د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    نقل طلاب الشهادة السودانية إلى ولاية الجزيرة يثير استنكار الأهالي    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رمضان زمان فى أمدرمان 2 .... بقلم: شوقي بدري
نشر في سودانيل يوم 10 - 09 - 2009

الحياة لا تتوقف فى نهار رمضان الا أنها تصير أكثر هدوء وخاصة أن رمضان فى بداية الخمسينيات كان يأتى فى شهرى مايو ويونيو وهما أشد الشهور حرارة فى أمدرمان .
الرجال الكبار كانوا يقضون الوقت فى قراءة القرآن أو لعب الطاولة ، والشباب يلعبون الورق خاصة فى نهار يوم الجمعة ، حيث تمتلىء بهم الأندية الثقافية ويمارسون ما يساعد على تزجية الوقت .
كثير من النساء يقضين الظهر والعصر فى النوم ، ولكن النسوة كبار السن كانت لهن نشاطات أخرى . جدتى فى بيت المال كانت تقضى نهار رمضان مع المترار الذى يتخلله الحديث وتبادل الأخبار مع صديقاتها .
المترار بأوزان مختلفة والقرص قد يكون من القرع أو الخشب أو الفخار ، والثقل يحدد نوع الفتلة . ويفرك على الفخذ ليدور فى الهواء ثم ينزل الى الأرض بمهارة حتى تحدد الأرض السرعة أو الفرملة .
وعندما يمتلىء القرص يخرجن الغزل ويضعنه جانبا الى أن تكتمل الكمية المناسبة . وهنالك نوعان من الغزل وهما السداية واللحمة . ويصلن الغزل فى (شله) ضخمة بحذر شديد حتى لا يتشابك الغزل . ويقول المثل (الله يلخبط غزلك) فى حالة الغضب .
ويأخذن كل هذا الى االنساج الذى يعمل أكثر فى ايام رمضان .. وقد كن يعملن فى الليل خاصة بعد ادخال الكهرباء . فالكثيرات يردن أن يقابلن العيد بفرحة جديدة .
النساج يجلس فى حفرة ويعمل بيديه ورجليه ورأسه فى حالة حركة شمال يمين لمتابعة الغزل . احدى النساء اختلفت مع النساج فى أمدرمان فقالت له (خاتية أنا الجيتكم . انتو نص مدفون ونص مجنون) .
النسوة يشترين القطن بالقرب من سوق العناقريب ويقمن بنظافته من الغلغل ونفشه . وعملية المترار تحتاج الى مهارة . وفى يد النسوة المتمرسات ينطلق المترار بصورة رائعة . ولقد قال الشاعر محجوب شريف فى نعى الرجل الفاضل عبدالكريم ميرغنى مشيرا الى قيامه بنفسه على خدمة ضيوفه (تساسق تقول مترار).. فى رمضان تنفض الفتيات الغبار عن المنسج لعمل الطواقى وتزجية الوقت وقد يجتمعن فى مجموعات وينسجن الطواقى الفاخرة التى تأخذ وقتا طويلا للأخ العزيز أو الخطيب ، وكذلك المناديل المشغولة .
كما يصنعن الطواقى العادية ويقمن ببيعها وشراء شيىء جميل للعيد . الطاقية كانت تستهلك كمية صغيرة من الدبلان و 4-5 شلات من خيط الحرير والشلة تساوى 5ر1 وتباع الطاقية ب 20- 25 قرشا .
وكان فى أمدرمان قديما سوق كامل للطواقى بالقرب من الجزر . وفى هذا السوق كانت تباع الهبابات التى لا تستغنى عنها النساء الكبار فى شهر رمضان أو شهور الصيف ، ولها مقبض من الجريد مغطى بقماش أحمر أو أزرق وهى من الحنقوق المشغول بخيوط الحرير ولها أشكال والوان جميلة وتساوى 20 – 25 قرشا حسب الصنعة .
من هذا السوق يشترى الناس الوقايات التى توضع عليها جبنة القهوة وهى مكملة لفطور رمضان . والوقاية تساوى 7 – 15 قرشا حسب الصنعة والشكل والحجم وكمية السكسك .
ونحنا أطفال كنا نحاول أن نصوم نصف يوم أو يوما كاملا . وكنا نسأل بعضنا البعض ( صايم صيام الضب ولا صيام السحلية ؟ . صيام الضب البلقا كلو بيقول لى كب ، وصيام السحلية البلتلقا كلو بتخليى للعشية) .
شقيقة صديقى من حى الملازمين ، والذى صار عضو مجلس نميرى ، كانت تكبرنا قليلا ونحن أطفال . وكانت تحاول الصيام . وخرجت مرة من الحمام وتشجأت ثم تغيأت كمية ضخمة من الماء . فصار شقيقاها يعيرانها ويضحكان عليها .
أصدقائى العجلاتية ، الطيب عجوبة ومصطفى كيكسى ، كانا يشتركان فى حمار عجلاتية . وفى الحمار الآخر يشترك خلف الله أبوكرنك ، وفى بعض الأحيان ينضم اليهم العجلاتى زرقان شقيق خلف الله . وكانوا يعملون فى العراء فى المبنى الذى كان قد انهار فى وسط ميدان البريد الحالى من الجهة الشمالية ولسنين عديدة ، وكانوا يعملون تحت الشمس . وكنت أساعدهم فى بعض الأحيان . ولم يكونوا يصومون . وفى أحد الأيام كنت أجلس بالقرب منهم وأنا صائم وهم يتناولون طعام الفطور فى الصباح . فأتى رجل ضخم طويل القامة وطلب ( كرامة لله ) . ونسيت رمضان وقلت له بعفوية ( اتفضل أكل مع الناس ) . فنظر الىّ شذرا وقال ( ليه أنا كلب فاطر رمضان ؟) . فقذفه الطيوبة ، وهو ملاكم شرس باللقمة التى فى يده وقال له ( طويل كده وتشحد . امشى اشتغل . تشتغل زينا فى الشمس دى من الصباح للمغرب ، والله الا تركب ليك لديتر فى ........ ) .
بابكر بدرى أورد فى كتاب (حياتى) أن أحد أهل البادية أتى شاكيا للمأمور المصرى قائلا ان احدا قد نبزو نبز كعب ، قال لى ( كلب فاطر رمضان ) فقال المامور ( أيه يعنى ما أنا فاطر ) فقال البدوى ( هاى لاكين جنابك انت ما ............) . فطرده المامور غاضبا ، وقال لجلسائه ( هلكنى ابن الكلب ).
السمر هو الشيىء المكمل لمساء وليل رمضان . ولأن الناس قديما كانوا يأكلون فى مجموعات ، وفى بعض الأحيان خارج ديارهم ، فما أن يقترب رمضان حتى يأتى أحد الكبار بلورى رملة يطرح على الناحية وتفرد بعض الأحجار حول الرمال لكى تكون مجلسا للفطور والصلاة والسمر الى وقت متأخر
والكل يحضر صينيته .
كثير من الناس كانوا لا يستطيعون أن يبلغوا دارهم فى وقت الفطور ولم يكونوا يتحرجون فى قبول دعوة الآخرين .
بعض الاخوة الأرتريين الذين حضروا للسويد كانوا يحكون للسويديين ، بأمهم لقلة المال كانوا يتحركون فى الأسواق ويقبلون دعوة الناس للأكل بدون سابق معرفة بل كانوا يقولون بأنهم يأكلون أكثر فى رمضان لأن الموائد كانت على الطرقات خاصة فى أمدرمان .. ولم يكن أى انسان يهتم بأنهم مسيحيون مما كان يحير السويديين .
المقاهى كانت تمتلىء بشكل غير عادى فى أيام رمضان وتنتشر الألعاب مثل النوامة أو الدوارة فى أغلب المقاهى الشعبية .. وفى بعض المقاهى قد توجد خمس نوامات . وطبعا كان هنالك الكنكان وهو كنكان عشرة وستة المعروف بكنكان عتاله . وهنالك لعبة اسمها (ألواح) وهى مثل البينقو .. الواح صغيرة من الموسونايت بأربعة أقسام فى كل قسم رقم من واحد الى مائة وعلى ظهرها رقم للوح لكى يقوم المعلم بتسجيله بعد دفع الرسوم . وهنالك كيس بمربعات خشبية صغيرة اسمها البذورة يخرجها المعلم بعد هز الكيس جيدا ومن تخرج أرقامه الأربعة قبل الآخرين يربح كل شيىء بعد خصم نسبة للمقهى .
البريمو لعبة مثل (الفلر) الذى ينتشر فى كل العالم وهى جلة صغيرة يطلقها الانسان بياى لكى تسقط فى حفرة لها رقم . ومن يتحصل على الرقم الأعلى يكسب .
ولكن الشيىء المهم فى المقاهى الشعبية هو الدردشة والنكات والالتقاء بالآخرين . ولقد كانت فترة رمضان عبارة عن فستفال كل ليلة .. فيمتلىء سوق الموية بالناس والجميع فى حالة حبور وفرح . والصغار كانوا يجلسون خارج المنزل تحت نور لمبة الشارع ولا يوبخهم أحد ، والجميع سعداء حتى العداوات تختفى فى ذلك الشهر الكريم .
العمل لم يكن يتوقف فى النهار بل ان كثيرا من الصناعيين كانوا يكسبون ويعملون أكثر فى رمضان . أصدقائى الكهربجية كانوا يعملون أكثر ، فأغلب المنازل أو المحلات يحتاج لتوصيل لمبة لخارج الدار أو خارج المحل ، أو عمل توصيلة جديدة ، أو تركيب مروحة فى السقف .. وقديما لم تكن المكيفات قد أكتشفت بعد فى السودان ، ومروحة الطربيزة كانت تعتبر بذخا . وهذه الأشياء ، زائدا الثلاجات تحتاج لتصليح أو صيانة .
والجزمجية بالقرب من الملجأ كانوا يعملون الى وقت متأخر من الليل . ويعملون طيلة النهار ولا يرجعون الى منازلهم الا قبل الافطار بعد غفوة فى الدكان أو البرندة .
بالنسبة للخياطين ، فهذا أحسن موسم .. وتستمر السهرة فى بعض الأحيان الى قرب الفجر خاصة فى يوم الوقفة . والدكاكين التى ليس بها كهرباء كانت تمد خطا من الجيران .
عندما يشتد الحر تتغطى النساء بالثياب المبلولة بالماء . وقد ينادين أحد الصبية أو الفتيات لكى يقوموا برشهم بالماء عندما يجف الثوب ، فحتى الحركة تعتبر عبئا كبيرا . والكبار كانوا يقولون (السعيد يحضر رمضان فى الشتا). وكان هذا يبو بعبيدا . وفى الستينيات أتى رمضان فى الشتاء وها هو الآن يجىء فى الشتاء مرة أخرى .
الذين يسكنون بالقرب من النيل كانوا يقضون فترة بعد الظهيرة الى العصر فى الماء .. ونحن الصبيبة كنا نجتمع فى منطقة النمر بالقرب من الطابية ونحضر معنا بعض الملاءات والعصى وننصب خيمة تزيد بعدد القادمين . الأح نصر جبارة رحمة الله عليه والذى توفى بعد رمضان ، كان مهندس تلك الخيمة بروحه الطيبة وجسمه الرياضى القوى . ولقد لعب للعباسية ، وكان صخرة دفاع الموردة . ولقد حدث مرة أن انشغلنا بالسباحة واللهو وصيد السمك حتى نسينا وقت الافطار ولم يذكرنا به سوى المدفع .
كان من العادة أن يستدعى أعيان أمدرمان أحد الوعاظ من القاهرة لجامع أمدرمان فى رمضان . وعندما كان يشرح الأسباب التى تببيح الافطار ذكر كل الأسباب ثم قال مازحا ( أو اذا كان الانسان من سكان أمدرمان) نسبة للحر الشديد .
كان للاسبوع الأخير من رمضان نكهة خاصة ، فهو موسم الاستعداد للعيد . ومن الواجب أن يكتسى المسكن والساكن بحلة زاهية جديدة .
الرحمتات من الأشياء المكملة لنهاية رمضان . والأطفال كانوا يشترون القلل والاباريق الفخارية وبجانب لقيمات القاضى ، لأنها تكون كبيرة أكثر من العادة . فهنالك التمر المبلول ن ونطوف على منازل الأهل ، فيصبون ماؤ البلح فى القلل وبعض التمرات . والقلة الصغيرة كنا نشتريها بقرشين أو قرش ونصف .
عيد الفطر كان لا يكتمل قديما الا بالكعك والبسكويت . ويبدأ البحث عن المنقاش الذى ينقش به الكعك ن أو القمع الذى يثبت فى مفرمة اللحمة لتشكيل البسكويت . ولم تكن الغريبة والأنواع البديعة الأخرى قد عرفت بعد . وفى فترة ما قبل العيد يرتقع سعر البيض من 8 – 10 قروش للدستة لكى يتعدى الاثنى عشر قرشا وقد يصل الى الخمسة عشر قرشا .
وتخرج صوانى الصاج الثقيلة لكى يرص عليها الكعك وتبدأ طوابير الاولاد والبنات مشوار الطابونة ولقد كنا نحضر من شمال الهجرة الى محطة مكى ود عروسه، وفرن ناصر الصياد اليمنى ونحن نحمل الصوانى على رؤوسنا بعد عمل وقاية جيدة من القماش على الرأس .. وعندما نرجع بالكعك نجد بعض الجيران فى انتظار الصوانى لاستعارتها .
الكعك والبسكويت كان يجد طريقه الى الشنطة التى تصنع من صفيحة فارغة أو قد تكون مزدوجة من صفيحتين ، واحدة للكعك ، والأخرى للبسكويت تقفل بطبلة حتى لا يسطو عليها الصغار .
الكعك لم يكن ينجح فى كل الأوقات ، لاختلال فى الخلطة أو لأنه يتعرض لنار غير مناسبة فى الفرن. وقد يحترق فى بعض الأحيان . وعندما احترق كعك احدى النساء فى الفرن قالت لها صديقتها (نتقاسم كعكى) .
من قصص الكعك أن أحد الضيوف لم يكمل كعكة واحدة بالرغم من اصرار صاحب الدار . وأخيرا قال الضيف ( ياخى كعكم قوى) فرد صاحب الدار غاضبا ( مالو ، ما كعك رجال) .
بعض الصبية كان يكثر من أكل الكعك ساخنا فى الطابونة حتى توجعه بطنه . الفرّان كان يأخذ قرشين للصينية الكبيرة وقرشا للصغيرة . الكعك يكون فى شكل دوائر أو هلال . بعض المريخاب كان يرفض أكل الهلال ، أو يصر بعضهم على قرقشة الهلال فقط من الكعك .
اصلاح الدار استعدادا لعيد رمضان كان يتركز فى الطلاء ، وطلاء الشبابيك والأثاث واصلاحه . وكثير من البيوت كان أصحابها يستعدون لحفلات الزفاف بعد رمضان .. وفى نهاية الخمسينيات كان رمضان ينتهى فى نهاية أبريل ، ومايو هو شهر الزيجات .. ولهذا ظهرت الأغنية (حريقة يا مايو )
من الحرفيين الذين كانوا يستفيدون كثيرا فى نهاية رمضان ، النقّاشون .. ويطلبون فى العادة 250 الى 300 قرشا للغرفة العادية . ومواد ومصنعية الغرفة عادة 4 × 4 × 4 أمتار .
وللغرفة العادية ثلاثة شبابيك وباب واحد من الخشب العادى . والسعر ثلاثة جنيهات للبوهية والمصنعية . ولكن اذا كانت الشبابيك شيش وزجاج ، فالمبلغ خمسة جنيهات لأن الشيش يشرب كثير من البوهيه ، وهو عادة بلون أخضر . الا أن النافذة الداخلية من الزجاج تكون باللون الأبيض ، وهذا يستدعى كثيرا من الدقة حتى لا يتلوث الزجاج .
الغرفة العادية تحتاج الى كيلوجرام من اللون الذى يخلط بثلاثة كيلوجرامات من الاسبداج الأبيض . والكيلوجرام يساوى عشرين قرشا للاسبداج أو اللون . وكيلوجرام من الاسبداج لعمل الجزء الأعلى من الغرفة المعروف بالوظرة . وزجاجة من زيت الأسفال الأسود لوقاية الجزء الأسفل من الحائط من الأوساخ والماء. والزجاجة تساوى خمسة عشر قرشا .. ولتثبيت الطلاء يحتاج الانسان الى رطل من الصمغ المبشور .. وتبدأ العملية بسد الفتحات والشقوق بالرمل المخلوط بالصمغ وتركها الى اليوم التالى لكى تجف . ومن العادة أن ينهى العامل الماهر الغرفة فى أربع الى خمس ساعات .
اللون الوردى كانت تصبغ به غرف النوم .. وهو عبارة عن الأحمر الانجليزى الغامق مخلوطا بالاسبداج .. والبرندات والصالات يطغى عليها اللون الزرعى، الا أن أكثر الألوان شيوعا هو اللون الأصفر . ولا تزال أغلب منازل أمدرمان تحمل هذا اللون .
السر فى ذلك هو أن النقاش كان يقنع صاحب الدار بأن اللون الأصفر مناسب لكل شيىء ومريح للعين.. ولكن الحقيقة أنه بدل الاسبداج الذى يساوى 60 قرشا يشترى النقاش (جير أمدرمان) ، والشوال سعة 8 كيلوجرامات أو 10 كيلوجرامات بستة قروش ونصف ، ويقوم بعطنه فى الماء لمدة يوم كامل . وبعد الهرس باليدين يصفى بالنملية ويضاف اليه رطل من الزرنيخ وهو لون أصفر قوى ويساوى عشرة قروش . والنتيجة مضمونة ورائعة . ويسمع النقاش كلمات الشكر و (تفطر على خير يا أسطى) .
البوماستيك كان مقصورا على المنازل الفاخرة .. لم أتعامل معه ، بل كنت أترك هذا للأسطوات الكبار ، وأنا كنت أعمل بدون أجر .
كثيرا ما تلاحظ فى عيد رمضان أظافر بعض الرجال والشباب ملوثة بالطلاء ، خاصة ما عرف بالجملكة . وهى عبارة عن السبيرتو ( كحول) زائدا مسحوق الجملكة ، والزجاجة تساوى 20 قرشا . ويستعمل فى طلاء الطقاطيق وكراسى الديوان . ويستعمل القطن فى شكل كرات صغيرة فى عملية الصبغ . وقديما كان الأثاث الوحيد الموجود فى الديوان هو كراسى الجلوس من الخشب وكنبة بسيطة .. ولها جميعا مساند عبارة عن حشيات من القطن ، وتفرش الأرض بالرمل الأحمر .
ثم ظهرت الكراسى الدبابة وهى مغطاة بألواح الموسنايت ، وصار الاسبداج يضاف الى الجملكة لكى يصير لونها أصفر زاهيا ، وبهذا تكتمل زينة المنزل فى نهاية رمضان لاستقبال العيد .
الأطفال يقومون بكسر الحصالة فى نهاية رمضان ، والتى هى عبارة عن كوز صلصة أو علبة فروته بفتحة صغيرة ومثبته فى الجدار . ونحاول أن نوفر تعريفه كل يوم من قروش الفطور لكى يضاف هذا الى العيدية التى يعطينا لها الكبار .
يبدأ أصحاب الطبالى فى الأحياء فى شراء لعب الأطفال و (البالونات) لبيعها للصغار . ويبدأ العجلاتية فى اصلاح العجلات . فالعيد لا يكتمل بدون استئجار عجلة .. ونصف الساعة كانت بقرسين للعجلة الصغيرة ، وثلاثة قروش للكبيرة . الكبار كانوا يستأجرون العجلة لزيارة الأهل والتحرك ليوم كامل ، وتسمى (ليليه) وتساوى عشرين الى خمسة وعشرين قرشا . وهؤلاء يكونون محبوبين فى ذلك اليوم ، لأن كل الصبية يجرون خلفهم ( أدينى سحبه ، أدينى سحبه ) .
المراجيح كانت تنصب فى نهاية رمضان أمام الطاحونة فى أم سويقو بالعباسية ، أو فى ساحة الليق فى العرضة ، المكان الذى بنى فيه أستاد الهلال ، وهذه كانت مراجيح بسيطة تدار بالأيدى .
المشّاطات يمشطن فى نهاية رمضان . ولأن المشّاطة لا تريد أن تفقد مخصصاتها من سجائر واكراميات ، فقد يحدث المشاط فى الليل .
الحلاقون يعملون الى منتصف الليل فى نهاية رمضان ، ولا يتوقف سيل الزبائن .
يستعين الخياطون بكثير من الصبية لعمل العراوى والزراير .. هذا قبل أن ينشىء جبورة أول مصنع فى أمدرمان للملابس الجاهزة . وكان يفتح حتى فى صبيحة العيد حتى يجد المتأخرون فرصة للشراء
بما أن السمك والفسيخ من الأشياء التى يتجنب الناس أكلها فى رمضان ، فلذا تصير مرغوبة ومكملة لأكل العيد وترتفع أثمانها كثيرا . وتمتلىء الساحة أمام محلات العم سبكى وبشير شقيق لاعب الكرة فى الموردة فى يوم العيد . المرات الوحيدة التى لا يكون السمك فيها محمرا فى السودان ، هى عندما يحضر فى الصينية المدفونة .. وهذا يحدث فى عيد رمضان ، فيضاف قمرالدين والزبيب الى السمك والبصل والطماطم ويوضع فى حفرة يفرش فيها الجمر وتغطى بغطاء نحاس ثم يوضع الجمر على الغطاء . وبهذه الطريقة تصنع الكنافة كذلك ، والتى كانت تنز بالسمن البلدى ... وكنا عندما نأكلها تمتلىء أفواهنا بالفول المبشور والسكر المرشوش .
هل سنرى هذا مرة أخرى ؟ . فما أجمل نهاية رمضان قديما !!!
التحية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.