السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشِعر الشعبي في أدبِ (الزين)! – (2/3) .. بقلم: بلّة البكري
نشر في سودانيل يوم 26 - 02 - 2014


في الذكرى الخامسة لرحيل لطيّب صالح
([email protected])
مدخل
ذكرت في الجزء الأول من هذا المقال أنه على الرغم من أهمية ما يشغلنا جميعاً من هموم الوطن، أو ما تبقى منه، لابد من وقفة وفاء، ولو قصيرة، في ذكرى الطيّب صالح. هذا وقد علّلت لماذا وجدت ولا زلت أجد عسراً في الكتابة عن الرجل؛ فليراجع من شاء تعليلي ومرتكزاته هناك. وقد كان في النية أن ينشر المقال كله مرة واحدة ألا أن متطلبات النشر الأسفيرية وما تحدده كحد أقصي لعدد الكلمات في المقال قد أملت عليّ التجزئة والتي قبلتها مترددا. قمت بتعديل طفيف في الجزء الثاني من هذا المقال، لأصحح خطأً وقعت فيه سهواً ولأضف اضافة لازمة أملاها تعليق أحد القراء علي الجزء الأول أري أنها ضرورية ومكملة لما أنا بصدده. وعليه فما لم أستحسنه في البدء كأجراء إداري مزعج أضحى ذو فائدة عملية من حيث لم احتسب؛ وقديما قالوا: رب ضارة نافعة. التجزئة أيضا تتطلب أعادة بعض الفقرات حتي ولو باختصار لضمان سريان الفكرة ومنطق المقال دون الحاجة للرجوع للجزء السابق وفي هذا بعض تطويل لابد منه. أشرت في الجزء الأول الي افتنان الطيّب بالشعر الشعبي والمديح وبأدب أهل السودان عموما مستشهداً بمقدمة د. ابراهيم القرشي الضافية لكتاب "الأعمال الكاملة الطيب صالح الروايات والقصص" طبعة مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي. وقد جاء ذكري للاسم "أحمد القرشي" خطأً وما عنيت هو بروفسير ابراهيم القرشي بالطبع؛ وهو غنيٌ عن التعريف. ولهذا اعتذر عن هذا الخطأ وله العتبى، كل العتبى حتى يرضى.
الزين شاعر!
لا بأس من إعادة ما قاله د. القرشي مرة أخري كأساس متين يعزّز حجتي فيما يأتي من مادة:
"الطيب صاحب رسالة حمل هم التعريف بوطنه حتي عُرف وطنه به، يضايقه جهل الناس بأدب السودان ولغة أهله.. فجاءت كتاباته تعريفاً في ذاتها، ولكنه سعي بذكاء الي تمرير كثير من المفردات والمفاهيم والشخصيات في كتاباته، وما أكثر ما وقف مع الحاردلو وود الفراش وحاج الماحي والتجاني يوسف بشير ورصفائهم..".
وقد عرفت من خلال مصادر متفرقة ربما وثقتها ذات يوم إذا دعا الداعي أن لبعض كتاب وباحثي التراث الشعبي عموما من أمثال الأستاذ الطيّب محمد الطيّب عليه الرحمة وربما آخرين ممن وثقوا للشعر الشعبي منزلة خاصة عند الطيّب صالح لما لهم من علاقة وثيفة ب(الدوبيت) علي وجه الخصوص. وعلي الرغم من أن هذا ليس مجال التوثيق لمكانة الكتاب والأدباء عند الطيّب لكنه استطراد لازم ومقصود. في هذا الصدد. ف(الدوبيت) فيما أرى هو المعين الذي عبّ منه الطيّب صالح جلّ ابداعه. ولولا أني أخاف تزكية النفس الأمّارة لقلت أنني لم أر أحداً يتلو شعر الدوبيت بهذه الرصانة والأذن البالغة الحساسية لجرس الوزن والقافية مثل الطيّب ونفر قليل. وقد استمعت اليه في صمت في أكثر من مناسبة حضرت له فيها ندوات عامة في مختلف الشئون الأدبية في لندن حيث أقمت هناك لما يقارب العقد من الزمان.
ولذا فالطيّب عندي شاعرٌ شعبي مكتمل الأدوات حتي ولو لم يكتب الشعر الشعبي. وقد عززت هذا القول ما أمكن في الجزء الأول عن كيف يكتب الطيّب النثر وهو يتنفس شعراً. وقد أوردت أقوال ناقد آخر له باع مشهود في هذا المضمار تدعم زعمي. هذا وعلي الرغم من يقيني في هذه الفرضية الا أنها لا تعدو بالطبع أن تكون فرضيّة يجب اثباتها بما لا يدع مجالا للشك قبل الارتكاز علي نتائجها النظرية والعملية. وعشمي أن يتولي النقاد والدارسون تمحيصها كواجب أدبي أولا ووفاء للطيّب الذي أحبوه. فالرجل بين ظهرانينا الآن بروحه وقد ألقى رحله الي الأبد واستقر به طويل النوى بين قومه. هذه الفرضية هي محاولتي للأجابة علي السؤال المحوري: من أين أتي الطيّب بكل هذا الأبداع النثري ذو الطابع الشعري إن لم يكن من معين غني كمعين الشعر الشعبي والذي شرب منه وعبّ في سنوات تكوينه الأولي في ريف السودان. ما هو سر روعة الحكى عند الطيّب صالح ومصادر إبداعه الأصليّة؟ والسؤال الأخير قد شحذ ذهني به "زينٌ" صالحٌ آخر، صديق وأديب وصحافي سوداني معروف، كان من أول المعلقين علي الجزء الأول من المقال. أوقفني تعليقه الذكي مما حدا بي لذكره هنا. فقد قال أنه قد استمع للطيب صالح يتحدث في عدد من البرامج الحوارية عن تعلقه بالشعر الجاهلي في إذاعة صوت العرب وأيضا في الإذاعة السعودية، وقد بيّن الطيّب كيف أثّر الأدب الجاهلي في مساره الإبداعي؛ ثم تطرق لعلاقة الشعر باعتباره الإبداع الأدبي الأول عند العرب، مقارنا بينه وبين القصة كوافد جديد علي المجتمعات العربية. فاذا كان ذلك كذلك فلنقل أن الشعر الجاهلي فعلا قد أثرى عطاءه الأدبي وصقل موهبته خاصة وقد اعترف هو بذلك. ولكن لابد من أساس متين لهذه الموهبة (في الأساس) حتي يتم صقلها فما هو يا تري هذا الأساس ومن أين أتي؟ خاصة والمواهب لا تكتسب بالدراسة؛ فهناك من تعلّقوا بالأدب الجاهلي قبله وقدموا فيه الأطروحات العلمية الرفيعة؛ فمن منهم يضاهيه؟ لا أحد - لا في السودان ولا في خارجه.
الأجابة عندي تكمن في المعين الأدبي الثر الذي عبّ منه الطيّب وهو يافع مما يجعل أساس موهبتة هو شعرنا الشعبي في بوادي السودان العريض. خاصة والطيّب لم يلعب "شِلِيل" مع الحطيئة أو المهلهل ولم يجالس الأعشي في مجلس شرب. بل ولم "يفزع" في إبل مسروقة مع عنترة العبسي؛ ولم "يعرض"، مع طرفة، في حلبة رقص تتمايل فيها خَوْلة الكلبيّة أو تترنم فيها الخنساء ببديع شعرها. تربي الطيّب وترعرع في ريف السودان حيث رضع شعر المديح علي أنغام حاج الماحي في ليالي كرمكول وتشرب معاني الدوبيت من نفس معين الشعراء المجهولين الذين أشار اليهم في رواياته قبل أن يعرف طريقه الي أضابير الشعر الجاهلي ومكنوناته. هذه الفرضية إن صحّت ستكون هي صندوق (باندورا) الذي نبحث عنه لحل مغالق هذا الأبداع المدهش. فقد حيّر الرجل العرب والعجم بما أتي به من حذقٍ نثري بارع، شعري الروح والجسد. فلمن أنكروا علي الطيّب ارتكاز موهبته الأدبية كلها، ربما، علي الموروث الشعبي السوداني من دوبيت ومديح وجراري أو جابودي وأحاجي حبوبات وغيرها نذكرهم بالمثل الشعبي: "الصندل في بلده ما فَوّاح"! لأنهم لو قدّروا هذا الأرث حق قدره ودرسوه كما ينبغي له الدرس فربما وافقونا الرأي. خاصةً ولنا في السودان إرث غنيٌ مترعٌ بالأدب قمين بانتاج أناس مثل الطيّب بل وأطياب أخر صالحين لا يقلون صلاحاً عنه. الطيّب شاعر شعبي ما عندي في ذلك أدني شك كتب الشعر أم لم يكتبه؛ يتحدث كشاعر ويشرح شرح العارفين ما استعصي علي العلماء من دقائق القصيد الشعبي. وعندما يكتب تتراقص كلماته التي تتمنّع أن تنحبس في قالب النثر الضيق فتنفك منه وتلقيه جانبا، كما الأزار، لتصبح عارية تعبق بأرج الشعر. يا ناس يا هُووي عُوكْ الزين شاعر!
قلت في الجزء الأول، عزيزي القارئ، أنه قد كثُر الحديث عن معاني بعض قصائد شعر "الدوبيت" والتي أوردها الطيّب، في بعض رواياته وقصصه وخاصةً "موسم الهجرة إلى الشمال" و"ضو البيت"؛ وذهب الناس مذاهب شتى في معانيها. في هذا الجزء سأواصل في شرح هذه القصائد والذي بدأته في الجزء الأول ببعض ما ورد في قصص الطيب. وقلت أيضا أنّ بعض القصائد تتناول معنىً مركباً أوله علي شاكلة النسيب، أحيانا، في الشعر الفصيح، إذا جازت المقارنة. في هذه الحالة يخصّص الشاعر البيتين، الأول والثاني، كمقدمة تذكر فيها المرأة أحياناً، غزلاً أو تشبيباً، أو لمجرد وصف مسرح الحدث قبل الدخول في الموضوع الرئيس، في البيت الثالث والرابع. وأنا أرى أن بعض الرباعيات الشعرية وخاصة رباعية "الدرب انشحط.." هي على هذه الشاكلة، كما سأبيّن أدناه. فلننتقل للجزء الثاني وكفى بنا مقدمات.
الدرب انشحط..
أورد الأستاذ الطيّب صالح في مقدمة روايته "ضوالبيت .." الأبيات الآتية وهي موزونة تماماً وهي:
الدرب انشحط واللوس جبالو اتناطن
والبندر فوانيسو البيوقدن ماتن
بنوت هضاليم الخلا البنجاطن
أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن
وقد نسبها لشاعر مجهول، ووضعها جنباً الى جنب مع شعر أبي نواس والفيتوري. وهذه المربوعة تندرج في باب المربوعات ذوات المعني المركّب كما أبنت في الجزء الأول من مقالي هذا. في البيت الأول والثاني يصف الشاعر مسرح الحدث: خبيبٌ في الفلاة في الليل (بقرينة الفوانيس) علي ظهر بعيرٍ أصهب ودربٌ طال، متجها نحو جبال اللوس التي بدأت في الظهور في الظلام كرأس الرجل يظهر من وراء ستار (حوش) وهو يتناطا، أي يرفع عنقه فوق السياج. فيبين عنقه. يقول شاعر آخر (لعله عبدالله ود إدريس) في معني التناطي:
ما ترابع المِدنقِر ولاّ تمشي تشاورو
والبتناطا لعِرضك أخِير ما تجاورو
والبندر الذي تركه الشاعر وراءه قد خبأت أضواؤه بسبب الابتعاد عنه أو اقتراب الصبح، لا فرق. فهو الآن بعيد عن البندر يقصد جبال اللوس. لكن لا بدّ لهذه الرحلة الليلية المحفوفة بالمخاطر، بقرينة السفر ليلاً وحيداً في الفلاة، من هدف. فما هو الهدف؟ نعلم أن الرجل همباتي، ففي هذه الحالة غالباً ما يكون الهدف إما "أم قُجّة" وهو وصف للناقة أو "أم رُشُوم" وهو وصفٌ للمحبوبة. ثم يأتي البيت الثالث، ليفضح لنا ما يدور في خاطر الشاعر: "بنوت هضاليم الخلا البنجاطن". فالرجل همباتي يقصد بُكاراً يشبهن بنات النعام، في نواحي جبال اللوس ويريد أن يصلها ويسوق منها، ليلاً، ما فيه النصيب، قبل أن يفوت الموعد، عند شروق الشمس. وكلمة "مواعيد" هنا فيها تورية لطيفة، لكأنه علي موعد مع المحبوبة، أو لعله، كما سنري أدناه. وهنا يحثُّ بعيره ليسرع في السير حتي لا تضيع الفرصة، بقوله:
أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن.
يجوز، أيضا، تشبيه الحبيبة بالبَكرة أو المُهرة، أو العنز (تعني الظبية). فاذا ذهبنا في هذا المنحى فيمكن أن نقول إن الشاعر على موعد مع محبوبته وصويحباتها، اللائي شبههن ببنات النعام طالما أنّ النعام شبيه البكار، أو يمكن أن يكون. أنظر قول القائل في أمر تشبيه المحبوبة بالبَكْرَة:
بِكيرة العَروري الفَنْتي
مِن جَبد الحِقاب بتجوجحي ما بِتقنتي
هنا يشبه الشاعر المحبوبة بالبكيرة، تصغيرأ محبّباً، ويسخر من صاحبها، غير الجدير بها في نظر الشاعر لأنه "عروري وفَنتي"؛ والمعني واضح! وقول الأخر في أمر تشبيه الحبيبة بالمهرة:
مُهرة دنقلا الفي العَرضة ماخدة الزينة
مما قال سلام أنا والمعاي ضلّينا
وفي أمر التشبيه بالعنز (الظبية) قال شاعر مجهول أيضا:
عَنز الروقلن نواشي ما لاقاهن
كيف قدري أنا وألقى مُرادي معاهن"
وتشبيه المحبوبة بالظبية قد يأتي بأسماء كثيرة مثل "الدِيفة" و"جدي الريل" أو "جِدِي أم شُورة" أو " الجَفَل" أو "ود الأدرع" كما قال أحدهم:
ود الأدرع المِن داب حَقَب قُرقابو
أمّو مدرجاه ومن الكبار تابابو
نزلتبو العتيق في الهجعة تتكابو
نظرك في الوحوش فَرضَة وقليل تيرابو
وعلي نفس منوال الأبيات التي أوردها الطيّب صالح سأورد مثالين يسندان ما ذهبت إليه من معنى؛ قال شاعر مجهول:
الليلة الصعيد طلّق علينا دَلَقّن
التيراب نتج حتي التروس اتسقّن
خِشِيماتا ملاح عِيل بالإبار أندقّن
أسرع عندهن قبل النجوم ما غبّن
فالموضوع الرئيس هنا هو وصل الحبيبة، صاحبة الخشيم المليح، المدقوق بالأبر، التي وصفها في البيت الثالث. وفي البيت الرابع يحث بعيره أن يسرع في السير لكي يوصله عندهن قبل غياب النجم، أو قبل بزوغ الفجر، حتي يتم الوصل - تماما كما فعل شاعر "الدرب أنشحط...". أما البيتان الأول والثاني ففيهما التوطئة التي أشرت إليها أعلاه ولما لم يكن فيهما ذكرٌ لغزلٍ فلا يمكن أن تسمى نسيباً في هذه الحالة.
وقال شاعر آخر:
تَبيت بدري قُبّال الصباح ما يصبي
صليت ركعتين حاضر هديتهن رَبّي
المِن رَكَفُوا ممكوناً فؤادي مغبي
هاجمو الليلي كان المولي سهّل دَربي
وهاك مربوعة أخري هي أيضا من هذه الشاكلة لعلها من شعر الحردلو وحذارى ففيها جمال متناهي وخصوصية في المعاني تمنعني حتي من شرحها!:
البارح رقادي كِسيدة فوقها بريش
راكوبةً تجيب سَقَطة ومعاها رِشيش
الخَلّاني ما اشهِّل جُمال العِيش
هِنيهيناً بِسونّوا الُدغش بي بِشيش
أنظر للبيت الثالث في الأمثلة أعلاه وقارن، ألا يعادل مقطع "بنوت هضاليم الخلا البنجاطن"؟
نختم هذا الجزء من المقال بأن الطيّب عارفٌ متبحرٌ في شعر الدوبيت لا يلحن فيه ولا تفوت عليه شاردة أو واردة؛ بل ذهبت أنا الي القول هنا أن الرجل شاعرٌ شعبيٌ مكتمل الأدوات له أذنٌ موسيقية مرهفة، تبين جليَة في نثره مما يرجّح أنّ روايته لمربوعة "الدرب انشحط.." كلها صحيحة، خاصة وأنّها تستقيم، وزناً ومعنى. وما ظهر من أخطاء تصحيفيّة هنا وهناك في كتاباباته هو من مزالق المهنة – مهنة الكتابة والنشر - تقع مسئوليته في الغالب علي الناشر. ومن سوء حظ المكتبة السودانيّة أنّ الطيّب لم يوثق لمعارفه الثرّة في الشعر الشعبي، علي حدّ علمي وليته فعل. أما لمن رأوا تغيير البيت الثالث حتي يستقيم لهم المعني فدعني أقول إن المعني مستقيم كنصل الرمح؛ وأن الرواية التي تغيّر البيت الثالث إلى "يا ود أمات هضاليم الخلا البنجاطن" أو ما شابه لا غبار عليها إذا حُذفت عنها ال"يا" في البداية، لتفادي اللحن، وأن يكن لحناً خفيفا ربما صعب علي البعض سماعه لكنها في هذه الحالة تغير المعني الأصلي للقصيدة وتخرجها من باب المركّب الي السهل والشائع في تراكيب الدوبيت وعندئذ تنحصر المربوعة في مدح البعير فقط كما أبنت أعلاه. وتلك، لعمري، خسارة فادحة لا أظن أن الشاعر سيرضاها. هذا ما كان من أمر "الدرب أنشحط..".
أما في الجزء الثالث والأخير من مقالي فسأدعوك عزيزي القارئ ل "تَختِرْ" معي بصحبة شاعر آخر مجهول من دار كَوّل والكَمْبو! وسيكون خُتورا قصيرا لا نحتاج فيه لكجر حوايا فإلي لقاء قريب.
- نواصل -


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.