"الديناصورات تقتحم أسوار التاريخ" حزب الأمة يدفع بالأستاذة سارة نقد الله، لمكتب الأمين العام خلفاً للسيد إبراهيم الأمين بعد أن قذف التدافع بالأخير إلي خارج الحلبة.. ليس غريباً أن يتقلد أبناء السيد الإمام وأسرته والمقربون منه كل مناصب الحزب، ومنابره الثقافية، وربما في الغد القريب كافة المناصب السيادية التي يضمنها الثقل الإنتخابي لقواعد الحزب الجماهيرية، إذا ما عادت الديمقراطية يوماً سيرتها الأولي . ليس ذلك غريباً البتة، إنما الغريب هو تلك الأماني والآمال العريضة التي ظل يعلقها أصدقاؤنا المستنيرون من أعضاء الحزب، والذين ما فتئوا ينافحون حتي جحظت أعينهم وبُحّت "حناجرهم الديمقراطية" في أن الحزب لا يقل شأنا في الإحتفاء بالديمقراطية، في منظورهم علي الأقل، من الأحزاب المستنيرة الأخري التي تنتهج الديمقراطية مبدءا وتنادي بها نظاما للحكم، علي قلتها في هذي البلاد المنكوبة. فهو، أي الحزب، في رأيهم، يؤمن أسوة بتلك الأحزاب إن لم يفوقها، بالعدالة والحقوق المتساوية، ويتعاطي ذلك حتي في مطابخ الحزب وفي حدائقه الخلفية.. والغريب أكثر من ذلك، حينما تطالع عيناك المقالات التي ترتفع فيها عقيرة مثقفات الحزب غير البعيدات عن بيت الإمام وكنانته، في الصحف السيارة، وهن يتشفين ذماً وتجريحا في الإنقاذ وتقريعاً لها ولغيرها من الخصوم السياسيين، بل وهتافا بالديمقراطية والحقوق المتساوية للناس، غض النظر عن الجنس واللون، بينما لا ينسين في المقالات نفسها، أن يتغنين بتقديس الحقوق التاريخية المتوارثة للسيد الإمام ولكافة أفراد الأسرة المهدية، بما في ذلك من ترجيح متعمد لعقل الأسرة ونبلها، ووعيها الإستثنائي المتفوق، وبالتالي أحقيتها علي السلطات والمناصب والثروات داخل الحزب وخارجه، وعلي الأصول والأملاك، بل حتي أولويتها المانعة في مراقد الميتين، قرباً وبعداً من ضريح الإمام المهدي عليه السلام. حزب الأمة أيها السادة يصف الديمقراطية لمرضاه، لكنه لا يتعاطاها وربما لا يستسيغ طعمها. كما يُحرّم الحزب معاشرة الإنقاذ نهارا، علي المؤمنين من أتباعه وحلفائه، بينما يتقلب خلسة في فراشها المخملي الوثير، ينادمها، ويدير الكأس في معاقرتها ليلا .. فالحزب ولد وفي فمه ملاعق من ذهب، لا يتقن نكد العيش وشظفه، ولا يصبرعلي خبزه الجاف وأسوديه. فإنه بطبيعة نشأته وتكوينه حزب أرستقراطي تقلب في أمجاد أسرة سلطانية حاكمة، كانت يوما ما تدين لها ما تسمي الآن بالدولة السودانية من أقصاها إلي أقصاها. بذلت الأسرة ومحبيها في تعضيد ذلك السلطان، الكثير من الدماء والتضحيات، الغالي منها والرخيص، لا شك ولا مراء في ذلك. كما تسني لها أن ترث من وراء ذلك الحكم والصولجان أمجادا وأملاكا مادية وأدبية عريقة، ليس من اليسير تجاوزها أو التضحية بها. فقد ظلت إدارة ذلك الحزب طوال السنين، وأملاكه، دولةً تتبادلها الأيدي والأكف فيما بين أجيال هذه الأسرة دون سواها، تشدهم الجينات المتجانسة وتجري في عروقهم الدماء النبيلة .. بقي الحزب العجوز المُعمّر كما بقي "مليكياديس" الغجري، في رائعة الماركيز "مائة عام من العزلة" يجتاز كل إختبارات الزمان ووويلاته وتحولاته، باقياً عبر السنين، رغم الجوع والطاعون ورغم الطوفان، يكافح الموت، وظلم الحكام، ويعبر كل المراحل التاريخية، من المشاعية البدائية، الرق، ثم الإقطاع ثم الثورة الصناعية، وحتي ديكتاتورية الطبقة العاملة، لم يتحلل بفعل التدافع الطبقي، ولم تفت من عضده المطارق والسندانات، ولا كفاح الطبقة العاملة.. ظل يقبض علي أكسير الحياة، كديناصور هرم إجتاز العصر المائي والعصور الجليدية وإنحسار اليابسة والأمفيبيانس، ومازال يتجول حافيا في شوارع الخرطوم وأزقتها البائسة المتعرجة.. بقي كذلك رغماً عن أن أرتالا من المثقفين والمتعاطفين، وبعضا من رموز النضال الوطني، ممن لا ينتمون لتلك الدماء،قد مروا من هنا. لبثوا زمانا في معية الحزب، يزينون واجهاته الإنتخابية كديكورات ديمقراطية عابرة.. لكن سرعانما ينكشف ذلك التحالف الهش بين المثقفين الديمقراطيين والأسرة التالدة في القدم، في أقرب سا نحة تشهد إصطداماً للمصالح ولو يسير ..تنحسر فيه ورقة التوت وتبدو الحقيقة حاسرة بطعم كطعم العلقم أو أمرّ. حينما غيب الموت الفجائي الأمين العام السابق، الذي يشهد الناس بإخلاصه ووفائه وتجرده، قذفت إرادة الدماء النبيلة بجثمانه ، دونما رحمة ودون مراعاة للفجيعة، خارج ضريح الإمام المهدي. مستكثرة عليه حتي باطن الأرض وأديمها.. ليس لعلةٍ في سلوكه ولا لقصور في أدائه وإخلاصه، إنما فقط لأن عروقه السمراء النحيلة لا تجري فيها نفس تلك الدماء. تكرر نفس الحدث في الأيام الفائتة، في إستبعاد الأمين العام الحالي لتمسكه بخيار الممانعة في وجه النظام القائم بالخرطوم، لكنه لحسن الحظ، هذه المرة ألقيَ به خارج الدائرة وهو حيٌّ يرزق.. رغم كل مؤهلاته وإخلاصه ورغم كل القواعد المستنيرة التي تريد له البقاء.. فمن الواضح أن صراعاً كذلك، لن يكون الأول ولا الأخير، بل سيتكرر حتماً مستقبلا مرات ومرات وبإيقاع أشد، ما لم ينتبه المثقفون وعشاق الديمقراطية والحقوق، لطبيعة الحزب ونشأته وتكوينه، ثم يعملوا علي إعادة تشذيب وترتيب آفاق طموحاتهم وفقا لتلك الأسقف الحتمية، أو أن يبحثوا عن طموحات كتلك في ساحات أرحب، غير ساحات الحزب، قد تتسع عرصاتها وآفاقها لتواكب آمالهم وتطلعاتهم الجامحة، وتجعل لها نصيبا من الوجود. فمن الصعب أن تُقوِّم أعوجاجاً تكلَّسَ وظل قائما دهورا من الزمان، تصلبت بفعل السنون فيها تعرجاته وتجاعيده، لأن الأمر لا يتعلق بالأشخاص العالرين، ولا بعزائمهم وآمالهم أو نواياهم، بقدرما يتعلق بطبيعة الحزب، نشأته، ومبررات وجوده، منذ بواكير تشكله كخاطرة في رحم وكيان الثورة المهدية.. أرجو من أصدقائي بالحزب أن يتقبلوا حديثي هذا بمثابة تقرير حقائق قائمة لا نملك لها نحن ولا هم حلاً ولا عقدا، ولا نستطيع كذلك لها تقويما ولا تعديلا لأنها طبيعة الأشياء وكينونتها، أكثر من كون ذلك حكما علي النوايا أو كونه قصورا في الأداء أو عيبا في الممارسة.