الحداثة لغة تعني حصول أو ظهور شيء أو مفهوم جديد من شيء أو مفهوم قديم أي أنها من هذا المنظور تشير إلى التواصل الخلاق والتطور المستمر. وكاتب هذه السطور يميل إالى رأي مؤداه أن الحداثة اصطلاحا هي رؤية متجددة للحياة وموقف من الذات ومن الحضارة ومن الوجود ككل هدفها خلق بني ثقافة – فكرية تلبي متطلبات الحياة الجديدة. فالحداثة مفهوم شامل وموقف من الفعل والكلمة قادر على التمييز بين المنتهي والمستقبلي. وكان عالم الإجتماع الفرنسي آلان تورين قد عرّف الحداثة على النحو التالي: إنها تعني إنتصار العقل وإحلال العلم محل اللاهوت المسيحي ، داخل المجتمعات الأوربية. فالعقل هو الذي يوجه العلم وتطبيقاته على أرض الواقع. وهو الذي ينظم المجتمع بطريقة مناسبة لإشباع حاجيات أفراده وإسعادهم. ويرى مفكرو الحداثة الغربيون أن الحداثة تعني الحرية أي "حرية التفكير والتعبير وإستقلالية الضمير البشري بالقياس إلى المعتقدات الدوغمائية المفروضة عليك غصباً عنك وبدون أي نقاش". ويعتبر مصطلح "الحداثة" من أكثر المصطلحات تداولاً في مجال الفكر بوجه عام والأدب الإنساني على وجه التخصيص. وحقيقة لم يشتهر مصطلح في العالم ولم ينتشر ، مثلما اشتهر مصطلح الحداثة وإنتشر. وصحيح أن مصطلح العولمة أصبح مشهوراً جداً الآن ، بل ويكاد يحل محله .. ولكنه – وكما يذكر المفكر العربي الدكتور هاشم صالح في مؤلفه "من الحداثة إلى العولمة – 2010م" حديث العهد ولا يتجاوز عمره بضع سنوات يضاف إلى ذلك أنه مرادف للأول أو إمتداد له ... أما مفهوم الحداثة فقد أصبح قديماً من كثرة إستخدامه وعريقاً في ذات الوقت. وجدير بالذكر أن الكلمة (modernite) الفرنسية تعود إلى بودلير ، ومنتصف القرن التاسع عشر (1849م). وربما ظهرت في اللغة الإنجليزية قبل ذلك التاريخ (modernity) ، ولكنها لم تنتشر فعلاً إلا على يد بودلير وجماعته. وبالتالي فالكلمة انتشرت في مجال الشعر والفن قبل أن تصل إلى الفلسفة والفكر. والغربيون يقسمون تاريخ الفكر إلى ثلاث حقب كبيرة : العصور الكلاسكية "اليونانية والرومانية ، العصور الوسطى المسيحية وعصور الحداثة. وبالتأكيد فإن هذا التقسيم لا ينطبق إلا على تاريخ الفكر الأوربي أو الغربي. أما الفكر العربي – الإسلامي فله تقسيم آخر يناسبه، وينطبق الأمر ذاته على الفكر الهندي، أو الصيني ... الخ. ويرى بعض أهل الفكر أن مصطلح "الحداثة" لا ينطبق إلا على الدول السبع الكبرى (الولاياتالمتحدة، بريطانيا ، فرنسا ، كندا ، إيطاليا ، المانيا ، اليابان) التي تحكم العالم. ويضيف آخرون إليها دول الإتحاد الأوربي بعامة وأما الدول الأخرى فهي تسعى جاهدة نحو الحداثة. والحداثة في الأدب والفن تعني التجريب المستمر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحداثة الغربية قد اكتمل نضجها بعد الحرب العالمية الأولى ( 1914-1918م) بتعدد مدارسها من سريالية ووجودية ونهلسية (عدمية) وتعبيرية ومستقبلية، في حين أن الحداثة العربية ذات واقع تاريخي مختلف. ويرى الناقد العراقي الدكتور يوسف عز الدين أن الإيغال في الغموض والتجريب (الابتعاد عن الأشكال الفنية المتعارف عليها) سمة بارزة من سمات الحداثة الغربية. وإذا ما أخذنا الشعر نموذجاً نجد أن الشاعر الغربي يسيطر عليه إطاره القيمي الإجتماعي بما فيه من رموز وأساطير ومؤثرات إغريقية – رومانية وبيئية مغلقة ملأي بالأشباح والعفاريت ناجمة من جراء العواصف والثلوج والأمطار بعكس البيئة الشرقية العربية التي يعيش فيها الفرد حراً طليقاً في جو صافٍ مشمس هادئ ونسيم عليل. علاوة على ذلك،فإن الشاعر الغربي يقدم نتاجه الإبداعي إلى مجموعة محدودة من الناس يميلون بطبيعتهم إلى العزلة والفردية في حين أن الشاعر العربي يخاطب مجتمعاً تقليدياً وقطاعاً كبيراً من الجمهور تتسم العلاقات الإنسانية بينهم بالتداخل الشديد، لذا يجب أن تراعى هذه الخصوصيات عند نظم القصيدة العربية. ثمة إشارة هنا، وهي أن بعض الإخباريين على رأي مفاده أن الشاعر الجاهلي أمرؤ القيس عندما كان في طريقه إلى القسطنطينية بعد مقتل أبيه "ملك كنده" طالباً العون من الإمبراطور الروماني للأخذ بثأره ، مرّ على منطقة بها أصنام ، فوجد ثعلباً يتبول على أحد هذه الأصنام فأنشد قائلاً: أرب يبول الثعلبان برأسه × فبئس رب بالت عليه الثعالب قد إتخذ موقفاً حداثياً حدد فيه علاقته بالمعبود والوجود . ويرى ثلة من الباحثين أن الحضارة الأندلسية مكاناً وزماناً تمثل عصر حداثة ليس فقط في التاريخ العربي – الإسلامي إنما في التاريخ الأروبي أيضاً. فمعظم حركات التفلسف الإسلامي حداثة والموشحات الأندلسية تعتبر نتاج حداثي متكامل وهي أكثر تطوراً-على رأي نفر من النقاد-من الشعر العربي الحديث(التفعيلة وقصيدة النثر). جادك الغيث إذا الغيث هما × يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلماً × في الكرى أو خلسة المختلس قد مضينا نبذل الخير وما × نامت الأعين عند الغلس إننا مجد وعز إننا × عائدون أمتي لا تيأسي وكانت حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي نقطة التحول في الذائقة الشعرية العربية لخصوصيتها من أنها كانت منعرجاً هاماً في تاريخ دول العالم الثالث. ، فهي مرحلة التحرر الوطني والانعتاق من ربقة الاستعمار . وبعد أن تحقق الإستقلال السياسي للعديد من الدول العربية ، طفق الأدباء والشعراء يتلمسون قضية الهوية الثقافية . فكان شعر التفعيلة سمة بارزة لنتاج الشعراء الشباب في ذلك الزمان، فتفننوا في إبتداع صور ورؤى وأخيلة تحرراً من قيود القافية والإرتكاز على الوزن في القصيدة إيفاء بمتطلبات الحياة الجديدة (الحداثة). وبمجئ السبعينات والثمانينات للقرن الفائت شهدت الساحة الأدبية العربية زخماً شعرياً لافتاً للنظر لعل من أبرز علائمه بروز قصيدة النثر رغم أن هذا النمط التعبيري أسبق تاريخياً من تلك الفترة في بقية الأقطار العربية. وسمت هذه الذائقة الجديدة مرحلة الخروج الكامل عن الإيقاع (المفرد والتركيبي) والإنطلاق باللغة نحو الخيال والمجازية. وإعتبرها العديد من الأدباء الشباب من كتاب "قصيدة النثر" تؤمي إلى إبداع شعري جديد يتجاوز الحداثة إلى ما سمى " ما بعد الحداثة" . وهناك أمثلة عديدة لهذا النمط التعبيري ليس هذا مقام بسط القول فيها ، غير أنني سأحصر حديثي في مثالين من المشهد العربي. وأثبت هنا ما قاله على الجندي في قصيدته "التحديق في المجهر اللولبي:"ألمح من خلال الماء أعين وحشي له رهبة الجزر الهامدة/ وأسمع دقات قلبي في رعدة الماء / أشعر كيف إنسيابي في الموج يمنحني خفة في النشور" . أما المثال الثاني فهو لحلمي سالم أحد كتاب قصيدة النثر المصرية. يقول في قصيدة بعنوان " الهناء العائلي". " بيني وبينه زجاج البيجو، المزارع الذي غرز ساقيه في الطين / ربما مشت زرعة الطماطم من حقله بالعياط إلى سوق الخضار بالدقي / فشكلت جزءاً غذائك وغذائي / ولعله بسبب ذلك فقد هناءه العائلي. وفي تقديري، أن القارئ للنموذجين أعلاه لا يشعر بتوتر شعري أو موسيقى داخلية تشي بروح الشعر . ومن الجلي أن هذه الأبيات تخلو من الهزة والرعشة التي يحسبها بعض النقاد الحداثيين أنها أبرز السمات الإبداعية لقصيدة النثر. ورغم ذلك فإن هناك إصرار من الأدباء الشباب ومناصريهم من كتاب "قصيدة النثر" إنها – أي قصيدة النثر – تومئ إلى إبداع شعري جديد يتجاوز الحداثة إلى ما سُمي " ما بعد الحداثة". ويرى بعض النقاد أن أعداد متزايدة من الشباب بدأت تلجأ إلى قصيدة النثر لأنها سهلة التناول وتهتم بالمظاهر السطحية (السرد الومضي والإشارات والتهويمات الغائمة) وذلك لأن الشباب بشكل عام لا يملكون أدوات الإبداع الشعري من عمق اللغة وإتساع القاموس اللفظي، فضلاً عن عدم إلمامهم بالأطر الفنية والقواعد الموسيقية والمضمون النغمي للقصيدة العربية. وإبتعد هؤلاء ليس فقط عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي بل عن الأوزان الشعرية والموسيقى الداخلية. فاستعصت عليهم التجربة وتمردوا عليها لعدم قدرتهم على إستيعابها. وفات على هؤلاء أن شعر التفعيلة الذي إرتقى صوراً ومضاميناً وأخيلة في الستينات لم يستنفد رؤاه لتستفرد قصيدة النثر بالمشهد الشعري ، فلا تزال هناك بحاراً لم تسبر أغوارها ومفاوزها بعد في التفعيلة العروضية . وبرغم البروز اللافت لقصيدة النثر في التسعينات ، إلا أن هناك نماذج غير قليلة من شعراء الشباب ما إنفكت تمتح من معين التفعيلة وفضاءاتها الأبكار. بيد أن الملفت للعيان التراجع المذهل للقصيدة العمودية. ويبدو أن إيقاع الحياة المتسارع وما يحفل به عالمنا الراهن في فواتيح الألفية الثالثة من تطورات وتغييرات عاصفة في شتى جوانب الحياة لا يستطيع أكثر الناس إيغالاً في التنبؤ بحدودها ومآلاتها، ستفرز دوماً أوضاعاً حداثية تنعكس بالضرورة سلباً أو إيجاباً على الذائقة الفنية شعراً كانت أو نثراً . فالموقف الحداثي صيرورة تاريخية متجددة بإستمرار ولا يقبل الكلمات النهائية.