للطيب صالح اهتمام ملحوظ بوصف وجوه شخصياته. فوصف الوجه يشكل عنصراً اساسياً في بناء تلك الشخصيات و تطورها، وله علاقة بمكونات الشخصية و مسارها في احداث الرواية. و بصفة عامة، تعوّل شخصيات الطيب صالح على قراءة الوجه في تحديد احكامها حول الشخصيات الاخرى و تستميت في محاولة قراءة اساريرها. فعلي سبيل المثال يقول الراوي في (موسم الهجرة الي الشمال) عن مصطفي سعيد "تفرست في وجهه وهو ينفث الدخان ببطء ، فبدا هادئاً قوياً . ابعدت الفكرة ، وانا انظر في وجهه ، ان يكون قاتلاً . استعمال العنف يترك اثراً في الوجه لا تخطئه العين " (الاعمال الكاملة ، دار العودة ، ص 26) . وفي (ضو البيت) ينظر محميد الي وجه الطريفي ود بكري ، بعد ان آلت للاخير مقاليد الحكم في ود حامد ، فيرى "لم يكن في الوجه شيء يلفت النظر ، ما عدا العينين الضيقتين الزكيتين ، وتلك الابتسامة الساخرة في ركن الفم الايسر ، تحدث تناقضاً بين ما يقوله وما يعنيه . كان ايضاً شيء اخر ، ذلك الشيء الذي تسبغه السلطة على من في يدهم السلطة ، مزيج من الاقدام والخوف والبذل والطمع والترقب والتماسك ، والصدق والكذب" (الاعمال الكاملة ، دار العودة ، ص 362). يشكل الوجه ووصفه ادأة ذات اهمية قصوى ، ليس فقط في تقديم الشخصيات وانما في بنائها واعادة انتاجها مع تطور احداث الرواية. فوصف الوجه يشكل ، في احد استعمالاته ، شفرة مكثفة لفك طلاسم الشخصية . ثلاثة استعمالات رئيسية لتوظيف وصف الوجه انتظمت اعمال الطيب صالح جميعها ، وبلا استثناء. تتمثل هذه الاستعمالات في : وصف الوجه كشفرة مركزية للشخصية ، وصف الوجه كدال على تحولات الشخصية ، ووصف الوجه كدال على الهوية. تعنى هذه المقالة بالاستعمال الاول فقط : وصف الوجه كشفرة مركزية . يلعب وصف الوجه في اعمال الطيب صالح ، حين يوظف كشفرة مركزية ، دوراً اقرب لوظيفة الخارطة الكنتورية. فالخارطة الكنتورية توفر لنا وصفاً عاماً لملامح موضوعها ، حيث في مقدورنا من خلالها تحديد طبيعة الارض واذا ما كانت مرتفعاً او سهلاً. كذلك وصف الوجه كشفرة مركزية يقدم التضاريس الرئيسية للشخصية ومن ثم يُلمح لاتجاهها العام وينبئ عن محركاتها الكبرى. نختبر هذه الفرضية ، اولاً ، بوصف الراوي لوجه مصطفي سعيد في (موسم الهجرة الى الشمال). يقول الراوي " دققت النظر في وجهه ، وهو مطرق . . . نظرت الى فمه وعينيه ، فأحسست بالمزيج الغريب من القوة والضعف في وجه الرجل. كان فمه رخواً ، وكانت عيناه ناعستين ، تجعلان وجهه اقرب الي الجمال من الوسامة . ويتحدث بهدوء ، لكن صوته واضح قاطع . حين يسكن وجهه يقوى . وحين يضحك يغلب الضعف على القوة " (الاعمال الكاملة ، دار العودة ، ص 17). السمة الرئيسية في هذا الوصف هي التناقض الصارخ بين قطبى القوة و الضعف . ولاشك ان التناقض هو ابسط ما يمكن ان توصف به شخصية مصطفي سعيد . فشخصيته تأرجحت بين ثنائية القوة والضعف ، فقد كان القاهر والمقهور ، الغازى والمغلوب ، و الصياد والفريسة. اذا اختبرنا الفرضية مرة ثانية مع شخصية اخرى من( موسم الهجرة الى الشمال) ، كشخصية ود الريس مثلاً ، يتأكد توظيف وصف الوجه كمحدد يُلمح لاتجاهها العام وتفاعلاتها المرتقبة في فضاء الرواية. يقول الراوي في وصف وجه ود الريس " العينين الجميلتين الذكيتين ، والانف المرهف الوسيم . وود الريس يستعمل الكحل متذرعاً بان الكحل سنة ، لكنني اظن انه يفعل ذلك زهواً" (الاعمال الكاملة ، ص 88) . مجمل الوصف يوضح تشبث ود الريس باناقته وهو رجل قارب الثمانين من العمر ، ويعكس شغفه بالحياة ، ويفسر فيما بعد ولهه واصراره على الزواج بحسنة بنت محمود ارملة مصطفي سعيد. واذا انتقلنا الى رواية (بندرشاه) تتأكد على نحو اعمق فرضية وصف الوجه كشفرة مركزية . يقول الراوي في وصف شخصية بلال : " يحكي الذين رأوه انه كان جميل الوجه ، حسن الصورة ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، لونه يتوهج كلون المسك ، لا تستطيع ان تطيل فيه النظر لجمال صورته ." (الاعمال الكاملة ، ص 437) . يحمل هذا الوصف اصداء المدائح النبوية و ذكر اوصاف الاولياء الصالحين ، وقد كان بلال ، كما ابانت وقائع الرواية، واحداً منهم. هنالك نماذج اخرى ، لا يسع المقام لذكرها ، تؤكد استعمال الوجه كشفرة مركزية تلمح لمكونات الشخصية ودوافعها الرئيسية . من ضمن هذه النماذج وصف وجه نعمة في (عرس الزين) ووصف وجه جين مورس في (موسم الهجرة الى الشمال) ووصف وجه الطريفي ود بكري في (عرس الزين) و(مريود) . في كل هذه الحالات يحدد وصف الوجه الاتجاه العام للشخصية ، وينسجم الوصف مع افعال الشخصية وخياراتها في فضاء الرواية . بعد هذا الاستكشاف لتوظيف وصف الوجه في اعمال الطيب صالح احيل القاريء الى اشهر مقاربة في تاريخ النقد الغربي ذات صلة وثيقة بفرضية وصف الوجه. في نهاية ثمانينات القرن الماضي قدم الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز (الوجه) كمفهوم مركزى في نقد الفكر الغربي . اجترح دلوز خلال دراسة شائكة لتاريخ التصوير والسينما والتعبير الادبي في الغرب مصطلح (الوجهوية) ، شارحاً عن طريقه ميل الالة الثقافية الغربية لخلق نظام –عن طريق تنميط الوجه- يعمد الى انتاج واعادة انتاج ايهام عن كلية الانسان ودواخله السيكلوجية ووحدته ككائن وقدرته على التواصل . فالوجه لدى دلوز عبارة عن علامة تشير الى علامات اخري في سلسلة متواصلة من العلامات . احد الامثلة التى قدمها دلوز كان وجه الحبيبة في رواية مارسيل بروست (غرام سوان) ، حيث يحيل وجه الحبيبة بملامحه المحددة خيال العاشق الى مقطوعة موسيقية بعينها او اجزاء لوحة تشكيلية ما . واجه دلوز الوجه بعداء شديد باعتباره احد وسائل المجتمع الحديث لتنميط الانسان والسيطرة على سلوكه ودوافعه . فقد وقف دلوز ضد ميل التفكير العادي الى اعتبار الوجه كشّاف دال على جوهر داخلي غار في دواخل الشخصية. وكان غرضه الاساسى معارضة الاعتقاد السائد منذ عصر التنوير ذلك ان للانسان جوهر داخلي منفصل عن الجسد وما الوجه الا انعكاس لذاك الجوهر . قد يتفق المرء ، او يختلف مع دلوز ، الى هذا القدر او ذاك . ولكن الناظر لالة انتاج الوجه في السينما و صناعة الاعلان والثقافة بصفة عامة يقر بان ثمة نظام ما يقف خلف انتاج واعادة انتاج الوجه . وبالفعل ولدت ملاحظات دلوز الفلسفية عشرات الدراسات في السينما والادب والاعلام. لكن ما يهمنا هنا الاجابة على سؤال اساسي : هل استجاب الطيب صالح للماكينة الثقافية والاجتماعية التى تعمد الى انتاج واعادة انتاج الوجه ؟ ازعم ان الطيب صالح ، وعلى الرغم من اعترافه وتقديره وتوظيفه للوجه ، وبصفة خاصة جمالية الوجه كما هو متعارف عليه اجتماعياً ، قد تمرد على تنميط الوجه كدال على جوهر غار في دواخل الانسان. رعى الطيب صالح معايير الجمالية المحلية في مجتمع ود حامد ووظفها على نحو مدهش فعلى سبيل المثال يقول في تتبعه للروايات المختلفة حول اصول بندر شاه وقومه : "ويقال ان من بقاياهم قبيلة صغيرة في ود حامد يقال لهم اولاد ود الحبشي مشهورون بوسامة رجالهم وجمال نسائهم ." (الاعمال الكاملة ، ص 443 ) غير ان ذلك لم يمنع الطيب صالح من تحطيم الوجه –بما في ذلك جماليته- كدال على جوهر غار في دواخل الانسان . ولعل اكبر حركة في هذا الاتجاه تتعلق بشخصية الزين في (عرس الزين) فقد وصفه الطيب صالح وصفاً كاركتيرياً مريعاً ، يقول عن وجه الزين : "كان وجه الزين مستطيلاً ، ناتىء عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين . جبهته بارزة مستديرة ، عيناه صغيرتان محمرتان دائماً ، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه . ولم يكن على وجهه شعر اطلاقاً . لم تكن له حواجب ولا اجفان ، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية او شارب ." (الاعمال الكاملة ، ص 188) هذا ، ولاشك ، درك سحيق في معايير الجمالية الاجتماعية في ود حامد الا ان ذلك لم يمنع عن الزين مركزاً مرموقاً في فضاء ود حامد الروحي . لذا تنفصم العلاقة هنا بين نمط الوجه وجوهر الانسان الداخلي . وفي وصف فاطمة بنت جبر الدار الاولي في (ضو البيت) تتحطم مرة اخرى معايير الجمالية المحلية . يقول الراوي في وصفها : "كانت صبية دون البلوغ ، اقل اخواتها في الجمال ، نحيفة زي الجرادة ، لكنها توزن عشرة رجال ." (الاعمال الكاملة ، ص 379) . هذا النصيب المتواضع من الجمال تتم معارضته بالخصائل الفريدة لفاطمة التى صارت فيما بعد ام اولاد ضو ، اشهر بطون ود حامد واكثرهم نفوذاً. في (ضو البيت) تأخذ سمة التمرد على السائد الجمالي نحواً اخراً ، يعبر فيه السطح الى الجوهر في مصالحة بين ما هو متعارف عليه وما يعتقده الراوي حول علاقة الظاهر بالباطن . يقول الراوي في وصف جمع المشاركين في الاحتفال بعرس ضو البيت : " الليلة كل شيء حي . . . كل غصن تثنى . . . وكل طرف كحيل ، وكل خد اسيل ، وكل فم عسل ، وكل خصر نحيل ، وكل فعل جميل ، وكل الناس ضو البيت ." في هذه اللحظة الاستثنائية ، التى تجتمع فيها ود حامد عن بكرة ابيها ، في ذاك الفرح العظيم ، يعطل الراوي قوانين الوجه جميعها احتفالاً . ويسبغ على كل فرد صفة الجمال المطلق . يعود الراوي ليلغى قوانين الظاهر المادي وينفيها بتوزيعها سواسية على كل وجه ، فكل وجه جميل ، وكل طرف كحيل. نقلاً عن الأحداث