من الظواهر التي استرعت انتباهي بعد عودتي من بريطانيا إلى السودان، التي عشت فيها أكثر من ربع قرن من الزمان، وأُتيح لي بفضل الله تعالى وتوفيقه أن أشهد أول صلاة جمعة في الكونغرس الأميركي، بدعوة كريمة من الأخ الصديق الدكتور رمضان زعزوك الأمين العام للمجلس الإسلامي الأميركي في واشنطن، هي أن صلاة الجمعة لم تعد خطبتها تركّز في أمر الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استجابة لقول الله تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". وصارت خطبة الجمعة في هذه الأيام بياناً سياسياً، وأصبحت المساجد في يوم الجمعة منتدى من المنتديات السياسية، التركيز فيها على إرسال رسالة سياسية، في أغلب الأحايين تكون هذه الرسالة السياسية التي أُفردت لها الخطبة كلها أو معظمها، مؤيدة للحكومة، أو مناصرة المعارضة. وأحسب أنه قد غاب أو غُيِّب عن الأئمة ضرورة إفهام الدين للمصلين بالتذكرة والموعظة الحسنة، وتأكيد ضرورات الالتزام بمقتضيات الهدي القرآني والتأسِّي النبوي في تعليم المصلين الذين يرتادون صلوات الجمعة في المساجد المختلفة، أمور دينهم، مع اليسير من أمور الدنيا، بالمثاقفة والمعلومة، دون تغييب لواقع الحال ومآلات الأحوال. بينما تجد في بعض المساجد، الخطبة تفتقد الحيوية، وتدعو إلى التلهي عنها والانشغال عن مُجرياتها، بل إن بعضهم يستسلم لغشيان النعاس، أو تدفع بعضهم إلى التباطؤ في المجيء إلى المسجد، ليقصره على سماع خواتيم الخطبة وحضور الصلاة ومنهم من يدرك صلاة الجمعة دون خطبتها، بحجة أن خطيب جمعة ذلكم المسجد، يسيِّس الخطبة تأييداً للحكومة أو مناصرة للمعارضة في تضمين ثنايا خطبته قضية أو قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية من منظور موالٍ للسلطة أو من منطلَق مناصر للمعارضة. أخلص إلى أنه من الضروري معرفة أن فضل صلاة الجمعة مثبت في القرآن والسنة. وقد خصّص الله تعالى سورة كاملة باسمها. والمؤمن مخاطب من قبل الله تعالى بضرورة السعي إليها سعياً حثيثاً، وأن يذر في سبيلها الانشغال بالبيع أو أي شيء آخر سواها من أمور الدنيا، فور أن ينادي المنادي للصلاة في هذا اليوم المبارك، تنزيلاً لقول الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ". ومن الضروري معرفة أن في يوم الجمعة ساعة مستجابة، حيث يستجيب الله تعالى لدعاء المصلين في هذا اليوم الطيب، تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في يوم الجمعة ساعة، لا يوافقها مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه. وقال بيده، قلنا: يقللها، يزهدها". وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتُنِبَت الكبائر". وقال ابن قدامة في فضل الجمعة: "فأمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، ونهى عن البيع، لئلا يشتغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها". وقال القرطبي: "فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم، رداً على من يقول: إنها فرض على الكفاية". وأدلتها في السنة، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ من هنا يتضح لنا جلياً أنه لا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وأن صلاة الجمعة واجبة ينبغي السعي إليها لذكر الله تعالى. ولذلك لا ينبغي أن نجعل ارتياد صلاة الجمعة عادة أكثر منها عبادة. وعلى الأئمة مراعاة موجبات هذا الفضل لصلاة الجمعة، فلا يجعلوا خطبهم كأنها بيانات سياسية أو نشرات صحافية، تستعرض قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع من منطلقات حزبية أو سياسية، بعيداً عن تدبر الأمر ومعالجته، وفقاً لما قال الله تعالى ورسوله الكريم وليس الأهواء الشخصية والانتماءات الحزبية، حكومة أو معارضة. فلقد صارت خطب منابر الجمعة أقرب إلى خطب المنصات السياسية. وعلى فهم مزاوجة الدين بالدنيا من غير ازدياد أو نقصان، وجمعة مباركة.