ما إن لوحت الخرطوم بإغلاق صنبور النفط وبالتالي وقف تصدير نفط الجنوب، حتى ارتسمت التأثيرات الاقتصادية السالبة شمالاً وجنوباً، وهو ما جعل الوسطاء الدوليين يهرعون في محاولة لإطفاء حريق ربما يمتد لهيبه الى كامل جسد العلاقة بين البلدين المنفصلين حديثاً، وفي البال الأضرار الكبيرة التي يمكن أن تحط على الدول الشركاء في صناعة نفط الجنوب، فضلاً عن المترتبات على سوق النفط العالمي. خطوات للتقارب سريعاً حزم الوسطاء أمرهم وأرسلوا الوفود لتقريب الشقة بين الخرطوموجوبا، وبدأ واضحاً أن المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي يطمحان إلى إرساء علاقة مستقرة بين دولتي السودان تسمح بتدفق النفط حتى لا يتأثر الشركاء الدوليون، وهو ما حدا برئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى؛ ثامبو امبيكي، للدفع بوصفة طبية سريعة لتلافي التقيحات التي برزت على جرح العلاقة بين الخرطوموجوبا، وسريعاً وضع الرجل حزمة من المقترحات أمام حكومتي البلدين بغية إنهاء القطيعة الناعمة التي لا يستبعد الخبراء أن تقود الدولتين الى مواجهة عسكرية شاملة. وهذا ربما حفز امبيكي على مطالبة الحكومتين للنظر بعين الاعتبار إلى أطروحته الوفاقية، الأمر الذي كان سبباً مباشراً في قبول الحكومة بورقة الوسيط الأفريقي للتسوية، شريطة أن تلتزم جوبا بعدم دعم وإيواء الحركات المسلحة المناوئة للخرطوم؛ وخاصة التشكيل العسكري المعروف سياسياً بالجبهة الثورية، وهذا عين ما حوته ورقة امبيكي الإصلاحية ؛عندما نادت بضرورة أن تلتزم الدولتان بتقديم أدلة ملموسة وقرائن منظورة على قطع العلائق مع الحركات المسلحة المعادية للطرف الآخر. إذاً الوسيط الأمريكي استطاع إيقاد شمعة مضيئة في نفق العلاقة بين دولتي السودان المعتم، ما يعني أن الخرطوموجوبا كليهما غير راغب في التصعيد، وخاصة الخرطوم التي بدأت ترسم لها الأقدار -تخطيطاً أو مصادفة- سيناريوهات تراجعية عن قرارها المفاجئ. الوضع الاقتصادي العجز الكبير الذي يمكن ان يفرزه توقف إنتاج النفط -جنوبا- أو تصديره عبر أنابيب الشمال، من المؤكد انه سيلقى- استناداً الى حقائق وأرقام مثبتة- منها أن عائدات النفط المتوقعة لتصدير النفط- متضمنة تعويض السودان- تبلغ (900) مليون دولار للنصف الثاني (2013) فيما تبلغ حوالي (2-2,500) مليار دولار في العام 2014، وهذا المبلغ متضمن الدعم لحكومة السودان يستمر لثلاث سنوات يصبح العائد منها يتراوح ما بين (1-1,200) مليار دولار؛ وهذا يتوقف على زيادة معدل إنتاج الجنوب من النفط، وبهذه الحسبة كان يمكن أن تستفيد الموازنة بأكثر من (4) مليارات جنيه من النصف الثاني للعام الحالي؛ وكان متوقع أن تبلغ إيرادات الموازنة من تصدير النفط الجنوبي (8) مليارات جنيه (2014) وهو ما كان من شأنه تحسين موقف النقد الأجنبي وإيرادات الموازنة، وبالنسبة للجنوب فإن الإعانات التي تتلقاها حكومة الجنوب لا يمكن ان تقوم مقام النفط؛ إذ إنها لا تمثل 50% من عائد نفطها كما أنها مشروطة؛ لذلك هي غير مستعدة للاستمرار في غياب مورد النفط عنها- بظلال سالبة على كلتا الدولتين فجوبا التي تعتمد على النفط بنسبة (98%)، ولا سيما الدولة الوليدة؛ لجهة أن منتوجها من النفط الذي تعتمد عليه كلياً لبناء الدولة الناشئة، سيغيب عن المشهد الاقتصادي هناك، يقابله فقد الشمال لرسوم عائدات نقل النفط والمقدرة بنحو ثلاثة مليارات دولار أو ما يعرف الاتفاق النفطي الموقع بين الدولتين بالدفعيات الانتقالية، اذاً لا عاصم للخرطوم من الضرر، حال تمنعت من الاستجابة الفورية لورقة امبيكي للتهدئة، بل إن السوق الموزاي للنقد الأجنبي شهد تصاعداً ملحوظاً للدولار حتى بلغت 7 جنيهات؛ غداة قرار الخرطوم بإغلاق الأنوب؛ علاوة على ما بينه وزير المالية علي محمود- خلال تقديمه أخيراً تقرير أداء الميزانية في الربع الأول من عام 2013- حيث أوضح أن الفجوة في ميزان المدفوعات بلغت (4,9) ملايين دولار؛ مقارنة بفائض (1,2) مليون دولار نهاية الربع الأول للعام 2012، وأن ميزان الخدمات والدخل والتحويلات من المغتربين في ميزان المدفوعات وحده يواجه عجزاً بلغ( 159) مليون دولار، وانخفضت قيمة الصادرات بنسبة 13.3% بينما ارتفعت قيمة الواردات بنسبة 11.7%، وبالمقابل فإن جوبا موعودة بتأثيرات سالبة مريرة حال تمترست في خط التصعيد ورفضت الهدنة المطروحة من الوسيط الأفريقي، والشاهد أن قفل جنوب السودان للنفط المرة السابقة أفقده إيرادات لا تقل عن (8-10) مليارات دولار خلال فترة توقف الضخ؛ وكان المتوقع أن يعود عليه في الأشهر الستة القادمة ما لايقل عن (4) مليارات دولار؛ وعدمها يفقده إيرادات الموازنة بالكامل، وفترة التوقف أثبتت للجنوب أنه لن يستطيع أن يصبح دولة إلا بالاستفادة من مورد النفط وهذا لايعني أن الجنوب بلا موارد؛ لكنه لا يستغلها والنفط هو المورد الوحيد المتاح. حاجة ملحاحة فالمعطيات تؤكد أن الخرطوموجوبا كلتيهما في حاجة ماسة للتهدئة وإحكام صوت العقل، لكن ذلك دون اشتراطات موجعة لابد من تنفيذها حتى ينساب النفط الجنوبي في انبوب الشمال، أقلها فتح الحدود والمعابر بين البلدين أمام التبادل التجاري، بجانب تنفيذ مقترح المنطقة العازلة الواردة في اتفاقيات التعاون المشترك الموقعة بين رئيسي البلدين في سبتمبر الماضي بالعاصمة الاثيوبية أديس أبابا، ثم أهم من ذلك؛ وهو الأشق على طرفي الصراع شمالا وجنوبا؛ والمتمثل في الأيادي الناشطة في تقديم الدعم واللوجستيات للحركات المسلحة؛ التي تعادي حكومتي الطرفين، وتبعاً لذلك يتوجب على الخرطوم أن تتخلى من دعم الحركات المسلحة التي تقاتل جيش دولة جنوب السودان، وأيضاً سيتوجب على دولة جنوب السودان الوليدة رفع يدها عن دعم وإيواء الحركات المسلحة المعادية للخرطوم؛ وخاصة الجبهة الثورية وقطاع الشمال، كشرط أساسي حوته ورقة الوسيط الأفريقي، فهل الخرطوموجوبا قادرتان على ذلك؟. عملياً شرعت الأولى في إبعاد العناصر الجنوبية المقلقة لجوبا، أما الأخيرة فستجلس إلى امتحان التهدئة العسير لتجيب على سؤال امبيكي الصعب نظرياً على الورق؛ وعملياً على أرض الواقع، خاصة أن المحللين يرون أن سلفاكير باتجاهه لبناء خط أنبوب عبر ميناء لامو الكيني؛ يعني أنه فشل في الاستجابة إلى شرط الخرطوم الذي يقرن مرور النفط الجنوبي بقطع العلائق بين الدولة والوليدة وبين الجبهة الثورية. ارتباطات دولية لم يكن الوسيط الأفريقي ثابو امبيكي يطمح إلى وقف التراشق بين الخرطوموجوبا بغية انسياب النفط، بل كان يفكر في أبعد من ذلك؛ لجهة أن المجتمع الدولي؛ وخصوصاً أمريكا؛ ترنو لخلق توازن في سوق النفط العالمي من خلال نفط دولة الجنوب؛ رغم عدم تأثيره كثيراً في السوق، فضلاً عن أن أمريكا التي ساندت انفصال الجنوب تعتبر أن الجنوب دولة وليدة؛ ولا زالت تتلقى الإعانات، وبناء على ذلك تتخوف- ومن ورائها المجتمع الدولي- من أن تصبح دولة جنوب السودان التي تصنف كدولة رخوة عالة على المجتمع الدولي حال استمر إغلاق النفط، فضلاً عن أن الشركاء في صناعة النفط وخاصة الصين التي أظهرت انزاعجاً مرصوداً من قرار الخرطوم؛ تطمح قبل غيرها الى سريان النفط الجنوبي في أنبوب الشمال؛ خاصة أن الدولة الوليدة لا تطل على إيما ساحل أو تصدير النفط مرهون بالمرور عبر الشمال، ومعلوم أن الصين تعد حليفاً استراتيجياً للخرطوم، ومن العسير على الخرطوم أن ترفض طلباً لحليفها، على الرغم من أن المحللين السياسيين يعتبرون أن الصين لم تقف يوماً في جانب السودان في عراكه السياسي مع المجتمع الدولي حيث إنها لم تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن لإبطال سلسلة من القرارات الكبيرة ضد الخرطوم آنذاك، بل إن مندوب بكين كان يمتنع عن التصويت على تلك القرارات في أحسن الحالات؛ ولكن مع ذلك فالواضح أن الصين تعمل بدبلوماسية؛ لأن سياستها مبنية على عدم التدخل في الشأن الداخلي بقدر أنها تكون وسيطاً. إمكانية التراجع ومن خلال مايدور في ما يتعلق بأزمة النفط الأخيرة التي نشبت وإمكانية التراجع ومعالجة الأزمة من خلال تدخل الوسطاء والدول الشركاء في صناعة النفط تؤكد المعطيات إمكانية حدوث تراجع في قرار إيقاف تصدير نفط الجنوب منذ البداية، وكثيرون يستندون في ذلك على مسألة ال(60 ) يوماً، مع العلم بأن المقصود منها جانب فني ومنصوص عليها في الاتفاقية؛ إلا أنها تعطي فرصة للتراجع دون تأثر، وإذا تم التوافق على التراجع لا تكون هنالك تعقيدات فنية على غرار ما حدث؛ حين أوقف الجنوب نفطه المرة الماضية. rehab abdala [[email protected]]