في كنف أسرة كريمة مبسوطة اليد بلا من و لا أذى ترعرع المرحوم رشاد محمد علي عباس ونشأ نسيج وحده بين أقرانه في دنيا المال. فمعظم الأسر الحلفاوية التي سارت في دروب التجارة الواسعة أخرجت جيلا من الأبناء الذين ورثوا مؤسسات تجارية ضاربة الجذور في أرض الوطن بُنيت على اعلاء قيم العمل وثقافة البذل والعطاء بلا حدود فكانوا خير خلف لخير سلف، فلا غرو أن أحدث جيل الأبناء نقلة كبيرة في عالم البزينس وارتادوا أفاقا أشمل وأوسع مما كان سائدا في عهد أبائهم حتى غدوا نجوما مضئية في سماء الأسواق السودانية والعالمية ومنارات يقتدى بها في التطوير والتحديث وجودة المنتج،وحسبك من أمثلة وبراهين على صدق ما نقول نتاج جهد أبناء المرحومين عثمان وخليل محمد صالح (مجموعة التيتل) في تطوير صناعة الزيوت بالسودان، وتمعن يا هداك الله في روعة وتعدد وتنوع أنشطة أبناء المرحوم داؤد عبد اللطيف (مجموعة دال) في كافة القطاعات الاستثمارية،ثم أرجع البصر كرتين لتتحقق من الريادة التي أحدثها أبناء المرحوم ميرغني محجوب (شركة محجوب أولاد) في تنمية القطاع الزراعي المطري انتاجا وتخزينا وتسويقا. ويعتبر الراحل محمد علي عباس هو الأب الروحي لتفرد الحلفاويين وتميزهم في عالم التجارة والصناعة في السودان من خلال عصاميته الفذة وعشقه للوطن ولمهنته منذ بواكير عمله في تصنيع الأثاثات المنزلية والمكتبية وتسويق أفضل ماركات الساعات والنظارات العالمية لقرابة نصف قرن. ومن الجدير بالذكر أنه مع تنامي نشاط عباس التجاري عبر يمناه كانت شماله تسارع في الخيرات ولسنا في حاجة لأن نورد أمثلة لضخامة الدعم الذي قدمه لأهله وعشيرته الأبعدين قبل الأقربين في زمن العسرة التى اجتاحت وادي حلفا ولازمتها سنين عدد بعد كارثة السد العالي فذاك مما فاح وانتشر خبره بين العوام بُعيد وفاته بقليل. ويكفينا أن نشير اشارة عبارة في هذا المقام إلى أن المدرسة الثانوية التي شيدها المرحوم عباس في وادي حلفا قبل ما يقرب من أربعين عاما بعدما تناهى لسمعه معاناة طالبات وادي حلفا في السفر للالتحاق بمدارس بربر والخرطوم مازالت تقف شامخة بجوار المسجد الذي بناه ويقف شامخا في قلب مدينة حلفا حاملا اسمه. كل هذه المقدمة كانت مدخلا للحديث عن تفرد الابن الكبير للمرحوم محمد على عباس وكيف أنه كان نسيج وحده... فبدلا من أن يسير الابن رشاد في نهج نظرائه من أبناء الرأسمالية الوطنية تطويرا وتحديثا لمؤسسات والده - خاصة في ظل رسوخ قدم الأسرة في الصناعة والتجارة وتوفر الموارد المالية الضخمة-حمل المرحوم رشاد محمد على عباس هموم الدعوة الاسلامية وما تعانية الأمة من فرقة واحتراب منذ ريعان شبابه وتحالف مع كل من يدعو لتوحيد أهل القبلة في مشروع دولة الخلافة لا يحيد عن ذلك قيد أنملة، ولأنه رجل مبادئ ظل متمسكا بدولة الخلافة وأهميتها في تخليص الأمة الاسلامية من الفرقة والشتات خاصة أمام أعدائها وذلك رغم ما لاقى في سبيل دعوته من صعاب جمة، فلا غرو أن بذل الغالي والرخيص حتى لقى ربه في التاسع من شهر يوليو الحالي وقد طلق دنيا التجارة والمال بالكامل. ونشهد الله أننا رغم قسوتنا كثيرا على المرحوم رشاد ونحن نجادله في أفكاره ومبادئه لم نجد منه الا التقدير والمحبة وتلك لعمري سمة الكبار من ذوي الضمائر الحية المؤمنة بهدفها ورسالتها. وأحسب أن أنصار دولة الخلافة قد فقدوا برحيله رجلا قل أن يجود بمثله زماننا الأغبر هذا، كما أننا كأهل وعشيرة فقدنا برحيله ركيزة أساسية من ركائز المجتمع النوبي.وستبقى تعليقاته العفوية والتي كانت مزيجا محببا بين جدية وسخرية أهلنا الحلفاويين زمانا طويلا مثلما "يبقى أنين الناي بعدما يفنى الوجود". ومن تلك التعليقات المحببة إلى نفسى وسبق أن رويتها لعدد كبير من محبي الرجل وهو بين ظهرانينا ما جادت به قريحته في يوم حزين فأضحكني وأضحك الكثيرين معي.لقد كنت مكلفا من قبل أهلي بارسال رسائل قصيرة عبر الموبايل تحمل أخبار الوفيات حتى يتمكن الجميع من المشاركة في مراسم التشييع والدفن. وفي ساعة مبكرة من فجر يوم حزين أرسلت رسالة خبرية بوفاة شخص عزيز علينا جميعا. وفي حوالي الرابعة صباحا فوجئت بالأخ رشاد يتصل بي بعدما أسرع لمنزل المتوفى وبعدما دار حول منزل الأسرة المكلومة عدة دورات ولم يجد ما يوحي بأن أهل البيت على علم بتلك الوفاة قائلا: "أيه الحكاية؟ إنت بتعرف الوفيات قبل عزرائيل؟". رحمك الله يا أبا محمد فقد كنت سابقا بالخيرات واصلا لرحمك عارفا لأقدار الناس ومنازلهم، فلا عجب أن بادلك أهلك ومعارفك حبا بحب وتقاطروا زرافات ووحدانا لوداعك ومازلوا يتقاطرون على دارك عرفانا ووفاء لتلك الأيام. لقد منحتك الأيام طفولة مميزة عن أقرانك إذ ولدت وفي فمك معلقة من ذهب ولكنك اخترت طريق الأشواك في سبيل ما أمنت به من مبادئ الدين الحنيف وسعيت جاهدا لتوحيد قبلة المسلمين السياسية في دولة الخلافة وسرت في تلك الطريق حتى أفضت بك نزيلا للسجون داخل وخارج السودان وكل ذلك دون أن تلين لك قناة بل وتدهورت مؤسساتك التجارية وتلاشى الاسم التجاري الضخم الذي شيده والدك في عالم الساعات والنظارات وصارا أثرا بعد عين في سبيل هدفك الأسمى. حدث كل ذلك وأكثر وأنت تسرع الخطى في ذات الطريق بثقة في ربك وثبات في فكرك. ولأن أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل تضاعفت معاناتك كثيرا في أيامك الأخيرة بسبب الداء العضال الذي أنهك جسدك المنهك بهوم الدعوة وأهلها وقابلت كل ذلك بصبر تحسد عليه وظللت صامدا تخفي الكثير من المعاناة في دواخلك وتلقى زوارك بوجه طلق. والحق أنني لا أعرف من لاقى مثلما لاقى حبيبنا وفقيدنا رشاد عباس في حياته من هزات موجعة من سجن وضربات مالية متلاحقة في دنيا الأعمال وبلاء لا يطاق في الجسد ثم صبر مثل صبره وبقى صابرا حتى لاقى ربه راضيا مرضيا. اللهم إن عبدك رشاد محمد عباس قد أقبل عليك صابرا محتسبا، فاللهم أجره على معاناته بأفضل ما ادخرته لعبادك الصالحين من نعيم مقيم، وضاعف له الأجر بأكثر مما انفق في سبيل الدعوة والوطن والأهل،وبارك في ذريته وأهل بيته، وألهم معارفه ومحبيه الصبر الجميل إنك على كل شئ قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله و"إنا لله وإنا إليه راجعون". Sidahmed Beteik [[email protected]]