بين الصفحة السبعين والإحدى والسبعين كانت ترقد العلامة الفاصلة لتحديد مكان التوقُّف عن القراءة ، هادئةً مطمئنَّة غير آبهة بمرور ثلاث عشرة سنة عجفاء لبثتْها هنا في حوصلة الرواية الموسومة حركيَّاً ب (الخيبات) والتي خرجتُ على إثرها بكامل قُواي العقلية والجسدية من( بيْتيَّتي ) المجبول عليها كما كنتُ أظنّ إلى قارعات الدروب وفيافي النجوع وأندية اللغط واللغو المُبين ! لم يكن خروجي من بين تينك الصفحتين في سبيل اللحاق بمرَدَة المهارب أو الانضمام إلى رُهبان الصوامع كما لم يكن تحيُّزاً لقبيل النسيان أو تسلُّلاً لواذاً أو توليَّاً من وطيس الحرْف أو هسيس النزف ! إنَّما كان خروجاً دون هُدىً والسلام ! ما كنتُ اتوقَّع أن العلامة الفاصلة تلك ستقف أمامي سدَّاً منيعاً من مغازلة أحرُف الخيبات ومتابعة سرْدها .. فما أكثر الأحداث التي تتحجَّر كجنينٍ لم يكتملْ نموُّه داخل رحمٍ تيبَّس على كائنٍ توقَّف تخلُّقه بانقطاعِ حبله السُّرِّي .. بعض الكلمات تسقط سهْواً من جَعْبة (ماركوني) العصب الحائر وهو يعدو تحت نيرات الفجائع .. وبعضها يموت على الشفاه .. وبعضُها يُشْنَقُ على مداخل الآذان المُحصَّنة بحُجَّاب الوقْر الفدائيين ..وبعضها يدخل من أُذنٍ وينفذ من الأخرى كتعليمات ملكٍ مخلوعٍ لا يعلم أنَّ شمسَ سطوته قد أفلتْ وأنَّ خُدَّامه لا يُحبّون الآفلين !! هناك كلمةٌ وحيدةٌ تشطرها نقطة نظامٍ رعناء إلى شطرين بحيث يظل صدرها الشاهق قبَّةً تدور حولها السنين بينما يندثر عجزها إلى أبد الآبدين .. مثلما حال بينها واكتمالها أُخدود المُحال العظيم ؛ فقد انتصبتْ أمام عَينيَّ – الآن – فاصلةُ القراءة كسدِّ يأجوج ومأجوج ! كانت وهي تفرِّق بين الصفحتين وإنْ شئتَ الدِّقَّة تحول بيني ومواصلة القراءة في شكل ريشة النعامة ، مذهَّبة الحواشي تزينها أحرُف سريانيةٌ ورموزٌ كوشيَّةٌ وسنُّ غزال وسُنبلةٌ مُسْدِلةٌ شعرَها الذهبي على عُرْيها الناضر ! وبين ذراعي نهرين تنبت وردةً حمراء ترقد تحتها كلمة أعجميَّةٌ كُنَّا نُطلقها مجازاً على فعلٍ مُشترَكٍ بيننا ! أذكر جيِّداً اللحظة التي غُرستْ فيها هذه العلامة الفاصلة بين الحُلم والواقع ..بين الدهشة والإجهاش ..بين الخُطى والأقدام .. بين السُّرى والحُداء ..بين التردُّد والإقدام .. بين التوقُّف والارتطام ! كان أصيلُ ذلك الصيف الغائظ أصفراً على مشارف الشحوب .. والنيل الأزرق يبدو سيِّئ المزاج كما تشي بذلك عكورته الهائجة وأمواجه المتلاطمة .. والظلال الراقصة على الضفة تلوِّح بالغروب .. الخُوار المنبعث من جزيرة توتي بالتضامن مع الشقشقات والأزيز والأبواق والهمس والقهقهات ودبيب الحزن المنسرب بين أزِقَّة روحي لم تكن سوى غليان مِرجل على نار الانتظار الأخير ! لا شئ أقسى من أن تذهب على رجليك لإجراء عملية انتزاع قلب بلا تخدير ، وما بيمينك إلاَّ رواية لم ولن تستطيع إكمال قراءتها ! جلستُ على طاولتنا الأثيرة والموجُ ينثر رذاذه على ثوب الصمت الساهم في الضجيج ،إذْ تداعب الأنسامُ أغصانَ الاجترار المُثْقَل بالشجن وعناقيد البوح الأليم .. هُنا في المكان والتوقيت ذاتيهما كان اللقاءُ الأوَّل .. هُنا سكبنا أغاريد الهوى .. ثملنا .. ورسمنا و أشدنا قصورَ المُنى وملأناها حبوراً جيجاً وجنوناً .. هنا ميلاد القصائد والأغنيات وتكاثر الذكريات .. قلتُ لها ذات اندياح وهي تصعِّر خدَّها الأيمن لقُبلة عَدستي : - لا .. استديري ..فإنَّ غمَّازتك (الويحيدة والمشيحيدة) على الخدِّ الأيسر .. نعم هكذا ..هيَّا ابتسمي ..فإنْ لم تفعلي ؛ ضاعت الاستدارة سُدىً !! وكما الفلاش انبلجتْ أمامي يتقدَّمها عطرُها المجيد .. جاءت في كامل أناقة حُزنها وجَلَدِها ..أرسلتْ عينيها اللَّماحتين إلى الضفَّة الأخرى ..أولتْني خُصلتها الجامحة وقالتْ : - المُنتهى من حيث المُبتدأ !! حاولتُ أن أُعيدَ عيْنيْها إلى محْجريْهما أو قُل إثناءها عبر لغتنا المشتركة ولكن دون جدوى .. استرسلتْ : - آليْتُ على نفسي ألاَّ أذرف دمعةً واحدةً ..عبثاً تُحاول إرجاعهما إلى بيت الطاعة !! قلتُ محاولاً إشراكها فيما لا يُمكن أن يُقال من منصبه إلاَّ بأمرها : - هذا الجدار الفاصل بيننا بنيْناه معاً لَبِنةً لَبِنة !! و ... و .... هنا صبأتْ عيناها عن غيِّهما وقابلتا عينيِّ بلا وسيطٍ قبل أن تُجهش بالبكاء ولكن دون أن تدمع أو تمكَّنت من مغالبة الدموع أو مواراتها ، وأرخيتُ بدوري زمامها ريثما هدأتْ الأنفاس لأُحوَّلَ مجرى الحديث ! ولكن ..! قالت وهي تكابر على شهقتها وانفراج شفتيْها : - كان أمامك كلمتان مجموع حروفهما خمسة لا غير ، وعجزتَ عن اختيار إحداهما ! والآن لم يبقَ إلاَّ .. واندلقتْ المياه الغازية على الفوطة البنفسجية وأنقذت الكتاب من البلل بأعجوبة ! قبل أن تستبدل قصاصةً عليها جملة مبتورة كانت تسكن بين صفحاته بعلامة فاصلةٍ لتحديد مكان التوقّف التوقُّف عن القراءة ، وقالتْ : - صدِّقني ..لن تُكملَ أمراً قط إلى يوم يُبعثون ! فخُذ عني هذا المُعين الذي يفيدك لا محالة في عملية توقُّفك الأبدي و (لاكناتك) السرمدية وأنت تتهجَّى أبجد الحياة ! الحقيقة لم أسمع قولها الأخير لأني كنتُ قد أصدرتُ مرسوماً من ثلاثة أحرُف وبعثتُ ب(ماركوني) العصب الحائر إلى المُخ في علياءه ليُصادق عليها ومن ثم إلى اللسان والشفتين ! ولكن لم تُنطَقْ الكلمةُ إلاَّ بعد ثلاث عشرة سنة عجفاء لبثْتُها هنا في حوصلة الرواية الموسومة حركيَّاً بالخيْبات !!!