حملة "الصراخ" ضد السودان التي تصدر عن الإعلام المصري هذه الأيام كما وصفها وزير الخارجية علي كرتي، لم تعد خافية على أحد، والحملة لا تخرج من استخفاف متعمدة، وهزء مر، وسخريات لاذعة بالسودان وسياساته، والحملة وصلت الى حد تعدي الخطوط الحمراء دون مسألة أو محاسبة لمن قاموا بتخطيها. ويبدو أن تساهل الحكومة السودانية وعدم الاحتجاج على ما يجري شجع وسائل الإعلام المصرية على الاستمرار في الاستفزازات. والحملة الحالية ليست الأولى على كل حال، وقد سبقتها الحملة التي نشبت في أعقاب المباراة التي جرت بين منتخبي مصر والجزائر وجرت أحداثها في السودان والتي انتهت بفوز المنتخب الجزائري على المصري في منافسات كأس العالم 2010. حيث نقل الإعلام المصري صورا مشوهة عن موقف السودان واتهمه بالتقصير وحمله النتيجة، ولكن تظل قضية حلايب شوكة الحوت التي تحاول مصر زعزعة السودان بها كلما توترت العلاقات لأي سبب من الأسباب، مؤخرا دخل سد النهضة الإثيوبي على الخط وتحول إلى تيرمومتر علاقة جديدة، وقطعا الحملة التي انطلقت مؤخرا تسبب السد في جزء كبير منها، وبرزت الحملة الإعلامية المصرية الشرسة ضد السودان في قمتها بشكل "فاضح وواضح" من كبار الإعلاميين المصريين الى صغارهم ولاسيما الذين كانوا يدعون بأنهم احرص على علاقات البلدين. ووصل استخفاف الموقف المصري الذي أثاره الإعلام بالسودان حينما وصف رئيس حزب غد الثورة المصري ايمن نور الموقف السوداني من الأزمة الخاصة بسد النهضة ب"المقرف"، وأنه في منتهى السلبية. السودان رأى عدم مجاراة الثورة الإعلامية التي أصبحت سمة الصحافة والكتاب المصريين، ورأى وزير الخارجية علي كرتي أن الطريقة التي تتعامل بها مصر مع النزاع المتعلق ببناء سد النهضة الإثيوبي، تأجيج للموقف من قبل وسائل الإعلام المصرية بأنها غير "مجدية"، وقال في تصريحات صحفية، عقب عودته من إثيوبيا مؤخراَ، إن "مصر تزيد من تأجيج الموقف مع إثيوبيا من خلال التصريحات المثيرة للجدل عبر وسائل الإعلام"، كرتي أكد بأن السودان يواصل جهوده الرامية إلى سد الفجوة بين البلدين، واردف "موقف السودان كان واضحا، وطلبنا من المسئولين المصريين الاستفادة من الدور المركزي الذي يمكن أن يلعبه السودان فيما يتعلق بالأزمة، وتابع، وإذا كان هناك مجال للسودان أن يلعب دوراً في الأزمة فإنه لابد من توافر مناخ نقي من التوترات والصراخات عبر وسائل الإعلام التي تضر أكثر مما تنفع"، لافتا الى أن موقف السودان حيادي تجاه أزمة سد النهضة، نافياً تعاطف السودان مع أي طرف، باعتبار أن الخرطوم تجمعها مصالح مشتركة مع القاهرة وأديس أبابا. واعتبر بعض المراقبين أن تصريحات وزير الخارجية السوداني تعد تغييرا في الموقف السوداني الذي كان يعتبر سد النهضة مصلحة مشتركة للخرطوم وأديس أبابا معا، إضافة إلى إعلان السودان مشاركته في الجوانب الفنية لبناء السد. ويزور وزير الخارجية علي كرتي في الثاني من مارس المقبل القاهرة، ويرى البعض أن الزيارة يمكن أن تصب قليلا من الماء البارد على الحملة الإعلامية الملتهبة، وتوقعت مصادر مطلعة تحدثت ل(الخرطوم) أن تزيل زيارة كرتي مناخ الجمود والفتور الذي ساد العلاقات في الوقت الراهن بسبب قضيتي سد النهضة، حلايب اللتين يتم تحريكهما من قبل الإعلام المصري، وقالت المصادر ل(الخرطوم) إن ما أثاره الإعلام أثر على العديد من الفعاليات التي تخص العلاقات والتعاون بين مصر والسودان من بينها تعثر انعقاد الكثير من اللجان الثنائية وفي مقدمتها اللجنة العليا المشتركة التي يترأسها رئيس الحكومة المصرية مع نائب الرئيس السوداني التي يتعين أن تعقد سنويا. وتحاول وزارة الخارجية التعامل بدبلوماسية في التعاطي مع التصريحات المصرية، ويقول وزير الدولة بوزارة الخارجية كمال حسن علي، والذي أنهى عمله كسفير للخرطوم في القاهرة، إن السودان لن يقف موقفا يضر مصر، وإن الفترة المقبلة ستشهد مزيدا من التعاون والتنسيق بين البلدين على جميع المستويات. ويواصل "لدينا رؤانا ونعتقد أن الطريق الوحيد للوصول إلى حل في قضية المياه هو التعاون، فنهر النيل هو قدرنا المشترك من منبعه إلى مصبه، ولا بد من التعاون بين دوله، وفي إطار ذلك تبرز الخلافات هنا وهناك، ولن تحل هذه الخلافات إلا بمزيد من الحوار والنقاش". ولكن في ذات الوقت لم يظهر السودان ضعفا كما يقول بعض المراقبين اتجاه مصر، وحذر مصر بصورة صريحة من الاستمرار في الاستفزازات لإثيوبيا وطالبتها ب "كف أذاها"، ودعا السودان مصر على لسان وزير الإعلام أحمد بلال للتنسيق معها بشأن سد النهضة، والتوقف عن الاستفزازات والإساءة للسودان، واردف قائلا: "لن يعجب قولنا المصريين وسيغضبهم لكن السودان سيجني فوائد كبيرة من السد، وزاد" يجب على المصريين أن لا يتوجسوا من السد وأن لا يخلطوا الأوراق والإساءة الى السودان وإثيوبيا، فإن دول حوض النيل تتكون من 11 دولة، وان الحرب القادمة حرب في مجال المياه، وعلى السودان ومصر التعاون لأنه لا مناص سوى ذلك وتابع "الكلام الجارح لا يخدم المصالح". ولكن حديث السودان اغضب المصريين وثارت الصحافة المصرية حينما تحدث السودان عن موقفه في "سد النهضة"، ويقول المدير السابق للموارد المائية بالأمم المتحدة الدكتور هشام عبد الغني "كنا نتمنى أن يكون موقف السودان داعما لمصر مثل ما كان في السنوات السابقة باعتبار أن موقف البلدين واحد، ويتعاملون مع ملف حوض النيل من منطلق واحد، ولكن ما يحدث الآن عكس ذلك، واردف خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامي رامي رضوان ببرنامج "صباح أون" على فضائية أون تي في"، إلى أن السودان اختارت لنفسها أن تضحي بالآثار السلبية لسد النهضة في مقابل المكاسب التي سوف تحصل عليها من إثيوبيا في حال بناء السد، ولذلك فالسودان ترى أنه ليس من مصلحتها الاعتراض الآن. ويثور في اتجاه مغاير الخبير في الملف السوداني في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجيّة هاني رسلان السودان، حينما تحدث ل"المونيتور"، بشأن سودانية حلايب إن "السودان يلجأ إلى افتعال المشاكل دائماً مع مصر كلما مرّ بأزمة داخليّة لتوحيد صفوفه وتجنّب الإنشقاقات، وكان من الأفضل له أن يتمسّك بقسم أكبر وأغنى من أراضيه في جنوب السودان الذي انفصل عنه في العام 2010. إذا مصر تشهر سلاح الإعلام في وجه السودان بسبب سد النهضة لتبدأ معركة جديدة من معارك طواحين الهواء.