دُعيت أكثر من مرة إلى اجتماعات عقدتها رابطة خريجي كسلا الثانوية بنين، لتنظيم احتفال باليوبيل الذهبي (1963-2013) لمدرسة كسلا الثانوية، خلال زياراتي إلى السودان قبل الاستقرار فيه، باعتباري أحد خريجي تلكم المدرسة الفتية. وكنت ناشطاً فاعلاً، من نشطاء طلابها، ترأستُ أكثر من ثلاث جمعيات من جمعياتها المختلفة، وقيادياً في اتحاد طلابها، أقلق مع رسلائي الجهابيذ، جموع الجلاويز في احتجاجات ومظاهرات ضد النظام آنذاك لا تعرف الهبغة ولا يعرفها الهبوغ، بخُطَبٍ كنت أحشد عمداً فيها غريب اللغة، وغرائب الألفاظ وعصيها للفهم، وفخامة المعاني، وبديع استعاراتها ومجازاتها، أدعوهم بها إلى الكر، وألين مضطراً عند الفر، حتى لا نُلقي بأيدينا إلى التهلكة، أذكرهم ونفسي، قول الله تعالى: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". فأفرقهم بالمحسنات البديعية إلى حي الحلنقة القريب من المدرسة، وبعد هدوء عاصفة الجلاويز، نتسلل إلى أحيائنا الأخرى، لا سيما أحياء الميرغنية والترعة والختمية، لقد كانت أيام لها إيقاع، يا لها من ذكريات عطرات، مازالت عامرة في القلب، ومحفوظة في الفؤاد، وراسخة في الحِجا. وكنت أحرص في تلكم اللقاءات العامرات بالذكريات والمواقف على الدعوة المخلصة إلى ضرورة أن تكون الاحتفالات باليوبيل الذهبي لمدرسة كسلا فيها شيء من التفرد والتميز، وتتسم باحتفائية نوعية، تدخل البهجة والسرور في قلوب أهل كسلا قاطبة، ولا تقتصر الفرحة على خريجي هذه المدرسة الفتية التي أكملت نصف قرن من إنشائها. وأحسب أنه من الضروري أن نعمل جميعاً - أبناء تلكم الأم الرؤوم - على أن تكون ذكرى مرور خمسة عقود على ميلادها من الذكريات الخالدات في ذاكرة خريجيها وذاكرة أهل كسلا جميعاً. وعندما نتحدث عن ضرورة أن تتسم هذه الاحتفالات بالتفرد والتميز، في أذهاننا ما حدث في ذكرى اليوبيل الذهبي لمدرسة حنتوب الثانوية في سبعينيات القرن الماضي، إذ شغلت بعض فعاليات تلكم الاحتفالات أذهان كثير من السودانيين. حتى الذين لم تكن لهم أي صلة بمدرسة حنتوب من قريب أو بعيد، لأنها تضمنت في فعالياتها بعض اللمسات الإنسانية من الرئيس الراحل جعفر محمد نميري الذي وجه الأجهزة الأمنية بغض الطرف عن تحركات الراحل محمد إبراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي، ليتمكن من الخروج من مخبئه الاختياري للمشاركة في تلكم الاحتفالات، والسماح له بالمغادرة دون التعرض إليه، وهذه من شيم السماحة عند السودانيين، والعفو عند المقدرة لديهم تديناً. أخلص إلى أن اللجنة المنظمة للاحتفال باليوبيل الذهبي، أعدت العدة لقيام هذه الاحتفالات في ثوب قشيب في الفترة من الخميس 26 ديسمبر الحالي إلى السبت 28 ديسمبر الجاري، وسيقام الحفل برعاية كريمة من الأخ موسى محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية. ومن الضروري التأكيد أن مدرسة كسلا الثانوية، هي بمثابة بوتقة ينصهر فيها طلابها وخريجوها على مختلف قبائلهم، واختلاف ألسنتهم، وتباين لهجاتهم، عُرف طلابها بالاجتهاد والمثابرة في الدرس والمثاقفة، ويكفيها فخراً أن عدداً من أوائل الشهادة السودانية من خريجيها، ورفدت جامعة الخرطوم، قديماً وحديثاً، بعدد من فلذات كبدها، توزعوا في كلياتها المختلفة، بوسطها وأطرافها، حتى الذين جاءوا إليها، ومكثوا فيها سنينَ عدداً، فأحبوها وأحبتهم. وأحسب أن الأخ الصديق الشاعر المبدع إسحق الحلنقي، على الرغم من أنه من أبناء كسلا إلا أنه غنى لأولئك الذين حبوا كسلا من أجل محبوبهم، إذ قال في الأغنية التي صدح بها المطرب تاج مكي: حبيت عشانك كسلا وخليت دياري عشانك وعشقت أرض التاكا الشاربة من ريحانك وتجلى ذلك واضحاً، عندما جاءها الشاعر الكبير توفيق صالح جبريل، موظفاً إدارياً، ولكنه أحب كسلا حباً جماً إلى الدرجة التي جعل إشراق شمس وجده بها، إذ يقول: كسلا أشرقت بها شمس وجدي فهي في الحق جنة الإشراق كان صبحاً طلق المحيا نديا إذ حللنا حديقة العشاق نغم الساقيات حرك أشجاني وهاج الهوى أنين السواقي المأمول أن يكون حفل اليوبيل الذهبي لمدرسة كسلا الثانوية، حفلاً فريداً في نوعه، ومتميزاً في فعالياته، يدخل البهجة والسرور في أفئدة أهل كسلا جميعاً، ويخلد في ذكراهم طوال السنين. ===== [email protected]