جَمَال مُحمَّد إبراهيْم [email protected] (1) كنتُ أدرك أنّ مقالاً يمسّ وزارة الخارجية ، التي ألفتني وألفتها زمانا، سيكون له وقعه، ايجاباً أو سلباً، قبولاً على حماسٍ، أو تسليماً على مضضٍ. أعرف أنّ غيرتي على المهنة التي امتهنت زماناً طويلا وغادرتها وأنا غير لائمٍ ولا مُلام، تدفع بي أحايين كثيرة، لكلامٍ يكاد لمعه يُخفي الجمْرَ اللاذع الذي أكتبه. ولا أكتب معتذراً عن جمرِ كتابتي، فأكثر الذي جاء من قلمي إمّا صادر عن تجربةٍ عشتُ تفاصيلها، أو أمراً تابعته وسمعتُ شهاداته ممّن عايشوها. أكثر تصويبي كان إلى تحسينٍ تمنّيته، أو تصحيحٍ استوجبته، أو تصويبٍ ارتأيته. ولربّما عَسُرَ على بعض دبلوماسيي الخارجية هضم ما أكتب. ولا تثريب في ذلك إذ كانوا هم أبناء عصرهم وأنا - بعد- إبن عصري، والتفاوت بين تجربتي وتجربة أكثرهم، أمرٌ طبيعيٌّ ومتوقع. أما مجافاة أصول المهنة وتقاليدها، فهذا أحرى بالتذكير به ، إذ الدبلوماسية هي خدمةٌ مهنية للوطن، ولا ينبغي في نظري أن تخرج من حيدتها الوطنية لتكون - مثلاً- همّاً "رسالياً" ، يروّج لمعتقد سياسي من المعتقدات الساعية للتمكين، أو يدعو لتيار فكري من بين تياراتٍ تجاهد لتأخذ مكاناً في الساحة السياسية. . (2) عَرِفني أكثرُ الناس دبلوماسياً- قبلَ سنوات - ناطقاً بإسم وزارة الخارجية، يُحدّث بشئونها وبمواقفها ودارفور جرحٌ تفتّق والتحديات لا تفتأ تستعر. وفيما رَصدّتُ، رأيتُ أكثرهم لم يلحظ هذا الفرق الذي أعنيه، بينَ الحديثِ عن الوطن والحديث في سياسة الوطن. إنّ منشَط "النطق الرسمي" وقد عملتُ على ترسيخه في الوزارة بُعيد اتفاق نيفاشا (2005)، هو من الممارسات المستحدثة في كثيرٍ من وزارات الخارجية، كفرعٍ أصيل في "الدبلوماسية العامة". ولعل الظرف الذي ساعد في ترسيخ مكتب الناطق الرسمي وقتذاك، هو أيلولة منصب وزارة الخارجية إلى الدكتور لام أكول أجاوين، وهو آنذاك كادرٌ قيادي فاعل في الحركة الشعبية، الشريك الرئيس في اتفاقية السلام الشامل، والتي نشأت وفق مقرراتها حكومة الوحدة الوطنية (2005-2011). ولعلّ "الدبلوماسية العامة" عند أكثر الناس، هي ذلك النشاط الدبلوماسي الذي يعنى بالترويج لصورة الوطن والإعلاء من شأنه، واتّباع أقصر السبل للتأثير على الرأي العام الأجنبي لكسب تعاطف مأمول، أو مساندة مُستحقة. لذا فإنك ترى أنّ مُمتهني الدبلوماسية العامة يتجاوزون سياج الدبلوماسية التقليدية التي تحدّها حصاناتهم وامتيازاتهم، ويعبرون إلى المجتمع المدني مباشرة، يخالطون رجاله ونساءه بلا حواجز. ولعلّ أكثر الأجهزة الدبلوماسية في العالم التي عنيتْ بالدبلوماسية العامة، ووضعت أسسها وقواعد حراكها، كانت هي الدبلوماسية الأمريكية. لم يكن مثيراً للعجب- وإن أثار جدلاً طويلاً- خروج ذلك الدبلوماسي الأمريكي واقتحامه التكوينات الصوفية في الخرطوم وفي خارج الخرطوم، حتى قارب تخوم دامر المجذوب. . (3) إن طبيعة المهنة الدبلوماسية عرضة للتغيّر والتبدّل وفقاً لأحوال التواصل العام بين الدول وبين المجتمعات، وباستصحابٍ ذكيّ لما أتاحت ثورة الاتصال والمعلوماتية من قدرات وإمكانيات إضافية مذهلة. بهذا المعنى بدا لي أنّ الدبلوماسية الأمريكية، باعتمادها أساليب الدبلوماسية العامة، من خروج دبلوماسييها في البلدان الأجنبية إلى تكوينات المجتمع المدني الثقافية والاقتصادية والدينية، وبأكثر من تفاعلهم مع التنظيمات السياسية كما هو التقليد، فإنّها تؤكد قدرتها على إعداد كوادرها إعداداً "رسالياً" يخدم سياسة ودبلوماسية الولاياتالمتحدة، وبما لا يناقض الأعراف الدبلوماسية. ليتنا نعتمد نهجاً مماثلاً في بناء دبلوماسية سودانية تخدم رسالة الوطن وتُعلي من شأنه، متجاوزة قدر ما تسطيع، ذلك التورّط الذي ارتبكتْ فيه بوصلة الدبلوماسية السودانية سنوات طويلة، في الترويج لحزبٍ أو لتيار أو لمعتقد، لم يستوعب بحصافة أفق التنوع الذي نحن عليه. أوجز دبلوماسي ذات يوم مهمته في الدعوة إلى سبيل الله بالموعظة الحسنة وحمل مصحفاً إلى رئيس الدولة الأجنبية وهو يودعه بعد انقضاء أجل مهمته. أكثر حاجة وزارة الخارجية السودانية، أن تنشيء دبلوماسييها على محبة الوطن أولاً وآخرا، ثم أن تعمل على صقل قدراتهم في التواصل الايجابي الفاعل في البلدان الأجنبية التي يُبتعثون للعمل فيها. إنّ الدبلوماسية في أصلها وسيلة تواصل لا مطيّة لتنافر وازورار. أعلم أن وزارة الخارجية الأمريكية تعتمد دائرة الدبلوماسية العامة مدخلاً رئيساً من مداخل الخدمة الدبلوماسية المهمّة، ولكم أن تلاحظوا كيف تُبدّل وزارة الخارجية الأمريكية الناطقين بإسمها بين الفينة والأخرى، وذلك لأسباب تتصل بالتدريب وترقية قدرات أكبر عددٍ من دبلوماسييها خلال هذه الآونة، للإطلال عبر الفضائيات والمواقع الالكترونية. طبيعة المهنة الدبلوماسية إلى تحوّل وتغيير متسارعين. وإنّي أنادي بالنظر في دراسة كنتُ قد اطلعتُ عليها قبل سنوات، أعدّدتها السفيرة النابهة نادية محمد خير عثمان، إبّان عملها في مندوبية السودان الدائمة في نيويورك، مستعينة بما أتيح لها من نظرٍ ثاقبٍ في التجربة الأمريكية في "الدبلوماسية العامة". ولقد كتبتْ السفيرة نادية تلك الدراسة بلغتها الانجليزية الرفيعة، وأخشى أن لا يكون في ذلك ما يحجب عنها الالتفات فتقبع أوراقها منسية في الأضابير، فالدراسة مُهمّة وضرورية لترقية قدرات الدبلوماسيين في وزارة الخارجية. أقول هنا : إنّي أفدت من تلك الدراسة فائدة قصوى، فيما كنتُ أمارس مهمّتي في إدارة الإعلام، وجهد يومي كان في ترسيخ تجربة النطق الرسمي في وزارة الخارجية السودانية في عامي 2005 و2006.. (4) خلاصة ما عنّ لي أن أدعو إليهِ، هو أن يكون لكلِّ دبلوماسيّ يخرج ليمثل بلاده، مقدرات شخصية عالية ليُحدّث عن وطنه، ويروّج لبلاده ويدفع عنها بالمعلومة البينة وبالحجّة الدامغة، وأن يمتلك ذلك الحضور في الساحة الإعلامية، ينطق بلسانٍ مُبينٍ بلغته العربية وبلغةٍ أخرى أجنبية إن دعا الحال، وما أكثر دعوات الحال في البلدان الأجنبية. ذلك تحوّل في المُمارسات الدبلوماسية فرضته ثورة الاتصالات واندياح المعلومة، حيث صار لازماً على الدبلوماسية أن تغادر أطرها التقليدية، وأن تلج غير هيّابة ولا وجلة، إلى قاعات المحاضرات ومنتديات الثقافة وملاعب الرياضة وجمعيات الخير و... تجمعات الطرق الصوفية ، موالدها وأذكارها، بمثل ما كانت تلج قاعات المؤتمرات ومحافل التفاوض وجلسات الدبلوماسيين المغلقة، على أيام "الحرب الباردة"..! تقوم دبلوماسية القرن الحادي والعشرين على التواصل الخلاق، والتفاعل المباشر، ولا تنتظر ما يُستخلص من حفلات الكوكتيلات المسائية، أو مجالس الدبلوماسيين المُسيّجة بملابس مُميزة، من "شمارات" لا معنى لها، فيما صار هاجس الدبلوماسية - ليس هو الحصول على المعلومة وقد أتاحتها ثورة الاتصالات لكلِّ راغب- بل تعدّاه إلى الغوصِ في أبعادها والخوض في تأثيراتها وتحليل تداعياتها. ذهبتْ أيام الربطات الوردية اللامعة والقبعات السوداء العالية وسترات السموكينج المذيلة، إلى غير رجعة. لا تصيبنكم دهشة إن رأيتم سفيراً أجنبياً يتجول في الخرطوم ببنطال جينز وتي شيرت، أو حتى عراقي وسديري مما نلبس هنا، ويحتذي مركوباً بلا جوارب، ويخالط مريدي الشيخ حمد النيل في أذكارهم كل يوم جمعة. . ! (5) أنظر إلى حال الوزارة التي انتميتُ إليها عمراً وعاطفتي هناك لا تزال، فأقترح مُجدّداً أن تكون الدبلوماسية العامّة شأناً يشغلها في السنوات الماثلة، وأن يُحسِن سفراؤها، بل وكلّ سفرائها ودبلوماسييها، القدرة عن الإفصاح بسياسات ومواقف الوزارة وأحوال الوطن، وهي الوزارة التي تحمل فوق أكتافها صورته الذي تقع عليه عيون الآخر الغريب. هي الوزارة التي تُحدّث عن مصالح البلاد ومنافعها في الخارج. أكثر حاجتها وهي تتعثر في أنفاق التحدّيات المظلمة، إلى ألسنةٍ تُحدّث وليسَ "لكُتّابِ تقارير" و"وسوسات"، لها ثمنٌ مُقدّر في لحظةٍ ما، ولكن بعد هنيهةٍ تُصرف مجانا. (6) إن الذي حفزني لأكتب ما كتبت عن ظرفِ يعيشه رمزٌ ثقافي، وأيقونة سودانية في الشعر مثل محمد الفيتوري، هو ما لمستُ من بطءِ استجابةٍ لمثل هذه الشئون، إذ الدبلوماسية هي أكثر الأجهزة الرسمية حساسية تجاه ما يمسَّ صورة الوطن في الخارج، وما ينبغي أن يكون عليه حاله. وأعلم أن الفيتوري ليس شأناً سودانياً محضاً، بل هو شأنٌ عربيّ بامتياز، وإن اقعدته العِلّة في العاصمة المغربية الرباط ، فظنّي أن "عِلّة الحنين" – لا "عِلة الجسم"- هي أكثر ما يُشقي المرءَ فيجيش به الحنينُ لمسقط رأسه. نسأل الله أن يعافي "فيتورنا" وأن يصبح الصبح علينا فنراه بين أهله وعشيرته وأحبابه، فإذا الفجرُ جناحان يرفّان عليه وعلى الوطن.. بعد نشر مقالي عن الشاعر الكبير الفيتوري، انطلاقاً ممّا كتب د.عبدالله على ابراهيم رئيس اتحاد الكتاب السودانيين السابق في مناشدة حوله، ما وجدتُ عُسراً في التحدّث إلى الوزير الأستاذ كرتي، فكانت استجابته وأريحيته المعهودة هي التي أفضتْ إلى توجيهٍ منهُ بإصدار جواز سفرٍ دبلوماسيٍّ للشاعر الكبير محمد الفيتوري، ليكون بيننا في السودان. تلك هي روح "الدبلوماسية العامة" التي حدّثت عنها في الأسطر السابقة، والمشبعة بروحنا السوداني، وهيَ التي حَدتْ بالسيد وزير الخارجية لأن يلتفت إلى الفيتوري هذه الالتفاتة الكريمة. إن ابن "الجنينة" يحنّ لزيارة التراب الذي مشتْ خطوات طفولته عليه، وأعلم أن الصديق العزيز السلطان سعد بحرالدين، سلطان دار مساليت، سيكون أسعد الناس بأن يكون الشاعر الكبير ضيفاً عليه في عاصمته "الجنينة"، التي وهبت الفيتوري وجدانياته الأفريقية، ولاتحاد الكتّاب السودانيين أن يمضي في ترتيب احتفاءٍ يليق بقامة الفيتوري السامقة. . الخرطوم – 12مارس 2014