أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً وليس كآخَرَ يَسترحِم الجواهري في الأسابيع القليلة الماضية ذرعت – قدر استطاعتي - اميركا الشمالية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، لأغراض مختلفة وحاجات عددا، بعضها كان من بين ما رسمت مسبقّاً والبعض الاخر جاء وليد الصدفة المحضة أو نتاج زيارة هذه المدينة أو تلك البلدة. لكنني – كعهدي دوماً – ابدأ بنيويورك مفتاحاً لزيارة النصف الغربي من الكرة الأرضية، وقد اختم بها سعياً بين الشارع والميدان والساحة. فنيويورك عندي هي شارع برودواي ومحيط تايمز اسكوير وجوانب روكفللر بلازا القريبة منه. هناك تنتشر المسارح، حيث المسرح الغنائي الأميركي يقدم زبدة انتاجه، ودور العرض على اختلاف اشكالها وألوانها، وقاعات الموسيقى وما يتعلق بكل ذلك بما فيها المقاهي والمطاعم والحانات والخانات ومرابع اللهو البريء وغيره. وما نيويورك الا برودواي و جواره، ذلك الشارع المديني الأطول من بين كل شوارع المدن في العالم كافة، لأنه مأهول ومكتظ من أقصاه الى أقصاه على امتداد ثمانية عشر ميلاً أو يزيد. أما هارلم فاذا تبقى بعض الوقت وصبر جميل، ولا حاجة لي بالتردد على وول استريت، شارع المال وسوقه، فلا خيل عندي ولا مال سائلا كان أو جامدا؛ والأمم المتحدة وتمثال الحرية لا جديد فيهما يجذب المرء اليهما بعد الزيارة الأولى والأخيرة، سوى بعض المتاحف القريبة من المكان وبعض المكتبات. لم يتسع وقتي هناك الا لثلاث مسرحيات، شاهدت واحدة مرتين. ففي المرة الأولى تجسدت محنة السودان كله وكذلك ما بقي منه امام ناظري وانا في مسرح "منسكوف" اتابع مسرحية "الأسد الملك" الغنائية، حتى عند الاهتزاز طربا لموسيقى وكلمات سير التون جون و تِم رايس وأداء المجموعة؛ وفي المرة الثانية (لما اختتمت الجولة) طويت الألم تحت جوانحي ونظرت الى العمل المسرحي بما يستحق من ولع وانجذاب. لا يمل المشاهد حضور "الأسد الملك" مهما بلغ عدد المرات التي يتسنى له مشاهدتها فيها؛ هي كغيرها من الاعمال الخالدات مثل "قصة الطرف الغربي"، مسرحية كانت أو شريطا سينمائيا. يبهرك في الفلم هذا أداء جورج شاكريس و نتالي وود على وجه الخصوص. الى اليوم اعود لمشاهدة هذا الفلم وافلام أخرى من روائع السينما الأميركية كفلم لايزا منيلّي "كباريه"، الذي عٌرض في منطقتنا للمرة الأولى على شاشة سينما "السارولا" بشارع الحمراء في العاصمة اللبنانية، بيروت، بداية سبعينيات القرن الماضي، حينما كانت جوهرة الشرق تتلألأ نهارا وليلا قبل ان تتلطخ بالأوحال ودمار الانفجارات وتغمرها شلالات الدماء التي ما توقفت الى اليوم، ويلفها الخوف كما يطوقها الجزع ويحيط بها سور من الرعب شيدته سيارات ملغّمة وكائنات بشرية لبست الموت وفخخت أنفسها و فجرتها فتناثرت أشلاء بين السابلة و القاطنين في الاحياء السكنية، لتقتل من تقتل و تجرح من تجرح. يا للأسى! ولا يمل المرء كذلك استعادة أفلام والدتها، جودي قارلاند، وغنائها، بل وغنائهما معاً. مسرحية " الأسد الملك" هي تجسيد حي للفلم الكرتوني الغنائي الذي انتجته شركة "والت ديزني" منذ عقدين من الزمان وذاع صيته. المسرحية الغنائية لا تختلف عن الشريط السينمائي الا في تفاصيل قليلة وإضافات بارعة، كما في حميمية العمل والجهد والأداء والتشخيص الإنساني مقارنة مع شخوص كرتونية، مهما بلغ تصويرها وابتداعها. لم تكن غاية المسرح الغنائي والاستعراضي الأميركي وغيره من اشكال المسرح هناك الترفيه والتسلية فحسب، بل حمل هموم الناس وسلط الضوء على قضايا الاخرين في أطراف بعيدة عن مياه الاميركيين وسماواتهم. مسرحيتا "هير" و"او كلكتا" مثال على ذلك مثل "الأسد الملك". الحرب في فيتنام شغلت هذا المسرح ردحا من الزمن، كما الازمات المعيشية والاقتصادية. حكاية "الأسد الملك" هي حكاية الخيانة والغدر والجشع والانقلاب والتآمر والفساد والنهب والسرقة والرعب والخوف والتسلط والعدوان والقهر وكل ما هو مرذول ومقيت ومحرم؛ كما هي حكاية سوء السياسة ورشدها، وحسن التدبير وضيق الافق، والامل، والصبر والجَلَد، والمقاومة، والانتصار في نهاية الامر. تجري احداث الحكاية عند صخرة العزة والسؤدد بأنحاء افريقيا حيث يحكم الملك الصالح، موفازا، مملكة مزدهرة ويعد شبله سمبا لخلافته. الا ان شقيق الملك، اسكار، وهو شرير اتخذ من الضباع اخدانا، اخذ في حياكة المؤامرة مع صحبه اللئام لقتل الملك والصاق التهمة بالشبل الغرير ومن ثم ابعاده عن الصخرة الشماء، مقر الحكم ومركز الدولة. جرت المؤامرة الدنيئة كما رُسم لها. قتل اسكار الملك موفازا وأوهم الشبل سمبا انه قاتل ابيه، فهرب من الديار مسرعا لا يلوي على شيء؛ لا يبغي سوى النجاة بجلده والاختباء بعيدا في مكان لا يطارده فيه جرم القتل وعار العقوق. بعد أن هده التعب واضناه الفرار يجده غافيا كل من تيمون وبمبا، وهما حلوف وقطة برية، فيرثيا لحاله ويحتضانه الى أن يشب عن الطوق لاهياً، لا يريد العودة للماضي أو الالتفات الى الصخرة التي غادرها مكرهاَ. تسوء الأحوال بعد أن استولى اسكار على الحكم وفريق الضباع، ويعم القحط والفقر والفاقة والعوز المملكة الزاهرة. لا يجد سكانها، من غير الحاكمين ورهطهم، أسباب الحياة الكريمة، اذ استنسر البغاث في ارض لم يفارقها العز من قبل. فالضبع حيوان كريه. هو من اللواحم الاكولة النهمة، تأكل الجيف حتى الجلود الجافة والعظام، كما تنبعث منها رائحة كريهة، وتتملكها شهوة عارمة للحم الادمي ودماء البشر على وجه الخصوص. الخيانة ديدنها، لا يؤمن جانبها البتة، تنشب اظافرها وانيابها في احشاء من أحسن اليها. فأم عامر هي الغدر بعينه. لم يكن في الصخرة ذئب جسور يمنع الضباع عن العدوان. اذ حينما يجتمع الضبع والذئب في الغنم تسلم لان كل منهما يمنع الاخر من افتراسها. وتقول العرب في الدعاء: "اللهم ضبعاً وذئبا. تفرقت غنمي يوما فقلت لها يا رب سلط عليهما الذئب والضبع عثرت اللبوة نالا، صديقة الطفولة، على سمبا. روت له حال البلاد والعباد وما حل بها من خراب حتى باتت الوديان اليانعة النضيرة يبابا. ثم اجتهدت على إقناعه بالعودة الى الديار للخلاص من الظالمين واصلاح الحال باستعادة ملك ابيه، الا انها كادت أن تيأس من ذلك لولا لقائه بالقرد رفيكي، ياوران الملك القتيل وظهور ابيه له في الرؤيا، فيعود ويقاتل عمه اسكار ومن اغتصب السلطة من الضباع وغيرهم، تعينه على ذلك اللبوة نالا ويساعده تيمون وبمبا وبقية العائلة والاهلين، كما يسهم الخلاف بين اسكار والضباع الذي يفضي الى قتل اسكار على ايديهم الى الانتصار على الانقلابيين القتلة. تعود القطعان الى الوادي الذي يخضر من جديد ويعم الرفاه الصخرة فتسترد عزتها وزهوها. هل هي حكاية "الأسد الملك" والصخرة الشماء فحسب أم هي حكاية الناس في بلاد السودان وبلدان أخرى. لقد هزلت الذئاب فلم تعد الضباع تخافها فأنشبت اظافرها وغرزت انيابها في أجساد الناس تأكل لحمهم وتشرب دماءهم دون خوف من الواحد القهار. بعض من هجر أولئك يقول: "لقد مر السودان في تاريخه الحديث بأطوار عديده من التقدم والتراجع، والقوة والضعف، وذلك كغيره من دول العالم الثالث التي استقلت لتوها استقلالا سياسيا من ربقة الاستعمار الأوربي." أول القصيدة كفر! متى كانت (اطوار) التقدم تلك؟ قبل أم بعد أن وصف أحمد سيكوتوري، أول رئيس لغينيا، السودان برجل افريقيا المريض؟ كيف يشفى المريض إذا لم يحسن النطاسي التشخيص؟ أم هو خداع للنفس يقود الى مزيد من التراجع؟ لقد بلغ السيل الزبى وطفح الكيل ولم يبق في قوس الصبر منزع. ولغوا في دماء العباد عقدين من الزمان ونيف. قتلوا الأبرياء بالرصاص الحي وأعدموا اخرين شنقاً من غير سبب، وأردوا رفاق السلاح – وما أدراك ما رفاق السلاح – في المحاكم الميدانية حيث الظلم بيًن كالشمس في رابعة النهار وذلك بعد أن اعطوهم الامان، وسلطوا الضباع والزبانية على الامنين يروعونهم من السماء حيناً وراكبين وراجلين وعلى ظهور الخيل احياناً كثيرة. لعل الذين قُتلوا ظلما وعدوانا في الوقت القريب تدعو جراحهم وارواحهم بدعاء امام التابعين، سعيد بن جبير، حينما دعا ليلة مقتله على الطاغية، الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كان كذاباً ومبير: "اللهم لا تسلطه على قتل أحد من بعدي." [email protected]