بدأت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بتاريخ 26/1/2009م أولى محاكماتها في جو إجرائي مضطرب تخلله تبادل اتهامات بتورط بعض المنظمات الدولية في إملاء إفادات غير صحيحة على الشهود وتشكيك من هيئة الدفاع في عدالة المحاكمة، فقد مثل أمام المحكمة المتهم الكنغولي «توماس لوبنغا» بتهمة ارتكابه جريمة حرب عبر تجنيد أطفال لم تتجاوز أعمارهم «15» عاماً في مليشيته خلال الحرب الأهلية التي أودت بحياة أكثر من «60» ألف شخص. وقد بدأت المهزلة الإجرائية حين مثل أمام المحكمة أول شهود الاتهام وهو عبارة عن طفل زعم المدعي العام بأنه جند قسراً من قبل مليشيا المتهم، وكانت قمة التراجيديا حين تراجع الشاهد عن زعمه ذلك وصرح بأن إحدى المنظمات الإنسانية أملت عليه شهادته مقابل وعود بمساعدته. واضطر القاضي البريطاني «ادريان فلفورد» رئيس هيئة المحكمة لإصدار قرار بصرف الشاهد ورفض شهادته وطلب من المدعي العام تقديم تقرير للمحكمة حول حالة حماية الشهود بعد عودتهم للكنغو، خاصة وأن الشاهد الثاني المفترض سماعه في الجلسة القادمة من أقارب الشاهد الأول الذي رفضت شهادته، ومما زاد الطين بلة شكوى هيئة الدفاع من عدم دقة الترجمة الفورية لأقوال الشاهد من اللغة السواحيلية للإنجليزية، وخطورة هذا الأمر عند الأخذ في الاعتبار الأهمية الرمزية للمحاكمة يشكك في مهنية وتأهيل قسم حساس في المحكمة في ظل حقيقة أن جميع الشهود والمتهمين لا يتقنون اللغتين الإنجليزية والفرنسية. وفي نفس السياق اتهمت هيئة الدفاع الدول الغربية بدعم محاكمة المتهم بالرغم من ارتكابها نفسها لجرائم دولية خطيرة في القارة الأفريقية، وأشارت إلى أن تلك القوى لا ترغب لأسباب انتهازية في ملاحقة أسماك القرش الكبيرة في حكومات رواندا والكنغو ويوغندا واكتفت بالمتهم المذكور ككبش فداء. وختمت هذه الأجواء المشحونة رئيسة هيئة الدفاع الفرنسية «كاثرين مابيل» حين شككت في عدالة المحاكمة في ظل عدم مقدرتها الإطلاع على أدلة سرية وفرتها الأممالمتحدة ومنظمات دولية للمدعي العام. يرى المراقبون أن سير أول محاكمة للمحكمة بهذه الطريقة يمثل صفعة قاسية للمدعي العام «لويس اوكامبو»، فقد كان يفترض أن تكون الجلسة التي حشدت لها مختلف وسائل الإعلام الدولية تدشيناً لنقطة فارقة في تاريخ العدالة الدولية والمحكمة، حيث أن جميع المحاكمات الدولية السابقة كانت في محاكم خاصة مؤقتة عقدت لدول بعينها إلا أن هذه المحكمة دائمة وأسست نظرياً لجميع دول العالم. إضافةً لتميز المحكمة عن غيرها بالسماح للضحايا بتقديم إفاداتهم كشهود اتهام وإمكانية مطالبتهم المتهم بدفع تعويضات مالية عما لحق بهم من أضرار. ويمكن تفهم إحباط المنشغلين بشأن العدالة الدولية للبداية المضطربة للمحكمة في ظل التأخير غير المبرر لبدء المحاكمة، حيث استغرقت الإجراءات التحضيرية للمدعي العام أكثر من ثلاثة أعوام فتمخض الفيل فولد فأراً. وقد وصل الأمر إلى درجة تعبير القاضي البريطاني عن خيبة أمله للدبلوماسيين الأجانب المعتمدين لدى هولندا بسبب تأخر المحاكمة. والجدير بالذكر أن القضية كادت تنسف من أساسها أثناء مرحلتها الابتدائية، حيث قرر القاضي استحالة توفير محاكمة عادلة للمتهم في ظل إصرار المدعي العام عدم كشف أدلة سرية وفرتها له الأممالمتحدة مما يحرم الدفاع من حقه في الإطلاع عليها ومناقشتها. وقد أنقذ الموقف سماح الأممالمتحدة بكشف جزء من تلك الأدلة للدفاع مع حصر الإطلاع على بقيتها للقضاة فقط. هذه المحاكمة تفتح الباب لعدة ملاحظات مهمة. أولها أن أوكامبو أراد أن تكون قضيته الأولى سهلة الكسب، حيث حصر اتهامه للمتهم في تجنيد أطفال قصر ولم يوجه له تهم خطيرة كالقتل بالرغم من وجود تقارير من منظمات حقوق إنسان تفيد بتورط مليشيا المتهم في عمليات قتل جماعي. ثانيا، يدل رفض شاهد الاتهام الأول على اعتماد المدعي العام على بينات سماعية دون تمحيصها والتحقق منها أو في أقل التقديرات اختيار شهوده بصورة خاطئة أو عدم تحضيرهم بصورة جيدة لتقديم إفاداتهم. ثالثاً، لائحة الشهود تدل على تخبط المدعي العام حيث أن هنالك شاهدة ستمثل أمام المحكمة لتقديم إفادتها حول اغتصابها بصورة متكررة من قبل جنود المتهم وذلك بالرغم من عدم توجيه تهم ذات علاقة جنسية للمتهم مما يدل على خطأ في لائحة الاتهام أو وجود شاهدة زائدة لا تفيد في إثبات التهمة الموجهة للمتهم. رابعاً، يمكن اعتبار محاكمة «توماس لوبنغا» استمراراً لسياسة محاكمة المهزومين في الحروب، تلك السياسة التي بدأت بمحاكمات نورنبرج وطوكيو في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هذه الملاحظات مجتمعة تقودنا إلى تساؤلين مشروعين أولها، مدى اختصاص بعثات الأممالمتحدة والمنظمات الدولية التي تعمل في دول مضطربة وفقاً لاتفاقات معينة تحدد اختصاصاتها في جمع أدلة سرية للمدعي العام للمحكمة. ثانياً مدى مصداقية معايير المحكمة من حيث تماثل الدعاوى التي تنظر فيها، فأحداث 10 مايو الشهيرة في أم درمان بشهادة عدد من المنظمات الدولية شارك فيها عدد كبير من الأطفال فلماذا لم يفتح «أوكامبو» تحقيقاً حولها كما فعل في قضية «توماس لوبنغا»، فمثل هذه المواقف تقدح في مصداقية المحكمة التي ترفع شعار ضمان عدم الإفلات من العقاب