مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الطريق من روصو إلى نواكشوط: خواطر وتأمُّلات (1) ... بقلم: د. خالد محمد فرح
نشر في سودانيل يوم 13 - 10 - 2009

أسعدتني الصدفة الجميلة خلال عيد الفطر المبارك الذي أظلتنا أيامه ولياليه البهية منذ بضعة أيام خلت ، بأن قيض الله لي فرصة للسفر من العاصمة السنغالية داكار إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط ، لقضاء عطلة العيد بحاضرة بلاد شنقيط بين أخوة كرام سودانيين وموريتانيين ، أكرموا وفادتنا ومثوانا ، واحتفوا بنا أيما احتفاء ،أنا ورفيقي في تلك الرحلة المبهجة ، الأخ المستشار بالبعثة يعقوب محمد أحمد. وكان على رأس أولئك الأخوة الكرام ، زميلنا الوزير المفوض الأخ أحمد التجاني سوار، القائم بأعمال سفارتنا بنواكشوط ، في غياب الأخ السفير ياسر خضر في مهمة بالخرطوم.
تستغرق الرحلة من داكار إلى نواكشوط حوالي أقل من ساعة بالطائرة عادةً ، غير أننا آثارنا أن نسافر بالسيارة لكي نستكشف ذلك الصقع من شمال غرب القارة الإفريقية ، ولكي نشاهد عن كثب: مدنه وقراه ، ومناظره الطبيعية ، وتنوع أرضه ونباته وحيوانه ، فضلاً عن معالمه وملامح عمرانه وتنميته بصفة عامة ،خصوصاً وأن كلينا ، وخاصة شخصي ، حديث عهد بهذه البلاد ، فليس أقل من أن أنتهز هذه الفرصة لكي أتعرف على جزء منها على نحو معقول ، وليس من رأى كمن سمع كما يقولون.
الطريق من داكار العاصمة إلى مدينة "سان لوي" ، الميناء السنغالي العتيد ، وكبرى مدن شمال غربي السنغال ،وعاصمة سائر مستعمرات فرنسا في غرب إفريقيا بما في ذلك موريتانيا لعقود طويلة قبل الاستقلال ، طريق معبد تعبيدا جيداً ،وهو يمر بعدة مدن وقرى كبيرة من بينها مدينة "تشيس" التي تقع في قلب المنطقة الزراعية المنتجة للفول السوداني ، المحصول الأول بالنسبة للسنغال ، ومدينة "تواوان" التي يوجدبها مقر سجادة الطريقة التجانية بزعامة أحفاد وخلفاء الشيخ "مالك سي" ، ومدينة " كيبي مير " مسقط رأس الرئيس عبد الله واد ، ومدينة "لوقا" مسقط رأس الرئيس السنغالي السابق "عبد ضيوف" الذي يتولى حالياً منصب الأمين العام للمنظمة الدولية للفرانكفونية. كما شاهدنا أيضاً على الطريق الرابط بين تلك المدن المذكورة قرى كثيرة أخرى كبيرة وصغيرة ، حسنة المباني والمظهر العام في مجملها.
استغرقت بنا الرحلة من داكار إلى سان لوي " سميت تيمناً بلويس التاسع ، ملك فرنسا الذي اشتهر بتدينه وشدة تمسكه بالكاثوليكية ،وهو ذاته الذي حاول غزو مصر في القرن الثالث عشر الميلادي ، وأسره المماليك الذين كانوا يحكمون مصر آنئذٍ ، ثم أنهم أطلقوا سراحه في مقابل فدية كبيرة ، وفيما بعد بجل الفرنسيون مليكهم لويس التاسع وجعلوه قديسا ومن هنا جاء لقبه "سان لوي" كما ينطق بالفرنسية ، أي القديس لوي ، وإن شئت فسان لويس كما سينطقه أخو بني الساكسون ، استغرق بنا ذلك الجزء من الرحلة حوالي الأربع ساعات ،ترجلنا بعدها من السيارة واسترحنا قليلاً بالقرب من إحدى محطات التزود بالوقود بسان لوي ، حيث أعاد سائقنا تعبئة خزان سيارته ، ثم انطلقنا بعد ذلك في اتجاه الشمال لكي نصل بعد حوالي الساعتين إلى بلدة "روصو" السنغالية الواقعة على الضفة اليسرى أو الجنوبية لنهر السنغال ، وهو الحدالطبيعي الذي يفصل بين السنغال وموريتانيا. وقبيل وصولنا إلى روصو السنغالية بقليل ، شاهدنا مساحة كبيرة من الأرض مزروعة بقصب السكر ، فقيل لنا انه مشروع يمتلكه أحد رجال الأعمال الأجانب ، وإنه يستغل محصوله من القصب الذي يروى من مياه نهر السنغال ، في انتاج السكر من مصنع يمتلكه ببلدة " ريتشار تال " التي تبعد حوالي عشرة كيلومترات فقط من روصو المذكورة.
عبرنا نهر السنغال بسيارتنا على متن عبّارة صغيرة أوصلتنا إلى الضفة الأخرى الموريتانية من النهر في حوالي أقل من عشر دقائق ، فألفينا انفسنا في بلدة أخرى تحمل نفس الاسم "روصو" ، ولاحظنا أنه تغلب على سكانها التشابه في الألوان والسحنات والأزياء مع جيرانهم القاطنين في روصو السنغالية.
هذه الظاهرة المتمثلة في وجود بلدتين متقابلتين تقعان على طرفي الحدود بين بلدين متجاورين ،وهما تحملان نفس الاسم ، هل هي ظاهرة إفريقية بحتة ، أم أنّ لها نظائر في مناطق أخرى من العالم ؟. على كل حال ، فيما يتعلق بالسودان وجيرانه على سبيل المثال ، فإنّنا نجد هنالك بلدة تسمى " الكرمك " سودانية كما توجد بلدة أثيوبية مسامتة لها تسمى " الكرمك " أيضا ، وهناك الطينة السودانية والطينة التشادية وهلم جرا. ولقد شاهدت في الحدود بين الكاميرون ونيجيريا ، قريتين تقعان متقابلتين كلاهما يسمى " قمبرو " ، يفصل بينهما مجرد خور موسمي صغير ،وهكذا. بلى ، رب قائل يقول لك هنالك شلالات نياجارا أمريكية وأخرى كندية ، أم أنه شتان ما بين الثرى والثريا !.
ولما كان سفرنا في أواخر فصل الأمطار ، فقد انبسطت أمامنا وعلى جانبي الطريق خضرة سندسية مدهامة ، من أشجار وشجيرات ، وأعشاب ومروج وغياض ، وسهول وتلال ، وتلاع وقيعان ، تتخللها برك وعيون ، وغدران وجداول تتدفق بالمياه الرقراقة ، وتحلق من فوقها أسراب من طيور شتى في خفة ورشاقة ، وتسرح فوق ثراها قطعان من الماشية بمختلف أنواعها ، وهي تقضم من تلك الأعشاب الغضة البليلة في دعة وحبور.
لقد ذكرتني المناظر التي مرنا بها خلال ذلك الجزء من الرحلة ما بين داكار وروصو السنغالية ، بتلك المناظر الخلابة التي يشاهدها المسافر في فصل الخريف خاصةً ما بين مدينتي الأبيض والدلنج في كردفان. فالأشجار هي ذات الأشجار: طلح ، وسدر ، وهبيل ، وعرد ، وحراز ، وتبلدي. أما شجر التبلدي أو " الباوباب " على وجه الخصوص ، الذي كنا نعده من قبل من خصوصيات كردفان ، فأمره عجب في السنغال. إنه ينمو ههنا بكثرة مدهشة ، بل إنه يكون أحياناً كثيرة في شكل أحراج وغابات ، ولذلك فلا غرو أن اتخذته هذه البلاد شعاراً لها منذ استقلالها عن فرنسا في عام 1960 م.
هذا ، ولا تخطئ عين المسافر إحساسه بتناقص كثافة الغطاء النباتي والشجري وانحساره ، كلما توغل في السفر انطلاقاً من داكار باتجاه الشمال ، حتى يصل إلى نواكشوط. فكأنما كل ما كان يدرسه نظرياً عن الأحزمة النباتية ،والأقاليم المناخية ، وخصائص التربة الخ .. يتجسد أمام عينيه بصورة عملية. إذ أنه يشعر بأنه قد انتقل بالفعل ، وبصورة تدريجية من حزام ما يسمى بالسافنا الغنية ، إلى السافنا الفقيرة ، فإلى الحزام شبه الصحراوي ، ثم إلى الحزام الصحراوي نفسه الذي يحيط بالعاصمة نواكشوط إحاطة السوار بالمعصم.
وأما الطريق بين روصو الموريتانية والعاصمة نواكشوط ، فإنه يا صاحبي شارع كوستي – الأبيض (الخالق الناظر!) كما يغني المطرب عبد القادر سالم. الدكتور عبد القادر سالم ، فنان عظيم وإنسان نبيل ، تعرفت عليه عن كثب بانجمينا العاصمة التشادية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي واوائل تسعينياته ، وكان قد عمل بها من قبل مديرا للمدرسة السودانية الكائنة فيها. ثم أنه أحيا لي لاحقا حفل زواجي مجاناً ، جزاه الله خيرا.
ومشاهد الطريق بين الأبيض والدلنج الذي قلنا ان الطريق بين داكار وروصو السنغالية يشبهه ويذكر به ، شديدة الصلة في نفسي بغناء عبد القادر سالم ، وخصوصاً أغنياته الأولى ، ربما لأن المنطقة بين الأبيض والدلنج هي منطقته. أغنيات مفعمة بالحنين والنوستالجيا والشجن:
بسام الفواطر .. بتشرح الخاطر
لهيج سكر ..... بتشرح الخاطر
القمرة في جنبك .. الخالق الناظر
* * *
عيوني في عيونو .. بتسرح وتسافر
كان تروى من الريد زوادة المهاجر .. الخ
أو قوله:
ردي القليب جيبي ماتسوي ليك وسادة
النار القبيل مو حيّة ماتكوسي لي زيادة
شن جاب ليك يا الريلة .. سويت هواك عبادة
القسمة بتلتلنا والريدة قالوا إرادة
ما تقولوا جنّ فلان .. نار الغرام وقّادة ..
ويشجيني إلى درجة التأثر أداء عبدالقادر سالم لهذه الجملة التقريرية البسيطة من ذات الأغنية : " ظلم الحبايب شين !! ".
وعندي أن المطرب إبراهيم حسين قد تأثر بالمقدمة الموسيقية لهذه الأغنية في تأليف المقدمة الموسيقية لأغنيته الشهيرة: " عشناك غُنا .. يا أجمل منى " ، أم أن ذلك هو من قبيل توارد الخواطر ؟.
أو أغنيته تلك الخريفية الصور والمرائي:
شنْ تهدي يا الهدّاية
القليب ما انبدلْ والعين بقت بكّاية
تعبّي سحاب نهار .. تشل ليلها سرّايةْ
ويا شوقي الكتير برعودو دوداية... الخ
أما الطريق بين روصو الموريتانية والعاصمة نواكشوط ، فهو الطريق بين تندلتي والأبيض فلا تكونن من الممترين. نفس الهيئة العامة أو ما يسمى باللاند اسكيب ، ونفس المناظر ، وذات الكثبان الرملية ، والشجيرات المتناثرة ، وشويهات يسيرات يتقافزن هنا وهناك ، ومرخ ،وسيال ، وعشر وسنا مكة وسيء الصيت: المسكيت. وذات النباتات: صميمة ، وبنو ، وضحيان ، وحسكنيت ، ولم أر ثمة حنتوتا ًولا ضريساء.
ثم يلوح لك من بعيد في الأفق قطيع من الإبل يتهادى امام رعاته من بين القيزان ، فتتخيل نفسك لبرهة أمام (مرحات) الشيخ عبد الله ود العجوز وهي ترعى قدام حلته " المنارة " ، أو كأن حياً ظاعناً بأبله من قبيلة الشنابلة " أم عبد الله " يمر من امامك. وربما أمعنت في التخيل حتى تظن نفسك بعد أن لقيت من سفرك ذلك نصباً ، أنك سوف تعرج بعد قليل على محطة " الله كريم " الخلوية ، لكي تتغدى في بعض مطاعمها الشعبية بغداء طيب مكون من شواء غريض مع شيء من رغيف ام روابة الجيد ، وسلطة بنضورة طاعمة مما تجود به السهوب الخصبة الواقعة على مقربة من ذلك المكان على يسار الصاعد بالقطار أو بالسيارة من الخرطوم باتجاه الأبيض ، تلك السهوب التي تخصبها التربة الطينية التي يجلبها معه إلى هذه الرمال الجرداء ، خورأبو حبل من منبعه بجبال النوبة.
وترى أطيفالاً صغارا يلعبون أو يعدون خلف بهم لهم ، أو نسوة فرادى أو مجتمعات ، ذوات ألوان شتى بيض وصفر وخضروسمر ، يسرن متلفعات بملاحف وملاء زاهية الألوان مثل نساء السودان وهن يرتدين أثوابهن المميزة تماما.
ولقد تبين لي من خلال هذه الرحلة لماذا يؤثر أهلنا الشناقطةالذين كانوا يلمون بالسودان منذ قديم الزمان ، سكنى بوادي شمال كردفان مع عربان الكبابيش ، والكوتهلة ، والهواوير ، والمجانين ،والحمر الخ. السبب واضح: تشابه البيئة ،والمناخ ، والتربة ،ونمط العيش.
وبالجلمة فإن هذا الجزء من موريتانيا من لدن روصو وحتى نواكشوط ، هو بأشيائه وأحيائه ، كانه قطعة من كردفان بالسودان ، سوى أن الأول ممعن في البداوة ، ومظهر للتمسك بها ، والتماهي معها بدرجة أكبر. يدلك على ذلك هذا التعلق الشديد بسكنى الخيام ،حتى أننا مررنا بحي كبير للغاية ، بيوته كلها أخبية وخيام ، فحسبنا لأول الوهل أنه معسكر من هذه المعسكرات المرتبطة بظواهر الطوارئ أو اللجوء او النزوح الشائعة في العديد من البلدن الإفريقية ،واستبعدنا أن يكون ذلك المخيم حياً سكنياً ، آثر ساكنوه بمحض إرادتهم واختيارهم هذه الحياةالتي ألفوها ،وورثوا عشقها من أسلافهم ،ولسان حالهم يردد مع تلك البدوية التي قالت قديماً:
لبيتٌ تلعبُ الأرياحُ فيه أحبُّ إليّ من قصرٍ منيفِ .. الخ
على أنه بالرغم من جو البداوة الطاغي على هذا الجزء من الطريق ، إلا أنه لا تبدو على الناس ههنا أية مخايل لفقر أوفاقة أو مسكنة مذلة على الاطلاق ، بل تلاحظ أنهم قد اختاروا هذا النمط من الحياة اختياراً ،وتمسكوا بها تمسكاً كمأثرة عزيزة من مآثر الأسلاف ، ولعل الدليل على ذلك هوأنه لا يندر أن تجد سيارة جديدة من أحدث طراز ، يكون ثمنها وحده كافياً لتشييد أفخم منزل بالمواد الثابتة ،تجدها رابضة أمام خباء بسيط المظهر والأثاث ، بينما يلامس صدامها المعدني اللامع الصقيل "نؤياً كجذم الحوض لم يتثلمِ " كما قال زهير في المعلقة.
ومن فرط ارتباط الموريتانيين بتراثهم البدوي ومتعلقاته ، لاحظت أن شكل الخيمة قد غدا نمطاً أو " موتيفة " معمارية مميزة تزين أسطح أفخم الفيلات التي يمتلكها سراة القوم ووجهائهم داخل العاصمة نواكشوط. فما من فيلا أو منزل من بين تلك المنازل الفخمة ، إلا وعلته مظلة أو قبة في شكل خيمة من الأسمنت المسلح المزركش بالفسيفساء أو الزليج المغربي ، أو القرميد الإفرنجي أيضا.
فالأمر الواضح إذاً ، هو أن البداوة ههنا هي أسلوب حياة ، أومعطى ثقافي بعيد الغور وموطد الأركان في بنية الشخصية الموريتانية المعاصرة ، وربما لا فكاك لها منه في المستقبل المنظور فيما يبدو. ولن يتخلى الموريتانيون عن ارتياد البادية ، واستطابة لبن النوق مثلاً في ظني ، حتى يتخلى الاسكتلنديون عن لبس التنانير " الأسكيرتات " ، ويقلع اليمانية عن تعاطي القات ، ويترك بعض عرب الجزيزة العربية المعاصرين " احتراش الضباب " عادة أسلافهم القديمة ، ويترك السودانيون أكل " المرارة النية " مثلا.
وهكذا خرجنا ومضيفينا في رتل من السيارات ، يقودنا الأستاذ أحمد الوافي ، وهو من كبار مثقفي موريتانيا وكتابها ، خرجنا إلى مسافة لا تزيدعن العشرة كيلومترات بعيداً عن نواكشوط ، عبر الطريق المتجهة منها إلى مدينة "نواذيبو " الساحلية باتجاه الشمال. خرجنا في نزهة سياحية ليلية صحراوية ، فألفينا جانبي الطريق المسفلت يعجان بحركة ملحوظة ، أحسسنا بها رغم الظلام الدامس ، فقيل لنا إن هذه مضارب للبدو المرابطين بقطعانهم من الإبل على مقربة من العاصمة ، وأنه ما يزال سكان نواكشوط يغدون على تلك المضارب ويروحون ، لكي يستمتعوا بهواء البادية العليل ، خاصة وأن جو داخل العاصمة نفسها ليس بذاك ، وكذلك لكي يشربوا من ألبان الإبل وهي محلوبة كفاحاً من أخلاف تلك النياق الحفّل.
تاه دليلنا للأسف وتوّهنا معه عن الحي الذي كان يقصده ،على الرغم من محاولاته العديدة للتحدث عبر هاتفه المحمول مع بعض من كانوا فيه ، أو ربما بعض من كانوا يعرفون موضعه ، فاضطررنا إلى العودة إلى المدينة ، خصوصاً وأنه كان يتعين علينا ان نلبي دعوة على العشاء في ذات الأمسية ، أقامها لنا أحد الأصدقاء الموريتانيين.
على أننا قد استمتعنا بالفعل بتلك النزهة الليلية ، وخصوصاً بالجوالساحر الذي اكتنفها ، او ما يسميه الفرنسيون بال Ambiance ، وبلحظات الترقب والتشويق أثناء بحثنا العبثي عن ذلك الحي الذي ندت مضاربه عن دليلنا في ظلمة ذلك الليل البهيم ، ولسان حالنا يردد مع الشاعر:
أتوْا ناري فقلتُ منون أنتمْ ؟ فقالوا الجنّ .. قلتُ عموا ظلاما
وحمِدَ أخً سوداني ،كان مرافقاً لنا ، وكان قادماً لتوه من لندن ، حمد الله كثيراً في سره أننا لم نعثر على تلك النياق ،ولم نشرب من لبنها ، لخشيته على بطنه من خلط حلواء العيد وكعكه وخبيزه بلبن الإبل الذي طال عهده به جدا ،ولم يعد متعوداً على شربه ، وقد كان شكى لي في أول نهار ذلك اليوم بأن بطنه بدأت " تتكتكْ ". ولكنّ الله سلّمْ .. وكفى الله المؤمنين القتال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.