في طريقنا أنا وإبني من جوهانسبورج وسيارتنا تسابق الريح إلى منزلنا في بريتوريا نلاحق وقت إفطار رمضان ، قلت له يا إبني أيامنا في الستينات والسبعينات كانت أجمل من أيامكم هذه ، رغم ما ترى أمامنا من بهرجة وألوان وزخارف لدنيتكم هذه ، ورغم ما تملكون ما تظنون أنه نعيم ، وما تطنون أنه حضارة وعمارة ، ورغم هذه البنايات العالية ، والطرق ، والتقنيات ، ووفرة كل شئ من مواصلات وإتصالات وخلافه ، فقال كيف؟ قلت له وقد بدأ يدِّقُ السمع إلي ، يا بني أتصدق أننا كنا في صغرنا أننا نسرق؟ تسرقوا عديل يابوي؟ نعم والله ! بعد كلامك لينا دا كله يا بوي! عن الامانة والخيانة وتحريم السرقة؟ نعم يا بني! بل نسرق ونتباهى. كيف!!!؟ : قلت له يا بني ما اجملها وما أبرأها من سرقة وما أنبلها وأحلاها، كنا يا بني عند مناسبة (طهور) واحد منا ونحن صغار ، نقوم نحن أصحابه ، وبعد أن يهجد الناس في بيوتهم ويستغشون ثيابهم ننتشر في الحلة إنتشار الثعالب الصغيرة ، نسرق ِحلل الحليب من ( المشلعيب)ومن بيوت الجيران، ونسرق بطاطيرهم، وعصيهم ، وحتى بيض الدجاج ، وثياب الناس وأحذيتهم ، وكل ما نجده أمامنا، ونجلبه لبيت العريس ، الذي هو صديقنا بن الطهور ، وعندما يصبح الناس ويفتقدون ممتلكاتهم المنهوبة ، تسمع أول سؤال منهم ، يا جماعة الحلة دي فيها طهور ود منو البارح ؟ وبعد معرفة العريس ، ومن هو وأين يسكن ، يحضرون إليه فيجدونا نحيط به حاشية من سارقين صغار ، نعرف من سرقنا وماذا سرقنا، وهو كالأمير الصغير منطرح في فراشه البرش الأحمر العنابي المكحول (بالتفتة) الزرقاء المحلاة أطرافها بألوان كألوان الطواويس ، يعلقُ طرف ثوبه (العراقي الدبلان ) بخيط إلى سقف البيت حتى لا ينكأ جراحه ، وهو محنن اليدين ، والرجلين ، مربوط الرأس بفالوظات العقيق ، وعلى رأسه هلال من ذهب معقول بعجينة الصندل المبهور بالخمرة ، والمبلل بعطور بنت السودان المعتقة برائحة المسك ، تزدان يداه بالحرير المبخور باللبان الهندي، وأمه تحفه بكل عناية مدعية أن فيه الملائكة ، فلا تسمح له أن يقوم ولا ينزل إلى الأرض ولا يمسه التراب ، لا يتحرك ولكنه يرسل أوامره هنا وهناك فيؤمر ويطاع ، بكل أريحية من أصدقائه وإمه وأبيه ، آخر غنج وإمرة كأنه يملك الدنيا وما فيها، وفي الصباح يحضر أصحاب المنهوبات إلينا ومع كل واحد منهم غرامة تدفع لابن الطهور لنرجع لهم ما سرقنا ، لا ، وكنا أيضاً نعلق غصنا من شوك في حلق الباب العلوي لغرفة العريس ، نسميه (ود أب تشة) وكان شركا صغيرا يتدلى من أعلى الباب بحيث لا يراه الداخل غيرنا، وعندما يمسك ذاك الشرك طرفا من ثوب أو عمة أو طاقية ، ونحن نراقب، يكون جزاء من قُبض عليه ، دفع حق الشرك المقلب هذا (ود أب تشة ) أيضا ، إضافة لغرامة عن رد ممتلكاته المسروقة تلك، فيدفعون وهم في غاية السرور والحبور ، مباركة للعريس ومعاودة له ومشاركة له بتلك الملاليم، أم قرشين الفريني، والتعريفة و أبخمسة ، والريال والقرش الأبيض هذه سرقتنا يا بُني . وإبني فيزيد إصغاءاً ، وحينما كنا صغار يا بُني ، كنا نسكن وسط المزارع (البلدات) ، حينما كان أبي يملك كنتيناً (دكاناً) صغيرا مترحلاً يبيع منه لفرقان الرُحّل الذين يأتوننا للقيط القطن ، وحصاد الذرة وسكب القصب وتشوينه ، كنا نسكن وسط حواشات العيش ، والقصبُ بعد أن يتعدى مراحل اللتيب والشرايا ، وتبدأ (الحِملة) من حوامل قناديل الذرة ، الصفراء وود الفحل، والفيتريت ، كنا صغارا تتجاوزنا أغصان القصب ، وتدسنا شجيرات اللوبيا ، أنا وجروتي وصديقتي الصغيرة ، براقة ، تغمرنا جداول أبستة ، وأبعشرين ، والتقانت الجزلي بخرير المياه الواردة من الترع المصحوبة بالطمي ورائحة الدعاش عند ملامسة أنسام الصباح وأنصاف الليل الهادئ الوديع ، كنا نسكن هناك ولا شاغل عندنا غير أنا نأكل ما تجود به الطبيعة حولنا ، وما تكفلنا به التقاوي ، وشيران المزارع من تبشٍ ومليص وما يجود به الزرع من قصب وعنكوليب ومليل وقناديل للشواء ، وما يهبنا الله من ضروع معيزنا وشويهاتنا التي لا تعرف ربط الحبال ، وأسوار الحيطان المنيعة ، فهي ترعى حول مراقدنا ، تلد وتحلب وتسقى وتكسي وتبني أحيانا من أصوافها ، وترتع مع بهمها الوديع المتقافز فرحا بالنهار والضاجع ملء عينه في أحضان شجيرات اللبلب والنْورُ والسوريب ، وإبني يزداد دهشا ، لا يا بني ، بل لا هم لنا غير أنيا ننام ونصحو لنطارد جرائنا براقة وغيرها، بين سرابات القطن وأغصان الذرة التي تموج مع هيجاء النسائم عند الصباح ، حتى نتعب، ونمسى لنرقد سويا أحيانا على سرير واحد ، مع قططنا وأرانب الخلا الحالمة الجميلة ، نحضنها حتى نصحو لنلعب ثانية . كنا يا بني لا نملك واتس أب ، أو سكايب ، ولا ترجُ عقولنا المس كولات ، وأجهزة النوكيا والسامسونغ ، كان كل ما يملك أبي ، من تقنية ، رادي أبو ودعة ، معلق على رف من أعواد مركوزة على سقف بيتنا الضعيف يسمع فيه ما يجئ من أخبار البقعة (أم درمان) ويسمع فيه أغاني القمر بوبا ، ويا طير يا طاير ، والسمسة القضارف، مع هجعات الليل البهيم الذي لا يشقه إلا ضوء بطاريته الخفيت ، لا تزعجه إلا وشوشات الغصون ، وخرير جداول المياه تسقي ما حوله من شتول ، رفض أبي أن يخلع وراءه كل هذا النعيم والعيش الهنئ ، الموفور في هذه المروج الخضراء الحانية ، على العيش في البقعة بضجيج الاوتموبيلات ، وأصوات الطرمبيل ( الاندروفر) وصافرات القطارات وبهارج الأضواء التي تقض المضاجع . كانت تفرحنا تمرة ، السدادة ، عندما يضعها لك صاحب الكنتين ، على عنق الزجاجة ، وكانت تسعنا قطع السمسمية ، وحلاوة الطحنية ، والحربة ، وكنا نزداد بهاءا بعراريق الدبلان والدمورية تزدان بناتنا بفساتين الخرطوم بالليل ، يشبعنا القديد والعصيد ، وحسوة الكسرة ، تُخرج عنا عرق الربا وتترع أفئدتنا بالصلاح ، وتبارك في دمائنا عطايا الرحمتات . الرحمتات؟ نعم الرحمتات يا بني ، وهي عطايا الجمعة الاخيرة من رمضان ، الجمعة اليتيمة ، ليلة إشباع الاطفال والمساكين وأبناء السبيل ، رحم ورحمة ، تكافلا ودرءا لمخمصة ، حتى يتساوى الناس في تلك الليلة شبعا فلا يبيت مسكينٌ خاوي البطن وجاره شبعان ، وكنا ننعم ببليلة الاربعا الزريقة ، ونتعلق بأيدينا الصغيرة كما يتعلق الناس بأستار الكعبة ، بكتابها السماوي ، القرآن الملفوف بإحرام من ثوب ابيض بهي معلق ٌبأعواد أربع ، تذكيرا للناس بيوم القرآن ، وننتظر بفارغ البصبر فتح تناجر اللحم المخلوطة بمليل الذرة لنأكل منها وننثر بقيمها في الهواء، ثم نحبو على ركبنا و نردد ببراءة الأطفال ، كنيش ، كنيش ، جيب المطرة والعيش ، حتى يدر السماء علينا رحمة وبركة وكثير ما يستجيب سماء رب رحيم لمثل هذه الأفواه الصغيرة التي تشقشق لاهجة بذكره وسؤاله ، ثم ننتشر في الفريق مسحراتية ، نضرب الطبول وعلب الحديد المملوءة بالحصى حتى نذكر الناس بالسحور ، كنا نأكل من الرحمتات وموائد السحور ، وقليل الطعام ، لا تُوتِر أمعاءنا ساندويتشات الهامبريقر، والكونتاكي والناندوز وآيسكريم المقانم . وإبني يزداد دهشا ، لا يا بني ، وقد كنا نلعب على أضواء القمر البهيج الجميل ، على رمال القيزان فتية وفتيات نلعب لأنصاف الليالي، كنا نجري ونمرح ونلعب العيتنوبا ، والرمة وحراسة وأبو مالك حي ولا هالك ، وشليل وين راح ، وقمر قمر وكديس من نطاك ، وكنا نتسابق ونتصايح حتى تعي رمال القيزان من أقدامنا الصغيرة ، لنصل بيوتنا ونحن هامدون ، فننام ونصحو وتدور عجلة الحياة علينا هكذا ، لا نعرف غلا ولا غلاءاً ، ولا جرم ولا ضغينة أو خبث وخبائث أو لؤم وأنا ، ولا يقطع وتيرة هذه الحياة الجميلة البسيطة نكد العيش وإقتار الزمان ، وأمراض الضيق والتوتر، وهموم الغد والعيش ، ولا يملك أجواءنا قوقل ، ولا يحمل أخبارنا الفيس بوك ، والطائرات بدون طيار ، ولا كنا لا نعرف يا بني طبيبا وعسكرا وأمنا وبوليسا ، الأمان عندنا موفور ، والسماء قريبة برحمتها والطبيعة ولود ودود ، والمياه هنيئة شربا والطعام مريئ بلا تعديل وراثي ، ولا سموم ، وكنا لا نعرف الأسقام يا بني ، جرعة من بيبسي أو حبة من سلفا ، أو قرض ، أو جرعة من عسل وكفى . ولا يزال إبني يواصل الدهش . الرفيع بشير الشفيع بريتوريا جنوب أفريقيا