عطست أرض الكنانة .. فتداعي لها سائر الشرق الأوسط بالسهر والحمّي!... بيد أن شريحة مكتنزة من هذا الفضاء الاستراتيجي ... (تتألف من أهم دوله النفطية المؤثرة ... ذات الوزن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الهائل) ... نزلت عليها العطسة المصرية برداً وسلاماً؛ فلقد كانت العلاقات متوترة مع نظام المرشد الذى نصر "إخوانه" ظالمين أو مظلومين...وما كاد يتسنّم السلطة فى المحروسة..حتى حرّك وفعّل ذيوله لتأجيج الفتن وإرباك الأوضاع وإيجاد الشروخ بتلك الدول الآمنة المطمئنة...طمعاً فى قيام إمارات أسلاموية عميلة...متكئة علي موارد نفطية هائلة...وبنيات تحتية متقدمة شيدتها شعوب تلك الدول خلال العقود الأربعة الأخيرة...لتمويل عمليات التمكين الإخوانية الكونية. ولكن ربك رب الخير قدّر ولطف...فبينما كان تنظيم الإخوان المسلمين الدولي، بزعامة الإخوان المصريين، يسعي للسيطرة علي الشرق الأوسط كله، بتحالف خفي مع الإمبراطورية الشيعية التى تمتد من إيران إلي حزب الله بأرض الشام، (مع كاتاليست آخر إسمه قطر).... كان الشعب المصري له بالمرصاد...ذلك الشعب المنحدر من صلب أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي ومصطفي كامل وسعد زغلول وطه حسن ونجيب محفوظ ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر...والذى أنجب وائل غنيم...ومحمود بدر...رغم ليل حالك طويل انتهي بسنة محمد مرسي الأكثر ظلمة. وهكذا، فقد انجلي عن هذه المنطقة شر الإخوان المسلمين، ولله الحمد ...ولكن ما ورد من أنباء ووثائق مسرّبة من اجتماع التنظيم الدولي للإخوان بإسطنبول فى الأيام القليلة الماضية...والتصريحات المتواترة من البيت الأبيض وبعض الدوائر المتعاطفة مع الإخوان بالكنقرس الأمريكي...تدق ناقوس الخطر...وتذكّر بأن المعركة ما زالت محتدمة مع هذا التنظيم الأخطبوطي ذى السبع أرواح...وتشير إلي أن الخريطة التى رسمتها الإمبريالية الأمريكية للمنطقة، والتي تضع الكيان الصهيوني فى مكان القلب منها، وتوسل لذلك بتدجين وترويض الإخوان المسلمين، لا تقبل التغيير بسلاسة ويسر، وليس فيها مكان لحركة الشعوب العفوية ذات الشعارات التقدمية...المشرئبة نحو الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والشفافية... وكل ما من شأنه أن يقلب موازين القوي رأساً علي عقب، وأن يفضح الممارسات الإسرائيلية الظالمة فى حق الشعب الفلسطيني...المباركة من ذات الدوائر الأمريكية التى قدمت العضد للإخوان المسلمين المصريين ... والتى تتباكي علي المصير الذى حاق بهم علي يد الشعب المصري. وما رشح من أخبار إسطنبول يشير كذلك إلي أن الإخوان المسلمين لن يستسلموا لما حدث فى مصر، وسيضغطون علي ألف زرّ و زرّ...في سبيل التآمر علي التجربة المصرية...... ولهم إرث وافر من التآمر علي الديمقراطيات ... فلنأخذ بلاد السودان نموذجاً: فى عام 1986، وبعد تصرّم سنة الحكومة الانتقالية التى أعقبت انتفاضة أبريل 1985، جرت انتخابات نيابية حرة ونزيهة لا بأس بها... جاءت بحزب الأمة (الصادق المهدي) فى المقدمة (مائة واثنين مقعداً)، تلاه الحزب الإتحادي الديمقراطي (محمد عثمان الميرغني)، الذى أحرز (خمساً وستين مقعداً)، وجاء الإخوان المسلمون (حسن الترابي) فى المرتبة الثالثة، حيث نالوا (واحداً وخمسين مقعدا) بالجمعية التأسيسية التي انبثقت منها كافة حكومات ما يسمي بفترة الديمقراطية الثالثة – 1986/1989 - ، وكلها برئاسة الصادق المهدي، متحالفاً مع الإتحادي الديمقراطي تارة ومع الإخوان المسلمين (الجبهة القومية الإسلامية) تارة أخري. ورغم الوضع المريح الذي تمتع به الإخوان فى البرلمان وفى الحكومة بين الفينة والأخري، وفى مضمار الإعلام والمجتمع المدني وحركة الشارع، ورغم شوكتهم الإقتصادية عبر المصارف والمؤسسات الإسلامية التابعة لهم، مثل بنك فيصل الإسلامي،.... ما فتئوا يتآمرون علي الديمقراطية منذ أول يوم لها بعد انتفاضة أبريل...حتي تمكنوا من القضاء عليها كليةً بانقلابهم العسكري فى 30 يونيو 1989...بقيادة العقيد عمر حسن البشير الذى رقي نفسه لرتبة مشير، وظل يحكم السودان إلي يومنا هذا. فما هي الدروس المستفادة من التجربة السودانية؟ - من الواضح جداً أن الإخوان لا يؤمنون بالديمقراطية، وأنهم فقط يصانعون ويموهون ويداهنون...من باب التقية...حتي ينفردوا بالأمر، ليفرضوا إيديولجيتهم ومنهجهم....وهذا ما حدث فى السودان: فبمجرد استيلائهم علي السلطة، علي سبيل المثال، تصدوا لمشكلة البلاد الأولي...وهي حرب الجنوب....فارضين رؤيتهم الآحادية الجهادية التى تعاملت مع الجنوبيين كنصاري تمت ملاحقتهم من غابة لغابة، ومن جبل لجبل، لفترة خمس عشرة سنة...ولكنهم فى آخر الأمر تخلصوا من المشكلة بطريقة بسيطة للغاية: الرضوخ الكامل لشروط الخصم...والتنازل عن كل الجنوب...الذي تم فصله تماماً قبل عامين، وخرجوا من المستنقع كالسبيبة من العجين. - الإخوان عبارة عن عصابة متشابكة إقتصادياً وتنظيمياً مع الجهاز الدولي للإخوان المسلمين، وعندما حكموا السودان لم يتبعوا النموذج التنموي والتحديثي والحضاري والإنساني الذى جسدته الدول العربية الخليجية المنتجة للنفط، مثل الإمارات والسعودية، التى وزعت الثروة بالقسطاس بين أهلها، وشيدت البنية المؤسسية العصرية المتينة، وفاض خيرها علي الشعوب العربية والإسلامية الصديقة،...ولكن الإخوان المسلمين السودانيين ركزوا علي مسألة التمكين وإحلال كوادرهم فى المراكز القيادية بجهاز الدولة ومؤسساتها بديلاً عن باقي المهنيين والفنيين والإداريين السودانيين الذين تم تشريدهم،....كما ركزوا علي نهب ثروات البلاد، رغم شح موارد هذه الدولة ورغم الحروب والمجاعات التى شهدتها ولا زالت تشهدها معظم أطراف السودان، وقاموا بتدمير البنيات الراسخة منذ أيام الاستعمار ، كمشروع الجزيرة والسكة حديد والنقل النهري والجوي...والتعليم والصحة...إلخ. - أول ما يقوم به الإخوان فى السلطة هو تغيير قواعد اللعبة بحيث يستمرون فى الحكم إلي يوم القيامة، وبحيث يتم القضاء على مجمل الحركة السياسية والإجتماعية التى لا تتفق معهم مائة بالمائة، من خلال دستور آحادي لا يشركون فى صياغته باقي الشعب وقواه السياسية. وفي الحقيقة، ليس هنالك نموذج إخواني واحد فى العصر الحديث يمكن الاستدلال به لصالح هذه الجماعة؛ فلقد أناخت حركة طالبان علي أفغانستان عام 1996 – حتى الغزو الأمريكي فى أكتوبر 2001– وهو الغزو الاستعماري الوحيد فى تاريخ العالم الذى تعاطفت معه الأسرة الولية؛ إذ حكمت طالبان أفغانستان بالحديد والنار وأغلقت مدارس البنات وهدمت الآثار المبنية منذ آلاف السنين، والتى لم يتعرض لها المسلمون الأوائل الذين نشروا الأسلام فى تلك الأصقاع، وفتكت بالمعارضين...وفى هذه الأثناء، راجت تجارة المخدرات، المصدر الأول لواردات الدولة، ونشطت المنظمات الإرهابية الدولية ، ومن هنا انطلقت حركة التفجيرات والاغتيالات الي اجتاحت العالم كله علي يد تنظيم "القاعدة". والنموذج الإخواني الأكثر حداثة هو تنظيم القاعدة بالصحراء الإفريقية الكبري الذي اجتاح شمال مالي فى وقت مبكر من هذا العام، وعاث فيها فساداً، حتى أخرجه الفرنسيون. وثمة نموذج آخر يتوجب ذكره بهذه المناسبة، وهو تنظيم "بوكو حرام" أحد أبناء "القاعدة" الموجود فى نيجيريا الآن، بكامل عدته وعتاده، والذى يمارس أبشع أنواع الإرهاب والترويع والتقتيل فى حق الأقليات غير المسلمة بذلك البلد متعدد الإثنيات. وعموماً، لا يحتاج النموذج المصري الأخير لإعادة التذكير به،... وما هي إلا بضع أيام من الثورة الشعبية الحقيقية حتى ذهب نظام الإخوان إلي مزبلة التاريخ. ومن الواضح جداً أن حبائل الإخوان المسلمين لم تنطل علي الحركة الوطنية المصرية....وهي حتى الآن من التماسك ووحدة الرؤية ووضوح الهدف بمكان، ولذلك فلقد طاش صواب الإخوان، وهرعوا إلي إسطنبول ليتباحثوا ويتشاوروا حول هذه المصيبة الكبري التى حاقت بهم....ويقيني أن التقرير الذى سربوه من ذلك الاجتماع ما هو إلا فزاعة أخري...كأنهم يريدون أن يلقوا فى روع خصومهم أنهم مستنصرون ومؤازرون من قبل جهات دولية يؤبه لها...وأنهم يستطيعون أن يحركوا خيوطاً كثيرة فى شتي بقاع الدنيا، بما فى ذلك الكنقرس الأمريكي...تماماً كحزب الليكود الإسرائيلي....وهذه حرب نفسية لن تقدم ولن تؤخر فى صراعهم الوجودي مع الشارع المصري...فهم ربما يستمرون فى السودان لبعض الوقت لأنهم يمسكون بخيوط اللعبة كلها: الجيش والأمن والنقابات ومعظم الاتحادات الطلابية...ولأنهم وضعوا المعارضة تحت إبطهم عن طريق الرشاوي والأعطيات.....أما فى أرض الكنانة، فإن الإخوان المسلمين قد لفظوا أنفاسهم الأخيرة يوم 30 يونيو...وأصبحوا عظاماً نخرة بين عشية وضحاها....وكلما يوغل النائب العام فى التحقيق مع رموزهم...كلما سينكشف أمرهم أكثر وأكثر...وهم يدركون ذلك تماماً...ومن هنا "العياط" والبهدلة وإسهال الكلام الذى يعانون منه. والخريطة الجديدة للشرق الأوسط التى توشك أن تنبلج من الثورة المصرية هي التوازن الجديد لميزان القوى؛ فلقد أطل الجيش المصري العملاق بوجه جديد مرعب ومربك لجميع الأعداء المحليين والإقليميين والدوليين، رغم أنه لن يمتشق حسام صلاح الدين الأيوبي أو يدخل فى أي عداء مع هذا أو ذاك....إذ يكفي أنه اصبح جيشاً ذا مصداقية وتجاوب وتناغم مع الشعب، وعاكساً لطموحاته، وذا مرجعية أخلاقية فى عنان السماء....وبقدرما هب لنصرة شعبه فى اللحظة المناسبة، فإنه يستطيع أن يعتمد علي نصرة ذلك الشعب له فى كل معاركه القادمة...الصامتة وغير الصامته. كما أطلت من هذه الثورة مصرٌ جديدة، لها بريق الخمسينات والستينات، مع كثير من الحكمة والتجارب، بعد التخلص من أكبر عقبة في نصف القرن المنصرم، وهي الإخوان المسلمين الذين ما انفكوا يجرون بلادهم، وسائر بلاد المسلمين، القهقري...نحو القرون الوسطي، بعيداً عن تحديات العصر، وهي السعي للتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي، عبر النموذج التنموي التحديثي...تحت ظلال الديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان، حتى تأخذ هذه الأوطان مكانها تحت الشمس مثل الدول التى حققت النمو الاقتصادي وأسعدت شعوبها فى وقت قياسي. وتوازن القوي الجديد بالشرق الأوسط ترمز له هذه المحبة المتدفقة التى أطلت عبر شاشات التلفزيون فى الأيام الأخيرة بين الشعب المصري الموجود بميدان التحرير.. وبين الدول والشعوب التى كانت تعاني من مؤامرات الإخوان المسلمين...وأصبح واضحاً أن ثمة حلف جديد يضم هذه الدول مع مصر الجديدة ليس بعيد المنال...وسيكون العمق الاسترتيجي لذلك الحلف هو السودان... بعد أن يتخلص من نظام الإخوان المسلمين الجالس علي أنفاسه حاليا. والسلام.ً Fadil Abbas [[email protected]]