لم يكن غريباً على السودانيين داخل السودان وخارجه، أن يهتزوا لخبر نشرته إحدى الصحف عن الأستاذة المناضلة الجسورة فاطمة أحمد إبراهيم، صاحبة المبادئ والمواقف الصعبة منذ خمسينات القرن الماضي، إيداعها دار العجزة والمسنين في لندن، بل من غير المستغرب أيضاً، أن يثيرَ هذا الخبر ردود أفعال متباينة، مما اضطر تلكم الصحيفة إلى أن تنشر نفي ذاكم الخبر على لسان ابنة اختها. فلا غروَّ أن يجد هذا الخبر الصدى الكبير والانفعال الخطير؛ لأنه راسخ في الثقافة السودانية أن إيداع الأب أو الأم أو كليهما، دور رعاية العجزة والمسنين، بعد أن يبلغا من العمر عتياً، فيه نكرانٌ وعقوقٌ. بينما في الثقافة الغربية أن إيداع الأب أو الأم أو كليهما دور العجزة والمسنين؛ لا يعني أن الأبناء تنكروا لتضحياتهما، ولادةً وتربيةً وتعليماً. وذلك لأنّ تلكم الدور تقوم بالرعاية الدقيقة، والعناية الفائقة التي قد لا تتوفر للمسنين في منازلهم فُرادى أو مع أبنائهم وبناتهم، بينما يجهد القائمون في تلكم الدور على تقديم الخدمات الصحية والطبية والرعاية النفسية والعناية الغذائية، بالساعة والدقيقة، بل يُخصص لهم برنامج صحي دقيق، من حيث إتيان ممرضة أو طبيب لمراجعة حالتهم الصحية، إضافةً إلى تخصيص برنامجٍ ترفيهيٍّ، وتهيئة ظروف ملائمة لزيارة بنيهم وقضاء وقتٍ ممتعٍ معهم. كل ذلك يغيب عن الذهنية السودانية، ويرتسم فيها النكران والعُقوق. وأحسبُ أن من حاول أن يشيع مثل هذا الخبر مهما كانت صدقيته، قد تغافل عن الإلمام بالثقافة السودانية التي ظهرت جلياً في الامتعاض والاستياء من ذاك الخبر، كما نسي أن فاطمة أحمد إبراهيم لم تكن مجرد امرأة في تعداد نساء السودان، ولكنها كانت وما تزال يُنظر إليها بأنّها من المناضلات الجسورات اللائي فقن شجاعةً واقداماً كثيراً من الرجال. ودليلي على ذلك، أنه في عام 1965، والسودان كله يعبر نفق حكم عسكري إلى آفاق الحرية والديمقراطية، استطاعت أخت صلاح أحمد إبراهيم أن تهزم الرجال، باختيار الناخبين لها نائباً في الجمعية التأسيسية. وكانت هي المرأة الوحيدة التي احتلت موقعها بين الجالسين، وسجلت أسطراً من نور بأنها أول نائبة برلمانية في إفريقيا والشرق الأوسط. ويكفيها فخراً أنّها تعاملت مع الشأن السياسي العام بمنظورٍ مختلفٍ عن منظورِ النساء في بعض المناسبات ذات الخصوصية النسوية العالية، فهي جاءت إلى البرلمان مخضبةَ اليدين والرجلين عروساً، لم تهنأ بشهر عسل أو تضرب على نفسها خماراً، ولكنها اقتحمت مبنى البرلمان كعروسٍ تزود عن عرينها الذي هو وطنها السودان. وفي رأيي الخاص، أن شجاعة الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم وجسارتها، لم تقتصر على الحاكمين، بل تتعدى أحياناً تلكم الشجاعة والجسارة المحكومين، في انتقاداتها اللاذعة، وهجومها الساخر. أذكر في هذا الصدد، أن أخاً عزيزاً وصديقاً حميماً، جاء إلى لندن لقضاء شهر عسله بعد زواجٍ تمت مراسمه في السودان. فحضرتُ وليمةَ غداءٍ أولمت له بهذه المناسبة في "ليستر سوكير"، وهو من أرقى أحياء وسط لندن، وفيه مطاعم ودور سينما يرتادها نجوم السينما والأثرياء البريطانيين وغيرهم، وكان معنا في تلكم المناسبة الطيبة الروائي الراحل الطيب صالح. بعد قضاء وقتٍ جميلٍ أصرَّ هذا العريس آنذاك على الاتصال بالأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم بحكم صداقته الحميمة للأخ الشاعر الراحل شقيقها صلاح أحمد إبراهيم، فأوعز إليه الأخ الطيب صالح بألا يفعل، أيّ بألا يتصل بها لأنه سيضطر إلى مكاشفتها بسبب مجيئه إلى لندن، مما يعني أنّها ستثور ثورةً عارمةً وتسمعه انتقادات لاذعة، ولكن صديقنا – هدانا وأياه الله- أصرَّ على ما عزم عليه، فاتصل بها ونحن قعودٌ شهودٌ، فإذا بها تسأله عن سبب المجيء إلى لندن، فما كان منه إلا أن يصدقها القول بأنه جاء في شهرِ عسلٍ، فهاجت وماجت، كان ذلك في تسعينات القرن الماضي، مما قالته له "إنه مَنْ غير أمثالكم مِنْ.. يستطيع قضاء شهر عسل في لندن؟". ولما حدثنا صديقنا بتفاصيل ما جرى، قال له الراحل الطيب صالح بضحكته المعهودة: "ألم أقل لك ذلك!". فقال صاحبُنا "لم أسمع النصيحة، ولكن لن أغضب منها فهي عزيزة عليّ مثل الراحل شقيقها صلاح". أخلصُ إلى أنّ الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم رغم ثوراتها العارمات، لكنها تحمل قلباً رقيقاً، وعاطفةً دفاقةً، كنت عندما أحادثُها على الرغم من أنها تعرف أني أنتمي إلى تيار فكريّ يثير غضبتها، ويعكر مزاجها، لم أسمع منها إلا طيب الكلم وجميل العبارة. كان آخر لقاء لي بها أيام إقامتي في لندن، عندما نُظِّم حفل تأبين لشقيقها الراحل مرتضى أحمد إبراهيم في أحد مراكز لندن، كانت صابرة على ابتلاءات الله. وأحسبُ أنني أعدُها من الصابرات المصابرات، فهي قد رُزئت بإعدام زوجها الشفيع أحمد الشيخ رئيس اتحاد عمال السودان وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ووالد ابنها الوحيد الدكتور أحمد، في عام 1971، عقب فشل انقلاب الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1971. كما أنّها حزنت أيّما حزنٍ بوفاة شقيقها الشاعر الرقيق الأخ الصديق صلاح أحمد إبراهيم. لكلِّ هذه الأسباب مجتمعة، أرى أنه كان لزاماً أن يثير ذاكم الخبر كل هذه الغضبة من السودانيين لامرأة كانت رائدةً في النضال، اتفقنا معها أو اختلفنا، وما تزال نبراساً تهتدي به المرأة السودانية في الصمود وتقبل ابتلاءات الله بنفسٍ راضيةٍ مرضيةٍ. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". وقول الشاعرة العربية تماضر بنت عمرو بن الحارث المعروفة بالخنساء: تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا اذْ رابهَا الدَّهرُ إنَّ الدَّهرَ ضرَّارُ