تاريخ النشر 2013 م مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي "... قابلتُ السيدة الكريمة فاطمة احمد ابراهيم لأول مرة وجهي لوجهها الوضيئ وقد علته ملامح حزن قديم.. ذلك ذات مساء عام 2003 في لندن، وعلى هامش ندوة سياسية في مدرسة الجالية السودانية وسط عاصمة الضباب.. " مددت يدي للسلام عليها مصافحاً فتمنعت وقبضت كفيها فوق صدرها وقالت: " ما بَسَلِّم على سفير النظام الدكتاتوري القمعي الذي عَذَّبنا وشَّردنا..." فقلت لها: عفواً يا استاذة فاطمة.. السلام سُنة وعادة سودانية..." ثم انصرفت فلحق بي الاخوان أحمد بدري واحمد الضوي من رموز جالية لندن والمُشْرِفَيْن على المدرسة والندوة مُعْتَذِريْن. اما اللقاء الثاني بفاطمة فقد تمَّ بعد نحو عامين من الاول في مكتبي بالسفارة وبطلب منها.. وكان لقاءاً على غير ما كان الأول ودوداً بادرتني هي بالسلام وبيد ممدودة تصافحني وقد اغرورقت عيناها بدمعات الحزن القديم الجميل وقالت: " دي اول مرة يا سعادة السفير أدخلْ السفارة دي بعد عَشَرَ سنوات... انا جيتَكْ اعتذر لاني غِلطتَ في حقك يوم أبيت اسَلِّم عليك في المدرسة اليوم داك... إنت راجل ود بلد وسوداني أصيل سامحني يا أخوي... قلتُ: شكراً يا أستاذة لكن اسامحك على شنو ؟ عدم السلام وكلامك داك عن الحكومة.. كلام سياسة وزَعَلْ سياسى لا يقلل من قدرك ومكانتك عندي وعند سودانيات وسودانيين كُتار... كتار... اتفضلي ودي سفارتك وسفارة كل السودانيين... كلهم بدون فرز..." كان لقاءاً ودوداً قصيراً لنصف ساعة قالت لي في ختامه وأنا ارافقها مودعاً الى بوابة الخروج انها تنوي العودة النهائية للسودان ولكن ليس لديها جواز سوداني.. وعدتها بالاستجابة لطلبها متى ما رغبت في ذلك وفي حينه ...وقد تم ذلك – استخراج الجواز – عند زيارتها الثالثة لي بالسفارة في سبتمبر 2005... ومن لطائف ذلك اللقاء – لقاء الجواز – انه عندما سألها ضابط الجوازات بالسفارة (المقدم شرطة عوض...) ماذا يَكْتُبْ في خانة المهنة أجابته "سياسية... أكتبْ سياسية..!" لكني قلتُ لها مقاطعاً: "السياسة يا استاذة فاطمة ليست مهنة؟ اقترح ان تكون المهنة صحفية وأنت في الحقيقة اول صحفية سودانية رئيسة لتحرير مجلة المرأة..." راق لها اقتراحي وقبلت به. "ابرقت وزارة الخارجية بفحوى لقائي بالسيدة فاطمة وبقراري منحها جواز سفر جديد وأنها تُزِمع العودة النهائية للسودان في اكتوبر 2005 . إلا انني فوجئت بعد ايام ببرقية (شفرة) من مكتب الوزير – وزير الخارجية – تعاتبني على قراري منح الجواز قبل استشارة الوزارة وموافقتها ! عجبت وحزنت ان أُلامْ على اتخاذ مثل ذلك القرار فكتبت للسيد الوزير – شارحاً لا مبرراً – بان ما فعلته ليس سوى تنفيذ سياسة الدولة المعلنة آنذاك وهي تشجيع وحث المعارضة الخارجية ورموزها بالخارج على العودة للسودان والتعبير عن رؤاهم ومواقفهم من الداخل خاصة وقد رفعت قوائم الحظر السوداء التي تمنع السفر دخولاً وخروجاً... "أما لماذا ارادت السلطات المختصة أن تنفرد هي باتخاذ قرار منح او سحب جوازات المعارضين فاحسب انها ثقافة المساومة والمناورة وربما المن والاذي السياسي ! ومن المفارقة أن السيد بونا ملوال السياسي الجنوبي حينما طلب مني - بعد اسابيع من جواز فاطمة – منحه جواز سفر سوداني ليعود للسودان من منفاه الاختياري في اكسفورد استجبت لرغبته ولم يصلني عتاب من الوزارة ! ".. وجاء اللقاء الثالث مع الاخت الكريمة فاطمة بمبادرة منها لزيارتنا انا وزوجتي بمقر سكني غرب لندن. حدثتنا باستفاضة وحنين آسر عن أسرتها ونشأتها وطفولتها ودراستها وعن شقيقيها مرتضى المهندس الوزير وصلاح الشاعر الكبير رحمة الله عليهما.. جاءتنا فاطمة زائرة ذلك المساء تحمل لي اجمل وأوقع هدية وهي ديوان شقيقها صلاح الأخير: " نحن والردى ". غادرت فاطمة لندن بعد نحو عشر سنوات من حياة المنافي القسرية عائدة للسودان يوم 15 ديسمبر 2005 م وكنت في وداعها بمطار هيثرو.." أرسل لها اليوم عبر هذه اليوميات والذكريات وهي تستشفى وتتعافى في لندن في كنف أسرتها ورعاية إبنها الدكتور أحمد الشفيع أصدق الدعوات بتمام الصحة والعودة بالسلامة لأم درمان..الوطن: وأهديها ما قاله شاعر العراق عبد الواحد عبد الرازق في حب الاوطان: إنه وطن لا ثوب نخلعه إن ضاق عنا.. ولا دار فننتقلُ لكنه وطنٌ أدنى مكارمه، يا صبر ايوب، أنَّا فيه نكتملُ وانه غرةُ الاوطان أجمعها فأين من غرةِ الاوطانِ نرتحلُ؟ د. حسن عابدين سفير السودان الأسبق بلندن [email protected]