تغير فينا كثير من الطباع والمثل ، بعد أن حضرنا لبلاد مانديلا ونهلنا من أهلها المتعلمين والمثقفين والرجرجة ومن الناس في الشوارع ، بل الشحاذين والمجانين وقاطعي الطرق والتائهين والمعدمين والفقراء ، والسائقين ، والمصطفين للخدمات ، تعلمنا كثيرا من الذوق الشعبي والأدب المجتمعي والنظام العام ، التي تنم عن حضارة وذوق عام تسم هذا الشعب الجنوب أفريقي بالأدب والمثالية في المعاملات ، وبمناسبة هذه المعاملات الشعبية فهي تنبع من أدبيات وثقافة الشعوب ، ولا تعلمها لهم (حكومة ) أو دولة ، وهي تكون السمة العامة التي تسمُ توجه وتعام تلك الشعوب ، وطباعها التي لا تتبدل بتبدل الحكومات وأصحاب القرار أو الدولة ، إنها حق مكتسب بالممارسة والتعلم ونابع من النفس والذات ، يتأثر بمؤثرات عامة من أسرة ومجتمع وسياسة ودين وجو وبالطبيعة أحيانا . علمتنا جنوب أفريقيا ، فيما علمت ، أدب الكيو (the queue، وهي آداب إصطفاف الناس أمام المنافذ أو الكاونترات العامة أو الخاصة لأداء بعض المهام ، أو الولوج والدخول لجهة ما ، سواء كانت تلك الجهة دار ، أو مركبة ، أو طائرة ، أو بنك ، أو وزارة ، أو أي مدخل أو مخرج تحتاجه . ثقافة الكيو ، the queue وحسب تطبيق المجتمع هنا لها ، وإلتزامه بأخلاقيات ، الأول فالأول ،first come first go، تنم عن أدب وذوق وثقافة المجتمع (فمن لا كيوَّ له لا ، أدب له ، ولا ذوق ولا ثقافة ) ، ومن لا يحترم الكيو لا يحترم حتى نفسه كإنسان ، ووطنه كوطن وسمعته كبشر عند الأخرين ، هذا ما يمتثلون له ، وهذا ما يميِّز هذا الشعب . كثيرا ما نقف في صفوف البنوك هنا في بريتوريا ، وعندما نلتفت وراءنا نجد ، ضابط البوليس ولواء الجيش ، ونجد المرأة قبل الرجل والطفل قبل الشيخ والفقير قبل الغني والغريب مثلنا أمام العضو من الANC ، والموظف من مكتب الرئيس ،يقفون في الصف، من غير تجاوز ، ومحسوبية ، فندهش لذلك أيما دهشة. وعلمتنا جنوب أفريقيا كثيرا من الثقافات والحضارات (الصغيرة الناعمة ) التي كنا لا نعرفها ،ولا نلق لها بالا ، فمن بعض ما علمتنا ، من أدبيات حضارتها ، التعود وتحمل ترديد كلمات مثل آسف ،وأنت قبلي ، وتفضل ،وشكرا ، تخيلوا أن الشخص لو نظر إليك نظرة ملية إلى برهة صغيرة وتضاربت عيناكما ، فإنه يبادر لك بالإعتذار ، وتخيل أنك إذا تصادمت مع معتوه في الشارع فإنه يبادرك بالإبتسام وطلب السماح والعذر وهو ينحني إلى الأرض ، وتخيل إن (الحرامي ) أو ومعتاد الإجرام هنا ، يمكن أن يسرقك بالليل ويمكن أن يقتلك وأنت نائم ، ولكن إذا تعارك جسدك وجسده في أي زقاق أو طريق فإنك تسمع كلمة (صوري بابا) ، قبل أن تلتفت إليه ، هذا هو الذوق العام والأدب العام و الحضارة التي نفتقد . علمتنا جنوب أفريقيا من الذوق العام في كيب تاون عندما طلبت منا البلدية تغيير لون ستائر نوافذنا بألوان محددة من البلدية لكل شارع ، وكانت نوافذنا التي لا تطابق ألوان ستائرها الألوان المخصصة للذوق العام لشارعنا ، وقد أشتكتنا جارتنا البيضاء العجوز للبلدية لتغيير لون ستائرتا فأبدلناها بالألوان المحددة ، تلبية لطلب جيراننا ، وإحترام ذوقهم العام وحقهم العام ، ثم إحتراما لذوق المارة وحفاظاً على لوحة الشارع في حي سي بوينت الراقي. تُتْخَمُ أسواقنا في السودان وتتكدس بالبصات المتجهة من العاصمة إلى المدن الأخرى ، فيكون الناسُ في هم وهلع ولهفة لإيجاد تذكرة مركبة خصوصا في أيام الاعياد ، فيسلك بعض الناس كل الطرق الفاسدة لإيجاد تلك التذاكر ، وحتى بعد توافر الحظ لنيلها تجد الناس في نوافذ الخدمة ، في هرج ومرج وتزاحم يقطع التلابيب والجيوب ويخنق الأنفاس ، ثم عراك وقتال للصعود للمركبات ! حتى أن كثيرا منا يحجز مقعده بكيس أو بحقيبة أو (شال ) ، ويجري متأخرا ليجد مقعده خاليا بإنتظاره ، وبعضهم ينحشر من النوافذ أو يصعد على سقف المركبة . والناس في بلادي تزدحم عند أبواب البنوك والوزارات والمصالح الحكومية والخاصة ، وعند كاونتراتها وتتزاحم وتتطاول للوصول لمقدم الخدمةservices providers ، فالأطول هو الفائز الأول ،ثم الأكثر (عنترة) ، ثم الأضخم ، ثم الأنحل ثم الأضعف ، فالمرأة ، وأول الجميع هم المقربون وأصحاب المصالح والمشتركة ، ثم صاحب الدبابير من البوليس والجيش والأمن ، ثم الأكثر غنا وهكذا . القائمون على الكاونترات ، ومنافذ الخدمات الرسمية وبعض الخاصة عندن في السودان ، من الذين يقدمون تلك الخدمات لجمهور بهذا المستوى ، يغريهم هذا الحال من الصراع واللهث للوصول إليهم لنيل خدماتهم بهذه الصورة ، فيظنون بطول الزمان والممارسة أن هؤلاء الناس إنما (يتشابون ) وتشرئب أعناقهم طمعا ورجاءا لنيل خدماتهم (الشخصية) ، فيبرز في نفوسهم الضعيفة صولجان فرعون وقوة هتلر ، فيبدأون (بشخصنة ) مقاعدهم ووظائفهم وخدماتهم ، فتبدأ (النهزرة) التي نرى ، والذل الذي نرى ، والقهر الذي نحس ، والتعطيل الذي ننال ، والهوان الذي يقع على رؤوسنا ، من أضعف العاملين على بوابات المستشفيات وبوابات الوزارات والمصالح الحكومية وكاونتراتها ونوافذ خدماتها ، والرؤساء والمدراء والوزراء من خلف الأبواب يستمرئون هذا الحال ، ويستلذون بالطريقة التي نصلهم بها وكتوفنا مقلوعة ، وجلابيبنا ممزقة ، وجباهنا تخر عرقا وتتقطع نصبا ووصبا ، وقلوبنا ترف أرقا ومرضا وغبنا ، وأملا ورجاء ووجوهنا تتعبأ ذلا وهوانا وخذلانا ،، ونرجع بخفي حنين، إذا لم نضطر للرشى فنجور على حق الآخرين. نعم نحن شعب لا يقاس في الفضل والعطاء والجود والكرم والبذل والتضحية والدفاع عن المظلوم ، ولكن هذه الطباع لا تهش فينا ، إلا باستفزازنا وبشحذ نخوتنا ورجولتنا ولكنها لا تأتي عفوا وسريعا وبصورة عامة ، ولا نطبقها في شوارعنا وتعاملاتنا العامة لتكون لنا حضارة (صغيرة ناعمة ) تؤطر رؤية الأخرين لنا ويحسونها في إبتسامنا المتأبي أبدا ، وإعتذاراتنا النادرة وعفونا وصفحنا عند ملمات الطرق والإشارات ونوافذ الخدمات .