[email protected] ( 1 ) حكى أبو حيّان التوحيدي( 922م- 1023م) في الليلة التاسعة عشرة من كتابه "الإمتاع والمؤانسة" عن العلاقة بين المواطن والسلطان، ما نصّه : " قال حميد بن الصّيمري لابنه : اصحَب السلطان بشدّةِ التوقّي كما تصحب السّبعَ الضاري، والفيلَ المُغتلم، والأفعَى القاتلة، واصحبَ الصّديق بلينِ الجانب والتواضع، واصحب العدو بالإعذارِ إليهِ، والحجّة إليه فيما بينك وبينه، واصحبَ العامةَ بالبرِّ والبِشْر واللطفِ باللسان" ( ص 63) . ثم أُسمِعكَ هنا تساؤلَ المفكر الجزائري محمد أركون، بعد نحو عشرة قرون من كلام أبي حيّان، وأستعير لك ما كتب مترجمه هاشم صالح: (( وإذا كان المثقف الغربي المعاصر له الحقّ كلّ الحقّ في أن ينخرط أو لا ينخرط في الشأن العام، وذلك لأنّ مجتمعه قد تجاوز مرحلة الانعطافات الحادّة والأزمات الكبرى، وأصبح ينتمي إلى مجتمع قوي ومستقر نسبياً، فإن المثقف العربي في نظر أركون، ليس له الحق مطلقاً في أن يصمّ أذنيه أو يغضّ الطرف، عما يعتمل داخل محيطه الاجتماعي، أو يكتفي بالتخندق داخل التّخصّص العلمي الضيّق، أو التبحر الموسوعيّ البارد، في الوقت الذي تحدق بمجتمعه أخطار مهلكة.)) ذلك مقتطف من هامش من كتاب المفكر الجزائري محمد أركون: الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، بيروت، بدون تاريخ، ترجمة هاشم صالح (ص : 27). في العلاقة بين المثقف والسلطة، ها نحن أمام موقفين متصادمين، أحدهما يوصي بالحذر من صحبةٍ هي كصحبةِ السّبع الضاري والفيل المُغتلم والأفعى القاتلة، كما جاء من التوحيدي، فيما الثاني يوصي بالانخراط لا بالنفور، بالتفاعل لا بالانزواء، وأن على المثقف أن يكون فاعلاً ايجابياً يخدم مجتمعه. تطوّرُ الفكر البشري الحتمي وتحوّلاته الكاسحة بين ألفية زمنية وأخرى، يفسّر لك هذا التباين. فأين وقف دكتور حسن عابدين وقد بسط تجربته بين ناظريكم، في كتابه الصادر عن مركز عبدالكريم ميرغني ،2013 : تجربة في السياسة والدبلوماسية السودانية. .؟ سترونه وقد جرّب صحبة السبع الضاري فنجا، وغادر تجربة الشمولية المايوية قبيل احتراقها. ثم سترونه وقد استعانت به شمولية أخرى بعد عقدٍ كامل من تجربته الأولى، لكنّه سلِم أيضاً بالتزام المناصحة الذكية والتواضع ولطف اللسان، بمثلما نصح الصيمري لإبنه في كتاب الامتاع والمؤانسة، فلا يلتبسن عليك الأمر، فتراها مُداهنة مذمومة. . ( 2 ) ومع ممارستي لمهنتي سنوات طويلة، وبعضها في صحبة السفير الصديق دكتور حسن عابدين، فإني استشعرت التباساً في رسم الحدود – أو لعله ترسيم الحدود - بين ماهو "سياسي" وما هو "دبلوماسي". نحن في "العالم الثالث" - وهذا توصيف لا يجد رواجاً على أيامنا هذي لاستبطانه تمايزاً أشبه بالتمييز العنصري- نتعثر في وضع الفواصل وتوصيف الممارسة، إذ رسختْ مثل تلك الحدود بين السياسي والدبلوماسي، عند أنظمة سياسية متقدمة في أوروبا والولايات المتحدة، بحكم ما تحقق لها من نصيب في التقدم الصناعي وفي النهوض العلمي وفي الفكر السياسي والفلسفي. ودعني أقف معك على تجربتنا في السودان، خاصة وقد أورد دكتور عابدين تفصيلاً عنها في طيّات كتابه، إذ ستلاحظون عنواناً فرعياً للكتاب له دلالاته، لا يظهر لك في الغلاف ولكنّه في الغلاف الداخلي : "مدوّنات ورسائل وآراء حول تاريخ السودان المعاصر". ( 3 ) شهد الحكم العسكري الأوّل في السودان (1958 - 1964)، تجربة فريدة في تجاوز التناحر الحزبي، والذي كان سبباً من أسباب استدعاء القوات المسلحة لتولي السلطة وحكم البلاد، بما يشبه التآمر على نظام حكم ديموقراطي هش، أنهكتْ قواه الخلافات الحزبية المُستعرة. كلّف ذلك النظام العسكري الشمولي في عام 1958، مهنيين وشبه تكنوقراط لتولي وزارات مهنية بعينها. ولنا أن نقف طويلاً في اختيار "سياسي وطني" وليس "سياسي مستحزب" هو أحمد خير المحامي وزيراً للخارجية، ولم يتولَ مسئوليتها وزيرٌعسكريٌ، وكان بوسعِ الفريق عبود رئيس المجلس العسكري أن يفعل. وكان بإمكانه أيضاً أن يحيل وزارة الرّي والطاقة المائية لعسكريٍّ من مجلسه، لكنه اختار لها المهندس مكّي المنّا، والاقتصاد إختار له عبدالماجد أحمد، والصحّة د. أحمد علي زكي، والأشغال زيادة أرباب. كان أغلب هؤلاء المهنيون المستقلون، يقفون على مسافة واحدة من الكتل الحزبية التي كانت سائدة قبيل انقلاب17 نوفمبر 1958، ولم يعرف أحدٌ عن جلّ هؤلاء المهنيين، تحيّزاً لطرفٍ حزبي دون آخر، أو ميولاً لتيارٍ سياسي في اليمين أو في اليسار. للأنظمة الشمولية كما يبينَ لك، حبالها السريّة مع ممثلي التيارات المستقلة، وتوافقٌ في الزّهد عن التحزّب، والنأي عن اهدار الطاقات في الصراعات والاختلافات السياسية، فيما المهمّة الأكثر إلحاحاً هيَ بناء الوطن. قصدتُ أن أنبّه إلى ملاحظة مهمّة وهيَ أنّ أغلب الأنظمة الشمولية تستعين في مبدأ أمرها بالمهنيين وهم أهل "المنطقة الرمادية" غير المعنيين بالتوجّهات السياسية، ولا أحيلك- هداكَ الله- إلى معناها السلبي، ولكن إلى استبطانها التوجّه الايجابي الصِّرف، خدمة لقضايا الوطن، مثلما أوضح دكتور عابدين فيما سأقتطف لك من كتابه في فقرة سأوردها لكَ لاحقا. كان أحمد خير المحامي "وزيراً دبلوماسياً" ولم يكن "وزيراً سياسياً"، فانظر سنواته الست في وزارة الخارجية بين 1958 و1964، سترى ما تحقّق من نجاحات واختراقات جلّها مبادرات أنشأتها الدبلوماسية من أضابيرها، ومن قراءة الواقع الاقليمي والدولي من حولها: المساهمة في إنشاء المنظمة الأفريقية عام 1963. دعم حركات التحرر الأفريقي في ستينات القرن العشرين. مساهمة الدبلوماسية العسكرية السودانية في تهدئة الأزمة بين العراق والكويت أوائل الستينات. مساهمة الدبلوماسية العسكرية السودانية في الكونغو ضمن قوة ضاربة تحت بيارق الأممالمتحدة في الستينات. الدبلوماسية السودانية الصرفة غير المنحازة، جعلت مِن السودان أوّل دولة في القارة الأفريقية تعترف بالصين الشعبية. هل ثمّة من وصف أحمد خير بأنه يساريّ شيوعيّ أحمر. .؟ كلا . . ( 4 ) تستوقفني خاطرة جاءت من دكتور عابدين في ص 63 من كتابه الشيّق: (( لماذ يستعصي الوسط الفكري.. أعني الوسطية في التفكير على الأدلجة السياسية (تبنّي آيديولوجية) وعلى التظيم السياسي المتماسك ؟ لماذا يظهر الوسط الحيوية والفاعلية من الناحية العملية فقط عند الانحياز لليمين أو اليسار أو معارضة أيٍّ منهما، مرجحا لكفة على أخرى بالرغم من أنه يمثل السواد الأعظم والأغلبية الصامتة والخيار أو الطريق الثالث؟..)) تلك هي الفقرة التي أشرتُ إليها أعلاه وهيَ في نظرتي فقرة مفتاحية لسائر تجربة الحياة التي حكاها لنا د.عابدين عن مشواره السياسي والدبلوماسي. تركها خاطرة مرسلة ولكنّها توحي بالكثير، وكان بوسعه أن يزيدها تلويناً وتزويقاً، ولكنّهُ أراد حَفْز من يطّلع على الكِتاب، يستصحبها وهو يقلب صفحاته فيسمع صداها بين صفحة وأخرى. هذا "الرّماد الأعظم"- ولا أقول "السّواد"- الذي أشار إليه د.عابدين هو "الرّماد الايجابي" في لغتي، أو هوَ "الطريق الثالث" المُفضي إلى وسطيةٍ تُميّز السودان في محيطه العربي ومحيطه الأفريقي. هو ذات الطريق الذي انتهجه أحمد خير المحامي، والذي أسمّيه عن جدارة: "أب الدبلوماسية السودانية" لانحيازه الصادق لاستقلالها المهني، في مرحلة كانت الحاجة فيها أشدّ لتلمس المصالح والمنافع من أجل بناء وطنٍ، ما افتك أسره الكولونيالي إلا قبيل سنواتٍ تعدّ بأصابع اليدِ الواحدة. ترى معي هنا، أن نظاماً شمولياً- على عثراته الأخرى- قد يُحْسِن تحقيق التوازنِ في العلاقة بين المثقف والسلطة، فيكون المكسب أكبر وأثمن. ولو نظرت سترى نظاماً شمولياً آخر ضاق ذرعاً في مرحلة من مراحله، بآراء مثقفين آخرين مثل عابدين، فاحترقتْ العلاقة بين المثقف والسلطة العمياء. بلغ جلد الذات بمثقفٍ مهنيّ مثل مرتضى أحمد إبراهيم، شارك في التجربة الشمولية المايوية لفترة وجيزة، فدعا لشنق كل المثقفين الين أسهموا في صناعة ذلك الطاغية الذي تعرفون! إن قولاً كهذا لا يصدر إلا عن عقل حاصره التوتر وأوغرتْ صدره جراحات شخصية يعرفها أغلبكم. ولنا أن نعذر شطط الراحل مرتضى، إذ انْ كنا بشراً خطائين فإنا كذلك بشرٌ عافون . وأقرأ لكم فقرة من ص 258 من كتاب د.عابدين يعلق على روح التسامح والوفاء التي تجاوزت مرارات الخلاف بين رجل مثل الراحل الطيب صالح والسيد على عثمان محمد طه حين وجه باطلاق إسم الطيب صالح على شارع رئيس في ضاحية الرياض: (( هذا هو السودان.. خلاف واختلاف بل وخصام واحتراب ثمّ عفو وتسامح وعرفان واعتراف بالآخر..)) ( 5 ) ثم يأخذك دكتور عابدين إلى محور "الدبلوماسية الرسالية"، بعد أن اختارته "الانقاذ" سفيراً، أوّل تسعينات القرن الماضي، وقد أشار إلى نماذج عديدة من هذه البدعة الدبلوماسية في متون تجربته في الجزائر وفي العراق وفي لندن، ثمّ وهو يتبوأ منصب وكيل وزارة الخارجية بين عامي 1998 و2000. سرَد في اقتضابٍ لا تغفل عنه الفطنة، ظواهر الفشل "الرّسالي" في أداءِ الوزارة. كثيرون منكم قد توقّعوا أن يتوغَّل د.عابدين أكثر في نماذج بيّنة لعثرات "الدبلوماسية الرّسالية"، وأن يقود أصابعنا، مثلاً بعدَ مثل، لمواطن خللٍ رآها وكبواتٍ رصد سلبياتها. النماذج التي نعرف كثيرة، وما أكثر حاجتنا لاستجلاء طبيعة هذه العثرات، أو خيبات "التمكين"، إن أردنا الدِّقة، فالنياق لا ترى اعوجاج أعناقها، على قول مثلنا الدارج . سيختلف كثيرون من أهل السلطة مع نظرة المثقف عابدين لهذه الدبلوماسية. معرفتي لدكتور عابدين أنّه رجل الاختزال وسيّد الاقتضاب، وقد تجدون له عذراً لاحترامه عقولكم وإداركَكم لمُجمل ما عناه فنفرَ عن الإفصاح عنه بتفاصيله. سمعته كثيراً يردّد أنّهُ يفضل أن يكون سيّد الاقتضاب : Master of brevity ( 6 ) لم يكن النظام الشمولي ليسمح أن يتولى مسئولية كراسي الوزارة فيها إلا من كان من أهل البيت أو من دهاقنة التمكين، والدّهقان في "القاموس المحيط" هوالقَوِيُّ على التَّصَرُّفِ معَ حِدَّةِ، وذلك المعنى لمسناه على الأقل في سنوات التسعينات المريرة بحذافيره. الوزير سحلول هو الإستثناء، إذ جاءته الوزارة على سنام التمويهِ الذي كان شعار تلك المرحلة. نلاحظ أن الفترة التي تولّى فيها دكتور عابدين وكالة الخارجية (1998م-2000م)، كانت فيها لوزير الخارجية قبضة حديدية على أوضاعها وملفاتها ومفاتيحها. وسعى د. عابدين قدر اجتهاده أن تكون لإدارات الوزارة صلاحيات أوسع في إدارة ملفاتها، ولكن ما كان له إلا أن يستصحب حكمة أبي حيّان تلك، ممّا نقلت إليك أوّل حديثي : أن "اصحبَ الصّديق بلينِ الجانب والتواضع، واصحب العدو بالإعذارِ إليهِ، والحجّة إليه فيما بينكَ وبينه، واصحبَ العامّةَ بالبرِّ والبِشْرِ واللطفِ باللسان" ( ص 63 أبي حيّان التوحيدي:"الإمتاع والمؤانسة" ). ذلك كان نهج دكتور عابدين وهو يطرح رؤيته الإصلاحية في الجزء الأخير من كتابه، يخصّصه للجمهورية الثانية في السودان، يبشّر بها لاستشراف مرحلة من تاريخ البلاد بعد انشطارها إلى بلدين في 2011، بلغةٍ فيها المُناصحة الصادقة الشجاعة، مُغلفة بالبِشر ولطفِ اللسانِ، على قول التوحيدي. . ليس له من مُخاشنة لا تناسب تكوينَهُ الوَسَطي أو تُقصيه عن استقلاليته الايجابية. لا تقارن كتابات عابدين بمُخاشنات الإسلاميين بعضهم بعضا: كتاب عبدالوهاب الأفندي في نقد التجربة الإسلامية منتصف تسعينات القرن الماضي، أو كتاب المحبوب عبدالسلام عن خيوط الظلام في التجربة الإسلامية (2009)، أو كتاب عبدالغني إدريس: الإسلاميون ..أزمة الرؤية والقيادة- انجلترا (2012 ). . أعيدكم إلى تلك الفقرة المفتاحية التي أشرت إليها أول حديثي، فقد أقرّ د.عابدين فيها أن الوسطية الفكرية لم تفلح في ترويض "الأدلجة السياسية" كما سمّاها هو، وأنّ ذلك ما يُفسّر عنده ذلك الفشل المُستدام، تجربة إثر تجربة، في إدارة شئون البلاد. . ( 7 ) لابد من كلمة عن شكل الكتاب وأسلوب إخراجه وتصميم غلافه. إذ الفصول السبعة التي حواها قد توزّعت بعدالة على العنوان الذي وضعه عابدين لكتابه بين السياسة (ثلاثة فصول جملتها 126 صفحة) والدبلوماسية (أربعة فصول جملة صفحاتها 170)، عدا المرفقات والحواشي والصور التوثيقية. وكلمة إشادة مستحقة للفنان المصمّم مُعمّر مكي لغلافٍ حمل من موحيات الكتاب الكثير. ولمركز عبدالكريم ميرغني تقديرنا الخاص لاهتمامه بالنشر الدبلوماسي، فهو يحمل اسم أحد بناة الدبلوماسية السودانية الكبار، كما أن اخراج الكتاب جرى وفق المعايير الدولية المُتعارف عليها من ناحية حجم الكتاب ونوع البنط وأرقام التصنيف الدولي. الخرطوم – سبتمبر 2013