مصطفى بركات: 3 ساعات على تيك توك تعادل مرتب أستاذ جامعي في 6 سنوات    قِمّة الشّبَه    الجيش عائق لأي مشروع وطني في السودان إلى حين إشعار آخر!    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تايسون يصنف أعظم 5 ملاكمين في التاريخ    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    نقل طلاب الشهادة السودانية إلى ولاية الجزيرة يثير استنكار الأهالي    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توارد الخواطر مابين الشعر المُعْرَبْ والدوبيت السوداني .. بقلم: أسعد الطيب العباسي
نشر في سودانيل يوم 28 - 09 - 2009

asaadaltayib@gmail,com نرى أن مقومات الشعر العربي الفصيح أو المُعْرَب كالوزن والقافية وشكل البناء الفني، وما يشاكل ذلك من معانٍ وصور وأخيلة ومشاعر تتوافر في شعر الدوبيت السوداني، وأنه لا اختلاف بينهما إلا في شيءٍ واحد وهو اختلاف شكلي، إذ إن لغة الدوبيت لغة غير مُعْرَبَة، وهذا لا يضيرها كونها لغة شعرية من الطراز الأول، وأن معظم مفرداتها فصيحة بل عريقة في هذه الفصاحة، وأن ما يبدو منها غريباً علينا لا يعدو أن يكون لهجة من اللهجات العربية القديمة، وغنيٌ عن القول إن البيئة التي تخلَّق فيها الشعر المعرب وهي بيئة الجزيرة العربية، تشابه إلى حدٍ كبير بادية السودان التي نبع منها الدوبيت السوداني. وأزعم أن مراحل التطور التي واكبت القصيدة العربية، هي نفسها المراحل التي مر عليها الدوبيت السوداني، وإن كان لا يزال محتفظاً ببنائه الرباعي الغالب وقافيته المتحدة عند كل شطرة، وبنيته الصغيرة التي تعبر عن فكرة معينة أو خاطر عابر، وذلك في غير القصائد والمربوقات والمسادير. وقد لاحظت كما لاحظ غيري من الباحثين، أن كلا الشعرين ولجا ميادين شعرية واحدة، وطرقا أبواباً شعرية واحدة، وأن العوامل والقيم التي مازجت كليهما لا يختلفان، كل ذلك جعل طرق المعاني الواحدة يأتي كثيراً بينهما، وهذا ما يسمى بتوارد الخواطر. والمؤكد أن هذا يتم ويجري بينهما دون أن يعرف ظاهرة السرقات الفنية والأدبية التي برزت في ديوان الفصحى، ولم تبدُ لنا ما بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، وهذا رأيٌ يعززه واقع الحال كالبعد الزماني والمكاني، فكيف يتسنى لشاعر بدوي من أقاصي السودان، أن يطرق معنىً طرقه شاعر جاهلي دون أن تمكنه ثقافته من التعرف على ذلك الشاعر، فضلاً عما قاله من شعر، غير أن يكون هذا مجرد توارد خواطر. وأذكر في هذا الصدد أنني قرأت على الشاعر القومي محمد شريف العباسي أبياتاً من قصيدة للشاعر عمرو بن أبي ربيعة، وعندما وصلت للبيت الذي شبه فيه عمرو مقصودته بدمية الراهب الجميلة التي صورها بجانب المحراب والذي يقول فيه:
دُميةٌ عِندَ رَاهبٍ ذي اجتهادِ صَوَّرُوهَا في جانبِ المحرابِ
أصيب بدهشة عابرة على إثرها قال لي إن هذا المعنى أصبته في مربع أقول فيه مخاطباً جملي التلب:
اللَيل أمسى والخَّبْ الدُقَاقْ مَسَّاكْ نَسيتْ الرَقلي ولا البيا مَا خَسَّاكْ سَوِّي تِزِوِّع اللَقَّحْ نَعامُو عَسَاكْ تَدني بَعيدى مِن تَصويرةَ النُسَّاكْ ولعلنا نلاحظ أن كلا الشاعرين جعلا من الصور التي يضعها الرهبان أو النساك على جدران المعبد أو على جانب المحراب التي توسم بالجمال، محلاً لتشبيه مقصوديتها. ولا شك أن في ذلك توارد خواطر عجيب.
وتوارد الخواطر الذي نعنيه ما بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، كان محلاً للبحث عند عدد من الباحثين كالشيخ عبد الله عبد الرحمن الضرير في كتابه (العربية في السودان)، والدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه (الثقافة العربية في السودان)، والأستاذ عبد الحميد محمد أحمد في كتابه ملامح اللغة العربية في عامية السودان، والشاعر إبراهيم عمر الأمين في كتابه (توارد الخواطر بين الشعر العربي والشعر القومي)، على أن هذا التوارد انتبه إليه في شأن الشعر المعرب قبلهم بقرون عديدة، الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي، عندما قرر أن الشعراء قد يطرقون ذات المعاني، وذلك من خلال ما أورده في صدر بيته الذي ابتدر به معلقته الشهيرة والقائل:
هل غَادَر الشُعراء من مُتَّرَدَمِ أَم هَلْ عَرفْتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُمِ
وتوارد الخواطر بين الشعر المعرب والدوبيت السواني يقع كثيراً، وله في كافة أبواب الشعر نماذج عديدة، فعندما أشار شاعر عربي قديم إلى سلوك العرب عند الحروب الذي يأبى المباغتة ويأنف من الإغارة ليلاً في قوله:
دخولُ الفاتحينَ يكونُ صُبحاً ولا تُزجَى مَواكِبَهُم مَسَاءُ
وجدنا ذات الإشارة في مربع شعري لأحد شعرائنا من أهل الدوبيت، مما يدل على وحدة القيم واتساقها وذلك في قوله:
بعدَ الغيبه تَّبْ ما بِنسَوِّي الغَارَه بِنَبداها بالنهار بي نِحاسنَا والنُقَارَه مَا بنزِحْ ورا الحَيطَانْ ولا بِنضَارَى زَي لِصَ المَعيْز الباطِلْ أَبْ شُمَارََه ووحدة السلوك بين القدماء من شعراء أهل الجزيرة العربية والمحدثين من أهل بادية السودان، تبدو أكثر وضوحاً في نصين وقع بينهما توارد خواطر، أحدهما للشاعر أبو فراس الحمداني الذي قال فيه:
إِنا إذا إاشتَدَّ الزمانُ ونَابَ خَطبٌ وادلَهَمْ أَلفيتَ حول بيوتِنا عددَ الشجاعةَ والكرَمْ للقاءِ العِدا بيضُ السيوفِ وللندى حُمرُ النِعَمْ هذا وهذا دأبنا يودي دمٌ ويراقُ دَّمْ وفي النص لمن نظر إبانة دالة على السلوك عند الحرب والسلوك عند السلام، ففي الحرب يتمسكون بالشجاعة والعزم على قهر العدو، وفي السلم يكرمون الضيف ويحسنون وفادته. وهذا عين ما أشار إليه النص التالي الذي قال به أحد شعرائنا من أهل الدوبيت يقول:
الدايرَ الكَرمْ إيانا رَاسو وسَدْرُو والضيفْ البِجينَا نَعِزو نَرفَعْ قَدْرُو خَلواتَ الضيوفْ حَيرَانَا ياكلو ويِقْرُو والبِهبِشنَا بيْ سِنيناتُو بيحفر قَبرُوا وفي شأن هذه الحماسة تذكرنا خاتمة المربع الشعري القائل:- فُرسَان دَار جَعل ديل البِفِِشو الوَجْعَه والخَاتي البِجيهُم مَا بِضوقْ الرَجْعَة قَالوا بْهددونَا يِِسبِبولنَا الفَزْعَه أَبشِر يا اللَسدْ كان جَاتْ تَكاتلَكْ ضَبعَه ببيت الشاعر جرير الشهير القائل:-
زَعَمَ الفَرزدقُ أَن سَيَقْتُلَ مِربَعاً فابشِر بِطولِ سَلامَةٍ يَا مِربَعُ
والخواطر المتواردة مستمرة ومتزايدة بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، وقد وقعنا حديثاً على معنىً أدركه الشاعر الكبير في موهبته والصغير في سنه الشاب سليمان عجيمي، وهو معنىً سبقة إليه شاعر قديم في بيت شعر يحكي خيبة أمل عميقة وغائرة يقول:
كُنتُ كالمتمني أَن يَرى فَلقاً مِن الصباحِ فَلما أَن رَآهُ عَمِيْ .. !
ويقول عجيمي:-
إِمْتَدَّ البَهيمْ مَنَعْ الصَباحْ وشُعَاعُو لأَنُو مُنايَ في نَظرة للتِبر الجَميل فُقَاعُو قَبلَ الشرقَه ما اتمتَّعْتَ بالشَتِل البُتَاعْ زُرَاعُو وا أَسفاي عَلى بَصَرِي وحَواسِي الضَاعُو ولعل عجمي زاد في المعنى وعمق الخيبة المأساوية عندما أضاف إلى حالة العمى فقد الحواس. وفي الأشعار الحديثة نجد أنواعاً جيدة أفرزها توارد الخواطر بين الدوبيت والشعر المعرب، ونأخذ لذلك مثالاً لما قاله الشاعر البدوي الأسمر الذي أنشأ مربعاً شعرياً يقول فيه:- وَدعتُو الرَزينْ زَرَفَنْ عُيونُو مَدَامِعْ دَافِر صَدرو رُمانْ مَطَّعَمْ وطالِعْ قُتْ ليها البَرطَمْ المِنْ فَرو بَرقاً شَالِعْ بجيب الغَايب المجروحْ فُؤادو مُوالِعْ وهو مربع يحيل إلينا ذكرى المقطع الشعري الرائع الذي قال به الشاعر الرقيق شفيق الكمالي والقائل:- لا تَقلقي ...
إِنَّا غَداً سَنلتقي ...
لا تقلقي إذا ما مرَّ عامٌ ولم نَلتقِ ...
ففي صَدرِكِ المَرمَري .. رُخامٌ طَري ...
وكوزا نبيذٍ وتِلا زُهورٍ مِن الزئبقِ ...
يَحِنُ لَها خَافِقي ...
فلا تقلقي إذا ما مرَّ عَامٌ ولم نلتَقِ ...
إذن فكلا الشاعرين راهنا على العودة إلى الحبيبة وأكداها لسبب واحد، وهو الجمال الذي لا يستطيعان أن يغيبا عنه طويلاً.
وكانت القصيدة العربية التقليدية تنتهج أشكالاً معينة في ديباجتها مهما كان موضوعها مختلفاً، وأغلب ذلك يكون في النسيب وذكر الأطلال ومنازل الأحبة والوقوف والبكاء عليها، والأمثلة في هذا كثيرة ومتعددة، نأخذ منها قول طرفة بن العبد في مطلع معلقته والتي يقول فيها:-
لخولةَ أَطلالٌ ببرقَةِ ثَهمَد تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظَاهِر اليَدِ
وقُوفاً بِها صَحبي عليَّ مَطِيَهُمْ قَالوا لا تَهلَكْ أَسَىً وتَجَلَدِ
وقول إمرؤ القيس الذي إبتدر به معلقته:-
قِفا نَبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ بسقطِ اللِّوى بين الدَخُولِ فحَومَلِ
فتُوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها مِن جنوبٍ وشمأَلِ
وهذا التقليد لم يغب عن الدوبيت السوداني، وظهر عند بعض قائليه، فها هو شاعرنا أحمد عوض الكريم أبو سن يُحَيي قلع الهماييب حيث كانت تسكن حبيبته آمنة، ويتذكر تلك الأيام التي جمعته وآمنة والهوى وقال:- يا قَلَعْ الهَمَاييبْ لِيك كُل سَلاَمنَا يا حليلَكْ قِبيلَ وَكتاً سُكونْ نَاس آمنَه لَيكْ عنينَا فَوق القُود عُدال أَيامنَا فِيك صَبَّحنَا دُورْ الحِشْمَتِنْ مِطَامنَه ويقيني أن أهل الدوبيت الذين طرأت في أشعارهم هذه التقاليد الشعرية، طرأت عن ابتكار ذاتي، وإذا ما صادفت المعاني القديمة لا يكون ذلك سوى خواطر متواردة، إذ لم يكن شاعر الدوبيت بحكم ثقافته المؤطرة والمختلفة والمحدودة بحدود باديته، لينظر أبداً للأوائل من قدماء العرب ليقلدهم أو يأخذ منهم، كما فعل أصحاب الشعر المعرب المحدثين الذين قادتهم ثقافتهم للاطلاع على أشعار من سبقوهم، فنظروا إلى قصائدهم وأخذوا منها الديباجة تقليداً، كشاعرنا محمد سعيد العباسي الذي أبدع وهو يقول في مطلع قصيدته بنو أبي:- قِفوا في رُباً كانت تَحلُ بِها سَلمى
فإنِي أَرى هِجرانَ تِلكَ الرُبا ظُلمَا أُسائِل رَسمَ الدارِ أَين تَرحلوا
وهَل أَفصحتْ يوماً لسائِلها العُجمَا على أَنه ما كادَ يُبقى لمُدنَفٍ
بُكاءُ الحَيا الوسمىِّ رَسماً ولا وسمَا مَنازلُ كانت للبدور مَنازِلاً
فأَضحَتْ لريمِ الوَحشِ مِن بَعدِها تََسمَى وتوارد الخواطر ما بين الشعر العربي القديم والدوبيت السوداني له أسبابه كما ذكرنا، والتي تتمثل في سببين رئيسيين أولهما تراكيب البناء الفني للشعر عندهما ومقاصده الواحدة، والذي تتركز فيه المشاعر التي تستمد قوتها وأنواعها من التقاليد والقيم البدوية المنسقة والمنسجمة التي تشكل بينهما أحاسيس مشتركة، فتبرز في أحيانٍ متعددة صور المعاني وكأنها واحدة، وثانيهما تشابه البيئة الطبيعية، حيث نجد أن أرض الجزيرة العربية وبادية السودان تحملان ملامح مشتركة، ففيهما تبدو الشموس حارقة والأقمار مضيئة والنجوم دالة والسهول ممتدة، وتمرح في وديانها ومرتفعاتها ومنخفضاتها الظباء والغزلان، وتصهل الخيول وترزم الإبل، وتحلق في سمائها الصقور والطيور المغردة، وغير ذلك مما يشكل التشابه البيئي والطبيعي في كليهما، وقد وجدنا مثالاً جيداً أورده الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن في كتابه (تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة) نستطيع أن نستنبط منه الدلالة التي توضح علاقة السببية التي تجمع بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني المتمثلة في الركن الطبيعي الذي ذكرناه في شأن توارد الخواطر، فقد أورد الدكتور أبو سن مقارنة ما بين شاعرنا الحاردلو والشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى وهما يصفان الصيد في الرحلة والسلوك وغير ذلك بتوارد خواطر يثير الدهشة، حيث أن أول ما يلفت النظر من تشابه في شعرهما هو الإكثار من ذكر المواضع التي ترتادها الظباء، فنجد أن زهيراً ذكر الجواء ويمن والمقادم والحساء وذوهاش وميث عريتنات وذلك في قوله:-
عَفَا مِنْ آلِ فاطِمةَ الجِواءُ فَيُمْنٌ فالمقادمُ فالحِساءُ
فذو هَاشٍ فَمِيثُ عُرَيتِنَاتٍ عَفَتْها الريحُ بَعْدَكِ والسَماءُ
فَذَرةُ فالجنَابُ كأنَ خُنسَ النِعاجِ الطاوياتِ بِها المِلاءُ
كما وجدنا أن الحاردلو ذكر المواضع التي يمر بها الصيد كالقليعة أم غرة وود دعول ومقرح الحربة كما سنرى في مربعيه التاليين:- أَبْ عَرَّاقْ فَتَّقْ قَرنو المِبادرْ شَرَّه والبَاشَنْدِي عَمَّتْ مَهشَشَيبْ الدَرَّه مِن النقره كُلْ حِينْ عِلِيوْ مِنصَرَّه هَا الأَيامْ مَحاريها القِليعه أُم غُرَّه
******
قَطَعَنْ وَدْدَعُولْ بِجرَنْ شَفَاقَه عُدَالْ وخَتَمَنْ مِقْرِحَ الحَربَه الجُبالو طُوَالْ قَلْتْ أُمَات قُرودْ وَرَدَنُو بيْ القَبَّالْ خِلقَنْ كيف بَرَمولهِنْ دَمير حَبَّالْ وتتضح في الصور الشعرية القادمة لزهير والحاردلو، إدراكهما أن حمار الوحش أو التيس الذي تنعقد له قيادة السرب باعتباره صاحب القوامة على هذه الظباء، بأنه رائد لا يكذب أهله، وهو المدافع عنها وحامي حماها من كل معتد وغادر، لأنه يتقدمها في السير ويحبسها إذا ما استشعر الخطر، حتى ينداح ويتحسس لها في بحث دؤوب مواقع الشراب والكلأ، وفي هذا المعنى يقول زهير بن أبي سلمى:-
فَلَيسَ بِغافِلٍ عَنها مُضَيعٍ رَعِيَتَهُ إذا غَفَل الرِعَاءُ
وليس لِحَاقُه كلِحاقِ إِلفٍ ولا كَنَجَائِها منهُ نجاءُ
وفي هذا المقام يقول الحاردلو:-
خَلاَّهِنْ على رِدْ الصِفَيَّه حُبُوسْ ولِقَى في الدَهْسَريبْ قُمبَارْ وعِرقْ فَقُّوسْ فِي المخَلُوقَه شِنْ تشبَه مَعِيزْ أُمْ رُوسْ غِير الفِي وَرِِيدِنْ شٌولَقِنْ مَرصُوصْ وبعد أن يطمئن التيس على توافر الماء والكلأ، يعود إلى سربه ليقوده إلى المظاعن التي اكتشفها، وهذه الصور شخصها لنا الحاردلو بقوله:- جَاهِنْ مِنزقِفْ وكتاً عِصَير وشَفَافْ وكاسِبِ ليلو بيهِنْ مِنْ صَدَفْ ما بخَافْ دَيل الطَبعَهِنْ دَايمَ الأَبَدْ عُيَّافْ وفي نايطَ السُروجْ لِقْيَنْ بِقيِلاً جَافْ ويقول الحاردلو إن التيس القائد عندما يحس بالخطورة يوقف سربه عن السير، ويذهب وحده ليكتشف الطريق، ثم يعود مهرولاً ويتعجل سربه للنهوض والسير
خلفه:-
مِنْ دَعَتْ السَراويلْ قَبَّلنْ دارتَاتْ عَليْ العِشنُوق لِقَنْ زوزايْ وبيْ فَارَّاتْ عَسْكرْ خَافْ عَليهِنْ في ضَرا مَيعَاتْ وجَاهِنْ وعَافَطَنُّو بَعدْ نَهارهِنْ فَاتْ وهذه صورة أعطانا لها زهير من قبل، حيث أوضح لنا أن حمار الوحش يزعج ظباءه ليقودهن، فيرتفع بهن حيناً إلى عوالٍ، وحيناً ينخفض بهن إلى السهوب والفجاج حيث يتبين لنا ذلك في قوله:-
تَربَّعْ صَارةْ حَتى إذا مَا فَنَى الدَحلان عَنهُ والإضاءُ
تَرفَّع للقِنَانِ وكلِ فجٍ طَبَاهُ الرعيُ منهُ والخَلاءُ
فأَورَدَها حِياضَ صُنيعَباتٍ فَألفَاهُن لَيس بِهُن مَاءُ
فَشَجَّ بِها الأَماعِزَ فهي تَهوِي هُوِيَّ الدَلوِ أَسلَمَها الرِشَاءُ
ونلاحظ أن زهيراً قد شبه الظباء وهي تحط من علٍ كدلو الماء وقد انقطع عنه حبل الرشوة فيسقط سريعاً نحو سطح الماء في البئر، وهو تشبيه وقع عليه الحاردلو، غير أنه ألبسه ثوباً آخر حينما شبه الظباء وهي تنحدر من الأعالي انحداراً شديداً، بأوراق الشجر اليابسة التي تغادر أفرعها هاوية في سرعة نحو الأرض، وذلك في قوله:- دَيلْ الدَيِما مِن رِدْ الأَنيسْ نَاجعَاتْ وكُل حين فوق عليَونْ نَابي مُنجمعَاتْ متماسِكْ سَدُوهِنْ وبيْ الحُدوبْ شَاتَّاتْ جَاهِنْ وَزاعلنُوا وجَنُوا مُنحَتَاتْ وعند الشطرة الأخيرة الفائتة يستمر توارد الخواطر ما بين الحاردلو وزهير، إذ إن الشطرة المشار إليها تحمل ذات المعنى الذي حمله بيت زهير القائل:- وإِن مَالاَ لِوَعثٍ خَاذَمتهُ
بِألواحٍ مَفَاصِلُها ظِماءُ
وختاماً لهذا القول سأشير إلى سمة فنية مشتركة بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، خاصة عندما يتحدثا عن الظباء التي كثيراً ما تأتي في أشعارهما في محل تشبيه للمحبوبة، على أن ذلك يصيبه أحياناً تداخل مدهش حتى لا نكاد نفرق ما بين الظبية والمحبوبة، لتداخل الصور وتمازج المعاني وكثافة الومضات. وعلى كلٍ يعتبر توارد الخواطر ما بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، إشارة مهمة تدلنا إلى وحدة القيم وتشابه البيئتين وطرائق الإبداع والتفكير عند كل من شعراء الجزيرة العربية من أهل القصيدة المعربة، وشعراء البادية السودانية من أهل الدوبيت. ويمكن للمتلقي أن يستزيد ويستلذ في شأن هذا التشابه المذهل بالرجوع للسفر الرائع الذي أنجزه الدكتور العالم الأستاذ إبراهيم القرشي وهو كتابه ( بين الأميرين الشاعرين إمرئ القيس والحاردلو) ( قصة التشابه المذهل).
اسعد العباسي [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.