قبل خمس عشرة سنة، في 17 تموز/يوليو 1998، شهد التاريخ حدثاً جللاً. إذ اتفق أعضاء المجتمع الدولي المجتمعون في روما بإيطاليا على إنشاء محكمة دولية دائمة تتمثل مهمتها في معاقبة مرتكبي أشد الجرائم التي يمكن أن يتفتق عنها الخيال قسوةً، وجبر أضرار المجني عليهم فيها. وشرعت دول العالم، باعتمادها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، في تنفيذ خطة طموحة لإقامة نظام للعدالة العالمية يقوم على التعاون الدولي ويرمي إلى محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وقال كثيرون إن هذه مهمة مستحيلة وإن العداوة لا غالب لها. لكنّ مشروع العدالة العالمية أثبت صلابته. فالمحكمة الجنائية الدولية اليوم منظمة مفعمة بالحيوية ومستقلة يبلغ عدد دولها الأطراف 122 دولة – وأعربت دول أخرى عديدة عن اعتزامها الانضمام إليها. وتجري المحكمة حالياً تحقيقات وتعقد إجراءات قضائية تفوق في عددها وعدد المشتبه بهم المشمولين بها ما أُجري في أي وقت مضى، إذ تجري ثمانية تحقيقات وثماني دراسات أولية كما أصدرت ثلاثة وعشرين أمراً بالقبض وتسعة أوامر بالحضور. وتلقت المحكمة ما يزيد على 000 12 طلب للمشاركة في الإجراءات القضائية بصفة المجني عليه وأكثر من 000 9 طلب لجبر الأضرار. ويشارك في الإجراءات القضائية التي تعقدها المحكمة ما ينوف على 000 5 مجني عليه، ما يعطيهم صوتاً في قاعة المحكمة. ويقدِّم الصندوق الاستئماني للمجني عليهم الدعم إلى ما يقدر عددهم بنحو 000 80 من المجني عليهم في الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. إن قصة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية تبعث فينا روح الأمل؛ وهي لدليل على أن الأهداف الجريئة يمكن أن تُحقَّق. ولئن كنا قد اجتزنا مفازة طويلة، فإن ذلك ليس مدعاة للتراخي. ولنكن على بيِّنة – فالمحكمة تواجه اليوم تهديدات لا تقل خطورةً عما واجهته فيما سبق. فثمة من يسعى إلى تقويض حركة العدالة الدولية، وثمة من يحاول إقحام السياسة في عملها، وثمة من يشكِّك في جدواها، وثمة من يدعي الحديث باسم المجني عليهم الذين تعمل على خدمتهم. وثمة من يرفض التعاون معها ويسمح بأن يظل المشتبه بهم الاثنا عشر المطلوبون أمام المحكمة أحراراً طلقاء. ولذا فحريٌّ بنا في هذا اليوم – السابع عشر من تموز/يوليو – أن نتوقف لنستجمع عزمنا ونؤكد إصرارنا على أن لا نتهاون في نشدان العدالة. وإننا إنما نفعل ذلك لأننا نؤمن بقدرة العدالة على إدخال قدر من السكينة في قلوب آلاف الأطفال والنساء والرجال الذين وقعوا ضحايا لجرائم يعجز عن تصورها الخيال والذين تحملوا معاناة لا طاقة لنا بإدراك مداها. وإننا إنما نفعل ذلك لأننا نعرف أن المساءلة تردع مرتكبي الجرائم وأن علينا واجباً تجاه الأجيال القادمة التي تستحق أن تعيش حياتها من دون خوف. وإننا إنما نفعل ذلك لأننا نعلم أن بسط السلطة بالعنف والوحشية لا يمكن أن يشق طريقاً إلى مائدة مفاوضات أو إلى مقعد في صفوف أعضاء المجتمع الدولي. إن وجود المحكمة الجنائية الدولية، وإن كان لا يُرى أو يُشهَر على الملأ، يُشعَر به في جميع أصقاع العالم، وهو ما شهد به العديد من الشخصيات الدولية، فهو يشجع السلطات الوطنية على التمسك بالمساءلة ويحض الجماعات على نبذ العنف والأخذ بالحلول السياسية ويردع الزعماء عن ارتكاب الفظائع الجسيمة. إن كفالة المساءلة أمر يجب أن نعمل دون هوادة على تحقيقه، وإنني، في هذا اليوم، أعرب عن شكري إلى كلِ مَنْ لا يمكن للعدالة أبداً أن تواصل عملها من دونهم. أشكر المجني عليهم على جَلَدهم ودعمهم ومشاركتهم. وأشكر الشهود الذين يبذلون تضحيات جسيمة من أجل إظهار الحقيقة وتحقيق الغاية من المساءلة. وأشكر منظمات المجتمع الأهلي على ما تبذله من جهود دون كلل أو ملل في سبيل حشد الدعم والمضي بنا قدماً وأشكر القادة والدبلوماسيين الذين يسمعون أصوات هذه المنظمات فيحولون أقوالها إلى أفعال. إن العدالة الجنائية الدولية ليست حكراً على ثقافة بعينها أو شعب بعينه. فهي قيمة مثالية إنسانية أصيلة؛ ولهذا لاقت المحكمة الجنائية الدولية ترحيباً في قارات العالم كافةً. لقد قطعنا شوطاً طويلاً في سبيل تحقيق المساءلة لكن رحلتنا هذه لن تنتهي أبداً. وستعترض طريقنا عقبات لكننا نعرف أننا سنتجاوزها. فنحن في طريقنا نمضي دائما إلى الأمام، ولا نعود إلى الوراء لأن أعيننا موجهة صوب الهدف ولأننا نمضي على هذا الدرب معاً ولأننا نمضي فيه عن اقتناع. وإنه لشرف لي أن أكون على هذا الدرب بصحبتكم. ________________________________________ Public Affairs Unit [[email protected]]