه عبر مفاوضات دؤوبة وصبورة لسنين طويلة...من السوق المشتركة...حتي الاتحاد الأوروبي. من الضروري تشجيع دول المنبع والمصب نحو المزيد من التعاون لإنفاذ المشاريع المشتركة الهادفة لزيادة الموارد المائية وترشيد الاستهلاك واقتسام الثروة المائية بالقسطاس بينها. وعلي الرغم من الخطر المؤكد الذى يمثله التغيير المناخي، فإن التعاون بين الدول المعنية قد يساهم في استمرار هذه الثروة المائية، بقدر الإمكان، غير منقوصة...لفترة أطول. وفى هذا المجال، يستطيع الاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع اللاعبين الدوليين الآخرين ذوي العلاقة، أن يطور الوسائل والتقنيات الخاصة بالمحافظة علي هذه الثروة المائية...بل وزيادتها واستدامتها. )) والسلام.