اتسع الفتق على الراتق، وتفاقمت القضية وتأزمت على نحو خطير، وهي التي كادت ان تضع اوزارها، ويلتقي الخصماء عند نقطة التصافي والتصالح. ولكن القرارات المتخطبة التي تتخذ تحت رهبة السلطان، ورغبة الظهور في جلباب المخلص الوفي لولي النعمة، باعدت الشقة مرة اخرى، ودفعت ابرياء الى شفاء الهاوية، وزادت الجراح على وطن يترنح من فرط التمزق. واعني هنا للمرة الثانية أزمة طلاب دارفور بجامعة النهود، التي كانت على مقربة من الانفراج بعد جهود قادتها ادارة الجامعة على استحياء، افلحت في تراجع الطلاب عن تقديم الاستقالات الجماعية والانتظار ريثما تنفذ الوعود التي قدمت لهم استجابة لمطالبهم، ولكن قبل ان يلتقط الطلاب انفاسهم ويستعدوا لبناء الثقة بينهم وادارة الجامعة، فجعهم نبأ اعتقال مشرف روابط طلاب دارفور بالجامعة الدكتور صديق نورين علي، بقرار نحسبة متعجل متخبط من والي غرب كردفان، تم الزج به على اثره مباشرة الى السجن، جنباً الى جنب مع المجرمين من القتلة وتجار المخدرات وما شابههم في الجريمة، وفقاً لقانون الطوارئ الساري بالولاية حسبما تأكد حتى الآن. لم يخبر الدكتور ولا ادارة الجامعة التي هي أكثر اهانة بهذا الأجراء لم يخبرا بالجريرة التي ارتكبها الدكتور على وجه الدقة، بخلاف التأويلات بأن الدكتور مشارك في الأحداث الأخيرة التي شهدتها الجامعة، هكذا يقولون، دون ان يتسألوا اي أحداث هذه التي شهدتها الجامعة تستدعى الزج باحد اساتذتها خلف القضبان، وضياع مستقبل مئات الطلاب بالجامعة؟. هل تم القبض على الدكتور متلبساً بمتفجرات يستعد لزراعتها لنسف الجامعة، ام ضبط بحوزته سلاحاً نارياً ادخله الى الجامعة لزرع الفتنة بين الطلاب وقتال بعضهم بعض؟.. على الرغم من ان كل الجرائم سالفة الذكر درج طلاب المؤتمر الوطني على اركتابها بانتظام في كل الجامعات دون ان يوقفهم (ود مقنة) من مدراء الجامعات عند حدهم، ولا غرو ان تحولت الجامعات بعد ذلك الى مصنع حديث لتدوير الجهل والأمية بسبل انجع، ورغم ذلك ايها السادة إلا ان الدكتور صديق نورين لم يأتي باي من هذه الافعال المنكورة ليزج به في السجن، وكل الذي فعله هو رعايته لعقول شباب غض والمحافظة عليها بعيداً عن جرثومة المؤتمر الوطني، التي غزت عقول الكثيرين فافسدتها، يدخل الطالب الى الجامعة وهو في باكورة شبيبته وعقله نظيفاً نقياً كنقاء روحه وبيئته التي اتى منها، ياتي باحلام وآمال طموحة في درب العلم والمعرفة، فيقتنصه المؤتمر الوطني ويحقنه جرثومته القاتلة، فيقتل تلك الطموح والآمال ويحوله الى قاتل مأجور، يمسك سلاحه ليضرب به اعناق زملاءه ورفاقه وأخواته بلا جريرة، بعد ان يسوق له اكاذيب وتلفيقات صدقها دماغه المغسول. الدكتور صديق نورين ولمعرفته الشديدة باحابيل المؤتمر الوطني وشراكه التي ينصبها الى ضحاياه (منسوبيه) خصوصاً من الطلاب، آثر أن يتولى الرعاية والاشراف على طلاب دارفور بالجامعة التي يدرس بها، جامعة (النهود)، حتى يضمن لهم مستقبلاً نظيفاً معافى من الدسائس والمؤامرات والخيانات التي تزدحم بها عقول منسوبي المؤتمر الوطني فلا تترك لهم وقتاً للتفكير فيما ينفعهم وينفع البلاد والعباد. فلا تسأل عزيزي القاري عما اوصل البلاد الى هذا الدرك السحيق من الفقر والعوز والحرب ثم الفشل، لأن القوم رهناء لعقولهم المريضة، يحسبون كل صيحة بالحق محض مؤامرة تستهدف عروشهم الزائفة، فينهالون على مطلقيها بالقوة المفرطة، فانصرف البعض الى التفكير في اساليب تمكنهم من الرد بالمثل، فانتشر التمرد وتمدد واصبح السلاح هو العامل الحاسم للخلاف الفكري، حتى داخل الجامعات. وهكذا تم حسم طلاب دارفور بجامعة النهود بالقوة المفرطة، تحرك حاسميهم ذات العقول المسكونة بالهواجس والظنون. صورت لهم تلك الهواجس طلاب دارفور متمردون ليس على الجامعة فحسب بل على نظام الحكم كله، صورتهم بانهم على اتصال دائم مع الحركات المسلحة، ولا ادري ايهم يعنون، فالحركات المسلحة لا تحصى ولا تعد، ولكن لأن الأمر مجرد هواجس وظنون عجزوا عن تحديد الجهة التي يتبعون لها وعلى تواصل مع قادتها. وكأنما قادة هذه الحركات يقبعون خلف جبل حيدوب، يذهب الطلاب لهم في كل مساء تحت غطاء القراءة (العصرية) ليلتقون بهم ويملكونهم خطط المرحلة. اليوم حزم طلاب دارفور بجامعة النهود امتعتهم وشدوا رحالهم وتوجهوا تلقاء دارفور، علها تكون أحن عليهم، ويجدوا فيها من يفهم ما ينشدونه بعيداً عن الأفكار الملوثة والعقول المريضة. منذ الصباح الباكر وقفت السيارات امام الداخليات وبدأ طلاب دارفور في حزم امتعتهم ورفعها الى تلك السيارات، بينما وقف زملائهم ممن لم تغذو جرثومة المؤتمر الوطني عقولهم، مشدوهين مصدومين مما يحدث، فغالبت بعضهم العبرات، واندفقت المشاعر الجياشة تبكي الراحلين، في وقت لم تحرك تلك المشاهد الباكية ساكناً في القلوب المتحجرة، منزوعة الإحساس، التي تنطوي عليها أجساد ممن قدر الله ان يكونوا من أهل المسؤلية.. تقدم الطلاب باستقالاتهم احتجاجاً على العنف الذي تعرضوا له، دون فائدة. وطالبوا ادارة الجامعة بالتحقيق في الأحداث التي وقعت بالجامعة وكان طلاب دارفور ابرز ضحاياها، ولم تفعل. قاطعوا الإمتحانات على أمل ان يتحقق ولو جزء مما يطلبون، فضربت الجامعة بمطالبهم عرض الحائط. ولم يتبقى امام الطلاب سوء اتخاذ القرار الصعب، وهو ترك الجامعة نهائياً، والعودة الى مناطقهم لبدء مشوار جديد في حياتهم، لا أحد يعلم كيف يكون، لكن الذي يتعرض الى الظلم يوماً لن يستطيع ان ينساه وينسى من ظلمه مهما تقادمت السنوات، وسيعمل جاهداً لرد الظلم بسبل شتى. للأسف إن بلادنا في جميع مؤسساتها ابتليت بمسؤلين يديرونها بعقلية الترهيب لا الترغيب، فينفر الناس منها ويفرون فرار السليم من الاجرب، يدفعهم القائمين على امرها دفعاً لإختيار ما هو اصعب الخيارات لرد الظلم. والذي يحدث في جامعة النهود انما هو تجسيداً لأزمة البلاد كلها، تضيق الحلول حينما تنسد الأفق، ويرفض قبول الآخر مهماً كان رأيه سديداً.. غادرا طلاب دارفور مكرهين مقاعد الدراسة بجامعة النهود، وهم في باكورة شبيبتهم، تركوا من خلفهم الأب الروحي لهم الدكتور صديق نورين يقبع خلف القضبان بلا جريرة واضحة، غير التكهنات المبنية على الهواجس والظنون. فماذا تتوقعونهم فاعلون؟.