وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البَشْتَنَة (المَنْكُورة) .. في علم اللغة الحديث .. بقلم: صلاح أبوزيد
نشر في سودانيل يوم 01 - 12 - 2013

في الآونة الأخيرة قام بعض من المهتمين بدراسة اللهجة السودانية بتناول مفردة (البشتنة) ، و اقتصر تناولهم لها من جهة علاقتها بمعاجم اللغة العربية، او بمدى علاقتها باللغات السودانية القديمة ، من امثلة بعض الكتابات التى حاول اصحابها تقديم تفسير او توضيح لاصل المفردة ، مقال للدكتور خالد محمد فرح و مقال آخر للإستاذ رشيد خالد ادريس موسى ، رايت ان اعرضهما اولا محاولا الرد على ما اتيا به حول هذا الموضوع، و بعدها سوف اشرح رؤيتي الخاصة في إلقاء بعض الضوء عن اصل تركيب مفردة (البشتنة) السودانية و بعض الكلمات المحيِّرة في اللهجة السودانية.
نشر الدكتور خالد محمد فرح في ديسمبر 2009 مقالاً ، على سودانايل بعنوان (حول البَشْتنة السودانية) ، شرح في بدايته الاسباب التي دعته للكتابة عنها كالآتي: (طلب إليّ أخ فاضل وصديق عزيز ، وهو أستاذ جامعي شاب ، يعمل مديراً لمؤسسة علمية وبحثية فتية مرموقة ، طلب إليّ وهو المتخصص في اللغة العربية وآدابها ، أن أبحث وأن أكتب شيئاً في مادة: بشْتَنَ ، يبشتن ، بشتنةً المشهورة في العامية السودانية ، وهي تلك اللفظة التي يستخدمها السودانيون ومشتقاتها في معرض وصف الأشياء والأحياء والأحوال أيضاً بالسوء مطلقاً ، وعدم الاستواء والانتظام ، أو انعدام الرونق والبهاء فيها على وجه الخصوص) انتهى.
أثار إنتباهي أن د. خالد أشار الى أن د. عون الشريف، لم يثبت مادة (البشتنة) في قاموسه المشهور ، وكنت اعرف تماما ان معظم الكلمات السودانية الخاصة التي تميز "لغتنا السودانية" مضمنة في هذا القاموس، لكن دعنا أولاً نرجع لمقاله مرة أخرى لأنقل لكم هذا الجزء حيث يقول (وقد كان أول سؤال سألته لذلك الصديق بداهةً عندما فاتحني في هذا الأمر ، هو أن قلت له: " وماذا قال عون الشريف قاسم في معجمه: قاموس اللهجة العامية في السودان عن بشتن هذه ؟ ". ولدهشتي فلقد أجابني بقوله: إنّ عون الشريف لم يثبت هذه اللفظة ، وغفل عنها مطلقاً في كتابه ، وذلك هو بالفعل شيء مدهش ، لأنّ اللفظ ( بشتن ) على وزن " دَنْدَنَ " ، ومشتقاته ، هولفظ شديد الخصوصية والارتباط الذي يكاد يكون حصرياً بالعامية السودانية ، وبوسع المرء أن يجد له عدة استخدامات ، تشترك كلها كما أسلفنا في إعطاء معنى عام مفاده: القبح ، وعدم النظام ، وعدم الترتيب ، والفوضى ، والتنافر ، وعدم العناية والتنسيق) انتهى.
وبعد ان يسترسل في شرح معنى " بشتنة" يؤكد ما ذهب اليه صديقه ، وذلك أن د. عون لم يورد هذا الحرف المهم في كتابه حيث يقول (رجعت إلى قاموس اللهجة العامية في السودان للبروفيسور عون الشريف قاسم رحمه الله ، وثبت لي بالفعل ما قاله صديقي من أنه لم يورد هذا الحرف المهم في كتابه الذي هو عمدة التصانيف السودانية في هذا الباب بلا ريب.) انتهى.
قمت بمراجعة قاموس د. عون فوجدت أن ما زعمه د.خالد فرح و صديقه ليس صحيحا لان د. عون اورد هذا الكلمة في قاموسه في ص 96 وانقل هنا ما جاء في قاموس اللهجات العامية في السودان: "بَشْتَن (س) أفسد الأمر و بهدله. فلان مَبَشْتَن (س) مبهدل و قد يقول بعضهم في بعض المناطق بَشْطَن. الله يكفينا من بشاتن الحال. بَشْتنة اسم رجل." انتهى. الحرف (س) رمز يستخدمه د. عون للإشارة للأصل السوداني ، واذا وجد علاقة اشتقاق او اية صلة بالفصحى يستعمل الرمز (ف) للإشارة على ذلك.
لزم التوضيح الى انه رغم اثبات ورودها في القاموس الا أن الباب ما زال مفتوحا للبحث حول اصلها فيما اذا كانت متطورة عن لهجة عربية قديمة أم مستلفة من لغات سودانية بائدة او مهاجرة من اقليم آخر؟ الى جانب كل ما ذكر فانا لا انكر و لا ارفض امكانية نحت اللهجات لمفرداتها ، الحياة اليومية لشعب ما قد تنحت مفردات تضاهي المتوارث من أجيال سابقة ، من خلال نسق خاص قائم على بنية نظام اللغة ذاتها.
ثم يواصل د. خالد ليعلن غياب البشتنة عن امهات معاجم اللغة العربية فيقول: ( ثم إنني نظرت في معاجم اللغة الفصحى كلسان العرب لابن منظور الإفريقي ، والقاموس المحيط للفيروزبادي ،وتاج العروس للشريف المرتضى الزبيدي فلم أجد فيها لفظة عربية فصيحة قريبة من (بشتن) هذه في الدلالة ، بما قد يحمل على الاعتقاد بأن ( البشتنة ) السودانية ربما تكون مشتقة منها. وما يزال البحث جارياً ،فمن وجد شيئاً قريباً منها في كتب اللغة الفصحى ، فليقل لنا وللقراء الكرام " عوك " تماماً للفائدة). انتهى.
من جهتي فقد لاحظت اختيار الدكتور لهذه القواميس فيه دلالة محددة ، فقال انه بحث عنها في لسان العرب لابن منظور و لم يكتف بذكر اسم المؤلف بل اضاف إليه (الإفريقي ) لان ابن منظور ينسب الى المغرب العربي وثم (القاموس المحيط) للفيروز بادي وهو فارسي، وختم المعاجم ب(تاج العروس) للزبيدي (البغدادي) ، إذن فلقد اختار قاموس عن كل اقليم من خارطة الحرف العربي الفصيح، في اشارة واضحة لإستقراء كل احتمالات المراجع وشمول المسح ، ولمّا لم يجد فيها لفظة عربية فصيحة قريبة منها في الدلالة ، دفع بمساهمته من أجل استكناه السبب وراء تأليف لفظة (بشتن) والتى سوف اقوم بايراد بعض المواضع المهمة منها،ابتداءَ من الجزء الذي يشرح فيه المنهج الذي اتبعه وهو كالآتي:
(على أنني أود ههنا أن أسلك منهجية مغايرة ، وان أجترح مقاربة فيها شيء من المغامرة نوعاً ما ، وإن لم تكن بعيدة كل البعد عن منهج علم الدلالة ، وذلك من أجل استكناه السبب الذي جعل السودانيين يؤلفون هذه اللفظة للدلالة على المعنى الذي بسطناه آنفا.هذه المقاربة المنهجية ذات صلة وثيقة بما يمكن أن نسميها بالقيم او المؤشرات الدلالية للأصوات أو الحروف العربية. وهذا المبحث في علم اللغة أو فقهها الذي يسميه الإفرنج Philology ،والذي يتعلق في الأساس بموضوع العلاقة بين اللفظ والمعنى ،هو في الواقع مبحث قديم في التراث العربي ،وقد تنبه إليه نفر من العلماء واللغويين العرب القدماء ، ولعل أبرزهم هو: أبو الحسين أحمد بن فارس (329 – 395 ه )، وخصوصاً في كتابه: " مقاييس اللغة ".ومن بين الباحثين المعاصرين الذين كتبوا في هذا الموضوع ، باحث سوري الجنسية اسمه: " إياد الحصني " ، ألف كتاباً بعنوان: " معاني الأحرف العربية ) انتهى.
وبعد أن يشرح فكرة دراسة الباحث السوري يستمر الى أن يقول:
(ثم إنه ذكر ان حرف الشين – وهذا هو بيت القصيد بالنسبة لنا – يدل على معاني الانتشار والتشعب ، مثل : نشر ، وشتت ، وشعّب ، وشعث .وزعم أن حرف الفاء عندما يدخل على لفظ فيه حرف الشين فكأنه يبطل أو يكبح المفعول السلبي للمعنى الذي توحي به الشين ويخفف منه. ومثّل لذلك بألفاظ من قبيل: رشف ، وشفط ، وشفاء ، ثم أضفت إليها أنا من عندي الفاظاً عامية مثل: فشّ ( فشّ الورم ، وفشّ الغبينة ) ، وكذلك: فرفش بمعنى: انتعش وابتهج. وبوسعنا ان نضيف في هذا المقام إلى ما ذهب إليه ذلك الباحث السوري حول دلالة الشين ، من أنها لا تقتصر على معاني الانتشار والتشعُّب فحسب ،وإنما هي توحي أيضاً بالسوء والبشاعة والقبح والقسوة مطلقاً ، كما توحي بعدم الترتيب والنظام ، والبعثرة ، وذلك بآية ما أنّ هذه الشين تظهر في ألفاظ عديدة تحمل مدلولات سلبية للغاية مثل: البشاعة ، والشر ، والشقاء ، والمشاكل ، والشجار ، والشحناء ، والشنآن الخ.. ولكن رب معترض قد يقول لنا إن الشين تظهر أيضاً في ألفاظ أخرى ذات مدلولات إيجابية مثل: شذى ، ومنعش ، وشهد الخ. فنقول له: هذا صحيح ، ولكن الغالب هوأنها مرتبطة على نحو أكثر بالألفاظ ذوات الدلالات السلبية.) انتهى.
ملاحظتي الأولى ،أنّ د. خالد اعتمد على معيارين، الأول إن الشين" توحي أيضاً بالسوء والبشاعة والقبح والقسوة مطلقاً " وهذا المعيار الإيحائي الوصفي ،أراه غير محدد، ويعتمد على وصف خارجي ( لحرف وليس لصوت)، لأنّ (الشين) ك (فونيم) تتعدد اصواته (اللفونات) من كلمة الى أخرى، في اي كلمة من الأمثلة التى ذكرها ، فهل نحن نتحدث عن وصف لاصوات الشين؟ ام للحرف نفسه (كفونيم) ، واذا سلّمنا افتراضاَ أنه يقصد الصوت ، فالصوت منفرد لا يشكل معنى او دلالة بدون (الفونيمات الأخرى زائدا اصواتها المتابينة في كل كلمة على حدة) . أما المعيار الثاني الذي اعتمد عليه ، حسب عبارته التالية " الغالب هوأنها مرتبطة على نحو أكثر بالألفاظ ذوات الدلالات السلبية."
وملاحظتي الثانية هنا أن د. خالد لم يوضح كيفية قياس الغالب في الدلالات السلبية؟ وثم ما هي الوتيرة و ماهو النسق الذي يتم به هذا القياس ؟ وماذا اذا ادعي شخص العكس، و حاجج بان الشين في الغالب، مرتبطة بالألفاظ ذات الدلالات الإيجابية؟ وجلب عدد من كلمات مشرقة و مشّرِفة (كالشجاعة ، الإنشراح ،الشموخ، الشمم والشمائل.... الخ)؟ تقابل بل تفوق النماذج التى أوردها كاتب المقال ، فما هو المخرج؟
سانتقل هنا الى المحاولة الثانية التي تناولت البشتنة، كانت للاستاذ رشيد خالد إدريس موسي بعنوان((بشتن) و (بشنتيق): نظرات في العامية السودانية)، نشرت بعد يومين من مقال د. خالد محمد فرح، على سودانايل ايضا، اراد كاتب المقال، كما ورد في عبارته التالية: (إلقاء الضوء حول ما إبتدره الدكتور/ خالد فرح من تنقيب في شئون التراث.) وأهمية مقال الاستاذ رشيد خالد ، تنبع في انها نموذج للتفسير من منظور آخر (الأصل النوبي ) للهجة السودانية ، فعادة ما تُخْضع مثل هذه المسائل لنزاع (نوبعربي) ، لتفسير التاريخ والثقافة العربية في السودان، فهي مثال للطرف الآخر ، ألا وهو البحث في الجذور النوبية، طالما أخفق التجذير العربي، فالأستاذ رشيد خالد ، بعد التقديم لموضوعه، يدخل في قلب المسألة مباشرة، حيث يقول :(تشير كلمة (بشتنة) إلي مظاهر القبح في الحياة كما أسلفنا القول. و يبدو أن هذه الكلمة (بشتن) ذات أصل نوبي, و يعضد هذا القول أننا نجد تعبيراً مقارباً لهذا التعبير أو مشتق منه , و هو كلمة ( بشنتيق) بفتح الباء و تسكين الشين. و تعني هذه الكلمة في اللغة النوبية, (البرش القديم) , أي الذي صار بالياً و تالفاً نتيجة للإستعمال و مرور الزمن . و (برش) كلمة تركية تعني الحصير المصنوع من سعف النخيل أو من سعف الدوم كما هو معلوم في بلادنا). انتهى.
اظن ان الاستاذ فات عليه ان الكلمة مدار البحث هي (بَشْتن) وليس (بَشْنت) ، والخلاف حول البهدلة وعدم الترتيب و ليس البِلَى و التلف. كما لاحظتأيضاً، ان معظم الأمثلة التي اوردها، في بقية المقال عبارة عن مسميات نوبية لأشياء، فلم يشرح البنية التركيبة للعلاقة بين ( بشنتيق) و (بشتن)، فالتشابة في تراص الحروف غير كافٍ لإثبات او افتراض الاشتقاق او الإستلاف، لزم التنبيه بانني لا أسعى لتحري (عروبة ) المفردة ، بل اركز على المفردة مدار النزاع للنظر لها من خلال نظام لغوي محدد، تتحرك في اطاره اللهجة السودانية.
فاللهجة السودانية لها (نظام لغوي ) ، مثلها مثل غيرها من اللغات ، تخضع لنظام ، و هذا النظام يتبع اسس و قواعد نظام اللغة الأم ، و هو هنا (العربية الفصحى ) ، و اكبر دليل على ذلك الانتماء المعجمي لمفردات اللهجة السودانية، هذه المعاجم التى جمعت مخزون تاريخي ، يمكن ان نعدها نماذج لمنتوج نسق النظام اللغوي الخاص باللغة العربية، التي تدور في فلكها معظم اللهجات ، ولان النظام اللغوي لللهجات ليس سجين لهذه المعاجم ، فلا يلزم رفض مفردات بحجة ان المعجم لم يتضمنها، بل لا يمكن ان نجزم ان المعاجم لم تغادر أية صغيرة او كبيرة من مفردات زمانها ، فيقينا فات عليها الكثير الذي لم يدون في هذه المعاجم و ليس هذا عيبا يلحق بها ، فكل الذي تم تدوينه في هذه المعاجم ، يمثل مادة صالحة للكشف على حركة تركيب مفردات وجمل اللهجات.
إعتمادأً على ما شرحته سابقاَ عن علاقة اللهجة ، وعلاقة مفرداتها بمعاجم العربية الفصحى، سوف أقدم رؤيتى حول مفردة (البشتنة).
اتبعت في محاولتي أسس علم اللغة الحديث ، مركزا على العلاقة بين (المورفيمات) morphemes في بنية و تركيب المفردة الواحدة ، ومن ثم الدلالة الناتجة من التغيير الحادث لبنية ( المورفيم) الأصل المستقل أو المعجمي . معظم هذه المصطلحات ، مترجمة تم تبنيها في الدرس اللساني للغة العربية، ساقوم بتعريف بعضها ، خاصة التي لها ارتباط بمباش بالموضوع .
(المورفيم)1 في علم اللغة الحديث ، يعرّف بانه (اصغر وحدة صوتية تحمل معنى)1 ، وأمثلة على الفونيم مثلا (الجذر) في (د ر س) يسمى مورفيم مستقل او الأصل أو معجمي1 و (درس) نفسها تتضمن (مورفيمات) اخرى وهي مورفيم الزمن (ماضي) ومورفيم الاسناد(هو الغائب) ومورفيم (التذكير)
(ال) مورفيم يحمل معنى (التعريف)
(الألف ) في المثنى ضَرَبا مورفيم ، و (الواو ) في ضربوا هي كذلك مورفيما آخر
(مدرسون) وحدها تتكون من عدد من المورفيمات : (درس) مورفيم معجمي، (مدرس) مورفيم (ون) تمثل ثلاثة مورفيمات: الجمع والجنس والإعراب.
(التاء) في نهاية (درس تْ) فهذه (التاء) هي مورفيم لانها عبارة عن وحدة صغرى حملت معنى الغائب المفرد وجنسه وعند اضافتها للمورفيم المعجمي(درس) غيَّرَتْهُ من اكثر من جانب.
فعند إضافة (أ ) في بداية (درس) هذه الألف التي نصفها في النحو التقليدي بانها (الف المضارعة في بداية المضارع أدرسُ) فالألف هنا ليست صوتا او حرفا بل (مورفيم) لأنه يحمل زمن جديدا واسنادا (ضمير) المتكلم أو المتكلمة .
مثلا كما في الامثلة السابقة عن المورفيم ك ( أ + درس) فالألف كمورفيم دخلت على المورفيم المعجمي (درس) فغيرت زمنه من الماضي الى الحاضر بالأضافة الى التغييرات الأخرى المعروفة في (أدرسُ)
لكن اذا أخذنا مثالا آخر مثل: ع ز ق (مورفيم معجمي) تكتب عَزَقَ التي تعني البخل والشدة هذا معناها في المعجم
عند مقارنة عزق هذه ب ( بَعْزَقَ) ب+ عَزَقِ وشكلها الكامل } _َ _ ْ _َ _َ{ و ( بَعْزَقَ) تعني في القاموس بدد وأنفق عكس (عزق) .
فنحن هنا أمام مورفيم (الباء) يختلف عن مورفيم (الألف والنون والياء والتاء وهي "أنيت" المشهورة) هذه المورفيمات و اشباهها تلحق بالمورفيم المعجمي ، فتغير زمنه ، بالإضافة للتغيرات الأخرى ، أما في حالة الباء ، التي لا تغير زمن (عزق) ، فتبقى في الماضي ، لكن تغير دلالة الفعل من البخل الى التبديد .
كذلك ( بشتن) ، لا وجود لها بهيئتها هذه ، في المعاجم المشهورة ، و د. عون في قاموسه اكتفى بإرجاعها إلى أصلها السوداني، لكن يمكن ان ننظر لها وفق التركيب الخاص بالمفردات، بداية من (المورفيم المعجمي او المستقل ):(شَتَنَ) وهي مدرجة في معظم المعاجم المعروفة تحت هذا الجذر (ش ت ن)، ففي لسان العرب جاء في معناها الآتي:
الشّتُْنُ: النّسجُ ، الشاتن والشتون : الناسج ، و(شتن الشاتن ثوبه أي نسجه).
إذن يمكننا أن نستنتج أنّ (بَشْتَنَ) ، تجري على نفس المخطط }_َ _َ _َ {(مورفيم مستقل /معجمي) الحاق (مورفيم في اول الجذر شرطه عدم التاثير على زمن الجذر) ثم التغيير الى } _َ _ ْ _َ _َ{
يمكننا أن نصل لنتيجة ، مفادها أن ( بشتن) غير موجودة في المعاجم ، بينما (شَتَنَ) تم تدوينها في القاموس وتعني (النسج والحياكة ) ، لكن بإلحاق مورفيم (الباء) ، الذي لا يؤثر على زمن (شتن) الماضي، لكن يؤثر على دلالاتها ويحولها الى (التضاد) وهو ( نقض ، نكش ، بهدل النسيج المنظوم)
وعلى هذا المنوال ، يمكن أن نستشهد بنماذج أخرى، وُجِدتْ بمعانيها المتضادة ، تجرى على هذا النهج ، مدونة في المعاجم المعروفة، تثبت ما ذهبنا إليه، فعلى سبيل المثال انظر:
(رطم) بمعنى حبس الصوت وكتمه في صدره (من المعجم) بينما (بَرْطَمَ) من معانيها اخراج الصوت بغيظ (لسان العرب)
كما يمكن إضافة ندر و بَنْدَرَ الاولى (الندرة و القلة) بينما الثانية بمعنى الغنى و كثرة المال (لسان العرب).
(خثر) : خثر فلان اقام ولم يبرح مكانه،غَلُظ اللبن ، بينما (َبخْثَر) تعني: العكس من ذلك بدّده و فرّقه (القاموس المحيط) .
ولا تخلو( عَثَر) الحصول على الشئ و(بعْثَرَ) من تضاد و تعاكس.
انظر كذلك (خَتَرَ) و ( بَخْتَرَ)..... فالأولى مشية الكسلان(القاموس المحيط) والثانية مشية التكبر و العجب (لسان العرب).
يجب الإنتباه الى أن هذا التغيير الذي يجري على المورفيم المعجمي خلال هذا النظام لا يسعى لإرجاع (بشتن) الى اصولها العربية أو لثبيت وجودها في الخارطة الفصيحة لإستعمال اللغة العربية، او برهان على انها ضاعت و فات على المعاجم تدوينها او ان يقول قائل اذن لا غبار عليها فلنستعملها في كتابتنا عندما نكتب بالفصحى لان ليس هذا هو الهدف، فالبشتنة ملك خاص لحيازات اللهجة السودانية ، لانها تحتاج للتمايز و فرز الشخصية الإعتبارية بمفارقتها للشكل الرسمي الذي تسيطر عليه هيئة المعاجم و قوالب الجمل التقليدية، فاللهجة تخلق مفرداتها و تراكيب جمل جديدة بحركة هذه المورفيمات وفق نسق نظام لغوي لكنها لا تخلق قواعد و قوانين جديدة لهذا الخلق ، بل تستعمل نفس القواعد والقوانين و المخطط اللغوي للفصحى،فاللهجة متجددة تبعا لحياة المجموعة النابضة اليومية المتطورة ، يجب ملاحظة أن الفصحى واللهجة تتبعان قانون نظري ذهني نابع من فكرنا كمجموعة ناطقة بلغة معينة وفق نظام له قواعد تراعى ونسق مقبول معياره (الحدْس )الجمعي لنفس المجموعة الناطقة باللغة 2، وليس قواعد نابعة من التركيب اللغوي لتصف علاقة و تحوير المورفيمات ، فحين كان السؤال من اين اتت (البشتنة) لم يكن هناك أي خلاف حول معناها ، لان فكرة البشتنة صورة ذهنية محكومة و مقبولة وفقاً للمتحدثين باللغة (هنا) اللهجة السودانية.
هذا المخطط اللغوي الذي تتبعه اللهجة في توليد مفردات ذات دلالة جديدة اكثر حرية وتحررا من قيد الإضطراد الملزم في الدرس اللغوي التقليدي، لأن التحاق المورفيم ب(الجذر) ليس علاقة مكانيكية آلية تستلزم انتاج نفس المعنى كل مرة ،بمعنى أنني يمكن ان اذكر نماذج اخرى علاوة على الأمثلة السابقة، لإضافة المورفيمات للجذر لتوليد المضاد لمعنى الجذر المستقل، لكن لا يلزم الإضطراد بقدر ما يلزم التوليد لان القاعدة ليست مأخوذة من تركيب و موضع المورفيم المضاف بل من اساس نظري(مورفيم يلحق باول (المورفيم المستقل-هنا الجذر-) يحدث ابدالا في دلالة الكلمة بشرط انه لا يؤثر في زمن الفعل ، فهو لا يحول (شتن) على سبيل المثال ، من الماضي الى المضارع او المستقبل كما يتم الحفاظ على المسند اليه الذي قام بالفعل الغائب المذكر.
فليس من الضروري أنّ اضافة مورفيم (الباء) +(الجذر) كما في هذا المخطط التوليدي : _َ _َ _َ (مورفيم مستقل /معجمي) الحاق (مورفيم في اول الجذر شرطه عدم التاثير على زمن الجذر) ثم التغيير الى } _َ _ ْ _َ _َ{ ، ليس من الضروري كل مرة ينتج التضاد ، لان هذا شرط من خارج اللغة ، فمثلاً وُجِدتْ نماذج اخرى لإلحاق الباء مع مورفيم (الجذر) لا تؤدي الى تغيير الدلالة الى (التضاد)، وإنما تعمل على تبديلها الى الإكثار و التعدد كما يلي:
(هَدَلَ وبَهْدَلَ) الاولى بمعنى تدلى واسترخى والثانية بمعنى الإمعان في عدم الانتظام والتشتت وكذلك (رقع) و (بَرْقَعَ)كمثال آخر لتكثير المعنى الموجود في (رقع).
هوامش:
"(بشتن) و (بشنتيق): نظرات في العامية: بقلم للاستاذ رشيد خالد إدريس موسي
http://www.sudanile.com/index.php?option=com_content&id=9082:2009-12-29-12-20-21&Itemid=55
مورفيمات اللغة العربية : ترتيبها و تنظيمها في الدرس اللغوي العربي 1
http://www.iium.edu.my/irkhs/arabiclang/journal/images/journal/journal/2011_a/2_khalid.pdf
حول البشتنة السودانية د. خالد محمد فرح
http://www.sudanile.com/Solar/index.php?id=9011%3A2009-12-27-19-11-19&option=com_content&Itemid=57&fontstyle=f-larger
قاموس اللهجة العامية في السودان: د. عون الشريف قاسم ط ثالثة مزيدة و منقحة 2002 . الدار السودانية للكتب
http://www.ta5atub.com/t525-topic المدرسة التوليدية التحويلية2
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.