قريباً من الوطن ! ( الملتقي الثاني للإعلاميين السودانيين العاملين بالخارج ) (4) د. حسن محمد دوكه إذاعي مقيم في طوكيو – اليابان [email protected] وتنادينا خِفَافاً كَخِيولِ الرِّيحِ " أقابلك في زمن ماشي، وزمن جاي، وزمن لسه. أشوف الماضي فيك باكر، ياريت باكر ، يكون هسه ... " ( مقطع من إحدى أناشيد الفنان السوداني : محمد عثمان وردي وأُغنياتُه ) صباح الثلاثاء الثاني عشر من شهر مايو عام 2009 للميلاد ( يوم افتتاح الملتقى )، نزلنا من غرفنا بهوَ الفندق الخرطومي المتعولم ، لتناول الفطور الذي حدد له السابعة صباحاً وحتى الثامنة. وهذا لعمري سلوكٌ " فطوري " كامل الجِدَّةِ على ما نشأنا عليه من سلوكٍ مأكلي ومشربي سوداني صباحي! . قلتُ – سابقاً - إننا بوصفنا سودانيين بدأنا نتعولم – بسرعة شنكانسينية – والشنكانسين shinkansen في اللغة اليابانية ( نهونغو ) هو القطار الطلقة،ذلك المنتج الياباني البرِّيِّ الأكثر سرعةً في تاريخ مجمل دواب الأرض كلها، حيث تصل سرعته – حاليا - إلى أكثر من مائتي كيلو مترٍ في الساعة ، وقد تم تصنيع الجيل الأول منه في ستينات الألفية المنقرضة، والآن وبعد عامين من الآن ( 2011 ) سيُدخِلون جيلاً جديداً من الشنكانسين في خدمة السكك الحديدية اليابانية بسرعة تفوق المائتين وثلاثين كيلو متر في الساعة، وقد قالوا " والعهدة على القائل " إنَّ هذا الجيل الشنكانسيني – من فرط سرعته – يستطيع الارتفاع عن قضيب السكك الحديدية اليابانية مقدار سنتمترٍ أوأكثر ! فيا سبحان الله! وفي ذاك العام نفسه " على صعيد الوطن " سيتم تقرير مصير جنوبنا الحبيب !! فإما أن ننطلق بسرعة " شنكانسينية " تجاه الوطن الواحد الموحد ، أو نرتفع مقدار سنتمتر عن قضيب الوطن فنسقط جميعاً ليصفق أعداؤنا في فرحٍ شامتين على الأزوال في خيباتهم المتواترة!!! . وقانا الله والوطن شر الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، وليعشِ السودان موحداً في قامة الوطن الجميل الضَّامِ لمجمل أبنائه شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالا، ينهلون من خيراته في عدلٍ يتساوى فيه الجميع المنتمى للوطن. قلنا: ضربتنا العولمة متحكرةً حتى في تفاصيل ثقافتنا الأكلية من ناحية زمن تقديم الوجبة ومحتويات المائدة الفطورية، وفي رأيِّ والله أعلم ، أنَّ أُسَّ سرعة تعولمنا يرجع - فيما يرجع - إلى طبيعة الشخصية السودانية السمحة في بساطتها ومقدرتها الفائقة على التعامل الحميم مع الغريب والجديد في حياتنا. ففي العلاقات الإنسانية وخاصةً في شكلها التواصلي مع الآخر ( الغريب ) وعلى مستوى الحوار اللفظي تجدنا ( نحن السودانيين ) أكثر تأثراً بمحدثنا أو أسرعَ مجاراةً لمحاورنا . فمثلاً إذا التقينا أخاً أو أختاً من البلاد العربية تجدنا نحاول مجاراته/ها في الحديث بلهجته/ها العربية ، وذلك للحفاظ على خيط التواصل بيننا وبين محاورنا مبتعدين عن عاميتنا السودانية بقدر الإمكان، متنازلين لضيفنا عن هذا الجانب المؤثر في شكل الحوار ومضمونه ، وكأننا نحاول كبح لجام فرسنا اللغوي العاميِّ زاعمين لأنفسنا بأنه فرس لا يناسب هذا الماراثون اللغوي اللهجوي، أو نتسامح " لهجوياً " لنقلِّد الآخر! نعود إلى فطورنا بمثابتنا الفندقية الخرطومية، حيث كان الطعام المقدم لنا طعامَ قومٍ آخرين ، فقط لولا تحكر الفول ( سيد مائدتنا الفطورية ) في صدر المائدة الفندقية ( البوفيه ) لظننت أنني في فندق من فنادق إحدى الدول الآسيوية التي قطنت عائشاً فيها أكثر من ثلث عمريَ الآني ( ماليزيا ) أو قُدِّرَ لي زيارتها عدةَ مرَّاتٍ ( سنغافورة، مملكة السيام تايلنده، إندونيسيا ) ممضياً معظم عنفوان الشباب و جُلَّ عبقِ زهرة العطاء العملي الإنساني في سموه " الوطني " الفاعل،!!. جماهير غفيرة من قبيلة الإعلاميين تبدو عليهم سمات التغرب الطويل عن البلد، وذلك من سيماهم البادية على وجوههم، ومن سلوكهم الراقي الرزين وهم يسلمون مفاتيح الغرف للفتيات " الصينيات " العاملات في استقبال الفندق. ازدحمت الطاولات بأهل القبيلة الإعلامية المهاجرة المؤتمرة متناولين فطورهم في موائد عولمية أعدتها إدارة الفندق بالتنسيق مع مستضيفينا الكرام. لمحت إعلاميين من أهلي إعلاميِّ جنوبنا،فاستأذنتهما بالجلوس معهما. تقبلاني – في رحابة أهلنا السودانيين – مفسحين لي مقعداً بينهما. فوراً بُعيد جلوسي عرَّفتهما بنفسي ، وحالما سمعا الاسم هبَّا واقفين يعانقانني في دفءٍ سخي! أرسلت – حينها – موجات ذاكرتي مبحرةً في الماضي ، لعلي " كنت " أعرفهما ، وقد أنساني الزمن الغُربويُّ ملامحهما بل اسميهما! ، حتى أراحني أحدهما بتقديم نفسه وجليسه ، وأنهما يعملان في SSTV ، ولأنني مازلت جديداً و " داقساً ، بل طاشي شبكات" فيما يخصُّ تطورات الأوضاع الإعلامية " القنواتية " في بلدي، سألت جليسي : وما هو sstv ؟ أجابني بأنه قناة فضائية جديدة تنتسب إلى جنوب السودان مقرها حاضرة الجنوب السوداني ( جوبا ) . وقد أضاف بأنهما يعرفانني أولاً من خلال برامج هنا أمدرمان الثمانينية الصباحية,ثانياً من خلال مساهمتي الصوتية – مؤخراً - في إذاعة وليدة مقرها جوبا ، بدأت بثها التجريبي مؤخراً ، وأنني كنت الصوت الحصري لهذه القناة من خلال تسجلات شاراتها الأساسية الرئيسة. شكرتهما، وقلت لهما : لقد ارتضيت المساهمة الصوتية في هذه الإذاعة الوليدة لسببٍ جوهري واحد يكمن في شعارها القائل : " United Home, Is a Promising Home " " وطنٌ واحد، وطنٌ واعد " . وجاءت الحافلات الأنيقة تقلنا إلى قاعة الصداقة حيث انعقاد المؤتمر. قاعة افتتاح المؤتمر اِزدانت بإعلاميِّ السودانِ الصحفيين، والإذاعيين، والتلفزيونيين العاملين بالخارج والداخل. أولى المفاجآت " المؤتمرية " السارة كانت إطلالة الأخ الصديق زميل العمل الإذاعي، بل قائد نقابة الإذاعيين طوال فترة الثمانينات ، الأستاذ زين العابدين صالح. و هذا الزين كان نجماً لامعاً في سماء أمدرمان وجارتها الخرطوم بل بحري، ليس على مستوى الحيشان التلاته ( الإذاعة، والتلفزيون، والمسرح ) فحسب ، بل على مستوى الوطن المعاش اجتماعاً، وسياسةً، وعملاً غائراً عميقاً في مفاصل مؤسسات المجتمع المدني. حيث اُضطرَّ ( زين العابدين ) كما غيره إلى اِعتلاء سرج فرس الغربة المنفلت إلا من لجام سودانيته! فاستراح هُنيهةً بقاهرة المعز مؤسساً لمركزٍ ثقافي سوداني نال شرف الريادة في العمل الثقافي المهاجر ! ليستقر به المقام مآلياً نواحي بلاد الكنغارو، والأبورجينيس، وحفدة سجناء الإمبراطورية التي – كانت – لا تغيب عنها الشمس!!، هذي الأستراليا التي عاصمتها سدني. وبعد عناق حارٍ بدأنا نلوك أخبارنا ونتقاذفها يمنةً ويسرةً غائصين في أعماق الذاكرة الإذاعية الدافئة، لنحكي عن كيف نالت منا الغربة بأبعادها جميعها، وماذا نلنا منها. و نواصل ...