بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حنتوب الجميلة .. بقلم: الأستاذ الطيب السلاوي
نشر في سودانيل يوم 07 - 06 - 2014

الأستاذ محمد عبد الحليم محجوب: مكروناية لمستر بروان
الأستاذ الطيب السلاوي
شهدت الأيام الأواخر من عام 1951 وبدايات سنة 1952 تغييرًا جذرياً في مصفوفة معلمي شعبة التاريخ بعد انتقال المستر هولت إلى قسم الأرشيف في مكتب السكرتير الإداري بالخرطوم، ونهاية عقد المستر ويرسويك للعمل في مصلحة المعارف، ونقل المستر جونز "الطويل" إلى قسم شؤون الموظفين في رئاسة الوزارة. و كان قد سبقهم الأستاذ سنادة إلى مغادرة حنتوب إلى تفاتيش مشروع الجزيرة في ديسمبر امن عام 1950 ، و ربما اعتبر ذلك "قيدومة" لتطبيق سودنة لا مقصودة أو غير مخطط لها في شعبة التاريخ في صرحنا الشامخ. فقد تم تعيين بعض معلمي التاريخ من البريطانيين والمصريين في لاحق من السنين. كانت التجربة في حنتوب ناجحة بكل المقاييس عندما انتقل إلى حنتوب ذلك النفر من أخيار المعلمين الشباب. منهم من كان حديث تخرج في كلية الخرطوم الجامعية ومنهم سبق له التخرج في المدارس العليا والعمل في المدارس الوسطى لثلاث سنوات أو أربع قبل انتقاله إلى حنتوب .
كان أحد هذا الرعيل عائداً لتوه من بعثة دراسية في بريطانيا وهو يحمل شهادة البكالوريوس بدرجة الشرف في التاريخ. كانت مياه الشباب تجول في خلاياهم ويفيضون حيوية ونشاطاً ونضارة وبشرًا. وجدوا أنفسهم أمام مسؤولة عظيمة فكانوا لها وحملوها بكل ما حباهم به رب العباد من كفاءة واقتدار وحماسة وحب للتعليم ولطلابهم الذين بادلوهم حبا بحب ووفاء بوفاء. وهكذا أضحت شعبة التاريخ في حنتوب أول شعبة في المدارس الثانوية كل معلميها سودانيون من ذوي االمؤهلات الجامعية.
في الأسبوع الثالث من ديسمبر 1951 أن غادر طلاب الدفعة السادسة أرض حنتوب بعد فراغهم من أداء امتحانات شهادة كمبريدج. وكانت عودتنا نحن طلاب السنوات الثلاثة إلى المدرسة في أعقاب إضرابنا عن الدراسة في أكتوبر المنصرم تأييدا لقرار النحاس باشا رئيس وزراء مصر بإلغاء اتفاقية عام 1936 من جانب واحد، وشجباً لإصرار بريطانيا على بقائها ودوامها مبرمة بين دولتي الحكم الثنائي، تأكيدا لاتفاقية عام 1898التى تم الاتفاق بموجبها بين الدولتين على حكم السودان بعد انتصار قواتهما على جيش الخليفة . كان قرار إدارة المدرسة يقضي بعودة الطلاب وجلوسهم مباشرة لامتحانات نهاية العام الدراسي، ومن ثم بدء الدراسة للفصل الأول من العام الدراسي الجديد (1952) فور الفراغ من الامتحانات وتصحيح أوراق الإجابات. أعلن المستر براون في أول اجتماع صباحى بعد استخراج النتائج عن وصول اثنين من معلمي مادة التاريخ: هما أحمد أفندي صلاح بخاري، خريج المدارس العليا في كلية غردون التذكارية، الواصل لتوه من بريطانيا بعد حصوله على شهادة البكالوريوس (بمرتبة الشرف) في التاريخ. وكان الأستاذ أحمد أفندي صلاح بخاري قد عمل معلمًا في المدارس الوسطى لبضع سنين قبل ابتعاثه للدراسة في بريطانيا. وقد جاء نقله إلى حنتوب رئيساً لشعبة التاريخ خلفا للمستر هولت. كان بصحبته محمد أفندي عبد الحليم محجوب الذي جاء حنتوب منقولاً من مدرسة وادي سيدنا. وكان عملٍ فيها أثناء العام الدراسي 1951 فور إكمال دراسته في كلية الخرطوم الجامعية وحصوله على بكالوريوس الآداب (جامعة لندن) في ديسمبر 1950. وقد كان الأستاذ محمد عبدالحليم ضمن أول مجموعة من خريجي الكلية بعد التحاقها بجامعة لندن ، فحصل نفر منهم على شهادة بكالوريوس جامعة لندن، وتخرج الآخرون بدبلوم كلية الخرطوم الجامعية. وتواصل السير على ذلك النهج في العلاقة بجامعة لندن إلى عام 1956 حين أصبحت كلية الخرطوم الجامعية جامعة الخرطوم (كاملة الدسم وبشخصيتها الاعتبارية) تمنح خرجيها شهادات البكالوريوس الحاملة لاسمها.
سعدنا نحن طلاب سنة رابعة (ابن خلدون) بالجلوس إلى حلقات درس الأستاذ محمد عبد الحليم الذي عمل في البداية على استكمال الجزء الاخير من مقرر السنة الثالثة (الذى لم يتمكن المستر ويرسويك من الوصول إلى نهايته بسبب إضراب الطلاب)، ومن ثَمّ انخرط في تدريس مقرر السنة الرابعة من تاريخ أوروبا الحديث الذى يبدأ من عام1871 بسياسة بزمارك الخارجية وما تلا ذلك من على تحالفاته ومعاهداته المتعددة والمتشابكة والمتناقضة المصالح أحيانا، وصولا إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية وما كان بينهما من أحداث عالمية تمثلت في الثورة البلشفية، وظهور الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى، وتأثيره على مجريات الأحداث في العالم الغربي، فضلا عن تطور ألمانيا تحت قيادة أدولف هتلر وظهور إيطاليا وأراجوزها موسيليني، وإبرام الكثير من المعاهدات والاتفاقيات التي انهار منها ما انهار وذهب إلى مزبلة التاريخ، وقيام منظمة الأمم المتحدة مقام عصبة الأمم ، هذا إلى جانب تاريخ السودان الحديث منذ الفتح التركي المصري في عام 1821 مروراً بالحركة بالمهدية وحكم الخليفة عبدالله إلى استعادة السودان. ومن ثم قيام الحكم الثنائي في عام 1898بمؤسساته وتطورانه الدستورية ،المجلس الاستشاري لشمال السودان والجمعية التشريعية إلى قيام الأحزاب السودانية.
الأستاذ محمد عبد الحليم(حفظه الله ورعاه ومد في أيامه)من أبناء مدينة "تبج" ، حاضرة منطقة "السكوت" في شمال السودان. وتقع شمال مدينة عبري جنوب مدينة "كويكه".كان إلى قصر القامة أقرب في تماسك عضوي ظاهر ونشاط جسماني ملحوظ، وقدر كبير من وسامة المحيا، تزيدها أناقة مظهره، وحسن اختياره لملابسه، بهاء على بهاء .أثناء فترة دراسته في كلية الخرطوم الجامعية اختير خلال العامين لأخيرَين لتولى سكرتارية ورئاسة اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعية على التوالي. وفي عام دراسته الأخير طالبا في مدرسة وادي سيدنا (1946)، في بداية عهدها الباكر، كان رئيساً للرؤساء طوال العام. وهو نظام كان يختلف عما عرفته حنتوب. فعندنا كانت رئاسة الرؤساء تكليفاً أسبوعياً بُكلف به الرئيس ا الأول لكل من الداخليات الثمانية بالتوالي حسب أسماء الداخليات (وفق الترتيب الهجائي للحروف الانجليزية بدءا من أبي عنجة ..أبي لكيلك. .علي دينار.. دقنة.. مك نمر.. ود ضيف الله.. ود نجومي..ثم الزبير وذلك قبل بناء داخليتي ود عدلان وجماع) . وكان تَوَلي أستاذنا حليم رئاسة اتحاد الطلاب في كلية الخرطوم الجامعية 1950سبباً مباشراً في إقصائه من مواصلة الدراسة في الكلية، وحرمانه من الجلوس للامتحان النهائي كطالب نظامي لنيل شهادة بكالوريوس الآداب من جامعة لندن التي حصل عليها عن جدارة كطالب خارجي. ذلك أن اتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعية كان قد تبنّى قضية فصل 119طالباً من مدرسة خور طقت الثانوية وهي ما تنفكّ في عامها الأول من عمرها. فقد أصر ناظرها على إبعادهم من المدرسة واصفاً نفسه في خور طقت كما "البابا في الفاتيكان". فلا سلطان لمدير مديرية كردفان أو مدير المعارف عليه رغم كل المحاولات لإثنائه عن قراره. وحا ذلك بلجنة اتحاد طلاب الكلية إلى إعلان إضراب طلابي شامل انتهى إلى إعادة 75 طالباً منهم إلى المدرسة رغم معارضة ناظر المدرسة لقرار وزير المعارف (ابن دفعته في كلية غردون) وإصراره على اعادة 75 منهم. هذا إلى جانب ما وصل إلى مسامعنا عن شخصية الأستاذ من انباء عن "كارزميته" وشجاعته في إبداء الرأي وإقناع الآخرين من مخالفيه طلاباً كانوا أو معلمين بالحجج الدامغة والمنطق السليم. في ذلك الصباح اشرأبت أعناق كل طلاب حنتوب لرؤيته حالما أعلن المستر براون اسمه مع اسم الأستاذ أحمد صلاح بخاري وتقدم الاثنان خطوتين إلى الأمام على مسرح حنتوب في اجتماع ذلك الصباح ألأغر. بطبيعة الحال فإن رئاسته لجنة اتحاد طلاب الكلية وقيادتها ذلك الاضراب الذى شارك فيه اتحاد العمال وساندته كافة قطاعات أهل السودان، زادته إجلالاً واكباراً في نفوس الغالبية العظمى من طلاب حنتوب. إذ كانت كلية الخرطوم الجامعية، وظلت لسنوات طوال بعد تحولها إلى جامعة الخرطوم في عام 1956، محط أنظار أهل السودان قاطبة بحسبان طلابها يمثلون صفوة المجتمع بأسره والأمل المشرق للسودان المتحد إرادة والزاهر مستقبلا ، فضلاً عن أن حصول الأستاذ على شهادته من منازلهم إثر فصله من الكلية، كان من بين المرتكزات التي اضافت إلى علو مكانته في نفوسنا نحن الحنتوبيين، وزملائنا في وادى سيدنا وغيرها من المدارس الذين كانوا على الدوام من المنادين بمغادرة البريطانيين أرض السودان، وسودنة وظائف إدارات المؤسسات التعليمية بما فيها كلية الخرطوم الجامعية على وجه الخصوص. وكان للإنجليز هيمنة كاملة على إدارتها وعلى مفاصل الجوانب ألأكاديمية فيها إلا من نفر قليل من السودانيين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة.
خلال عامنا 1952 تنامى إعجابنا بشخصية الأستاذ محمد عبد الحليم كمعلم متميز ومربٍ فاضل، بكل المقاييس، رغم حداثة سنه. فهو ى لم يكن قد تعدى السابعة والعشرين . وزاد ذلك الإعجاب كل حين على ما كان عليه من حيوية ونشاط دافق داخل الفصول وخارجها فضلا عن تمكنه من ناصية مادة التاريخ ومقرراتها المتعددة التي كان عليه تدريسها لطلاب سنة رابعه ابن خلدون وسنة ثالثة "بتهوفن" وغيرها من فصول السنة الثانية. كان ماهراً في إيصال تفاصيل المادة للطلاب في تحليل جاذب يعصف بأذهان مستمعيه. كما كان على الدوام يحث طلابه على عدم الركون إلى كتاب "تاريخ أوروبا" المدرسي بمفرده بل يجب عليهم السعي لاستزادة معلوماتهم من مصادرها الأساسية، مع تمحيصها، والاطلاع على الآراء المتعددة المتباينة، وإعمال الذهن فيها قبل الأخذ بها والتسليم لها. كانت مكتبة شعبة التاريخ تفيض بالمراجع العربية والإنجليزية مما كان يشكل اسناداً استراتيجيا للطلاب، وعونا لهم على البحث، والقيام بكتابة الملخصات بأنفسهم كضرب من التدريب على طرائق ومناهج التحصيل والدراسة الجامعية.
لم تكن حماسة الأستاذ محمد عبد الحليم طاغية للتدريس داخل الفصول فحسب ولكنها كانت لا تحدها حدود على مدى ساعات النهار والمساء في كل مجال يتصل بإصلاح مسارات الطلاب السلوكية. والأمر سواء تعلقت ذلك الإصلاح بانتظام هندامهم الرسمي ونظافته أو بما يتصل بحياتهم في داخليتاهم. كان كثير الاهتمام بأمر من كانوا يتعاطون لفافات التبغ "كاملة او مخمّسة" سعياً منه (دون اللجوء إلى متابعتهم لإلقاء القبض عليهم وهم متلبسين) إلى تذكيرهم بما قد يلحق بهم من أضرار صحية لعله كان يستقرئ المستقبل عنها. كان دائم الحديث عن مضار التدخين وآثاره السلبية على الصحة. وكان يشير إلى اهدارهم ما كان يبعثه اليهم آباؤهم وأولياء أمورهم مما يؤثرونهم به دون أنفسهم وبقية أفراد أسرهم من أموال قلّت أو كثرت. وهي المصروفات الخاصة تعينهم على الحصول على ما هم في حاجة اليه من كماليات الحياة في حنتوب حيث كانت كل الضروريات متوفرة لهم.
كان الأستاذ على ايمان راسخ بالهدف الأسمى من التعليم بخلاف الاستنارة المعرفية . كان على قناعة بان غاية التعليم في نهاية المطاف "تغيير سلوك الفرد إلى الأحسن". كان جل اهتمامه منصباً على إشاعة روح المحبة والود بين كل أفراد المجتمع المدرسى طلابا وزملاء مهنة وعاملين. لم يكن أستاذنا الجليل من بين المستخدمين للعصا من المعلمين طالما كانا للنصح والإرشاد والكلم الطيب والإقناع وسيلته في تقويم كل معوج من السلوك. رأيناه مشاركا دائما في المناشط المدرسة وبين طلاب دا خلية على دينار على وجه الخصوص حيث كان يقيم معهم "هاوسماسترا" فيها . شارك في تحكيم مباريات كرة السلة بين الداخليات، وفي كل منشط ثقافي أو فكرى يُثري النقاش بالمنطق السليم وسديد الرأي. وشهدت داخلية على دينار أثناء فترة إقامته فيها نشاطاً مكثفاً لا يزال يتذاكره طلاب ذلك الزمان الفريد. كيف ننسى تلك الأمسية الخالدة التي قدم فيها من بين فقرات برنامجها المتنوعة الهادفة البنود هدية طلاب حنتوب كافة للمستر براون بطريقة دراماتيكية ذكية وساخرة. كانت الهدية تقبع داخل صناديق فاقت العشرة عددا كل واحد منها داخل الآخر وهى ما تنفك في صغرها حجما كلما سعى المستر براوان بين الحاضرين، وهو يجاهد نفسه إلى حلحلة الأشرطة الملونة المحكمة الربط حول كل منها. وهى تذكرنا كل حين بقول إمرئ القيس :
كأن الثريا في مصامها شدت بأمراس كتان إلى صم جندل
وكان براون يزداد عجبا كلما بان له وجود صندوق أصغر داخل من هو أكبر منه، ولعلنا كنا جميعاً رؤساء الداخلية الثلاثة الذين شاركوا الأستاذ في إعداد الهدية بتلك الطريقة الفريدة. كان جمعنا في قمة التطلّع إلى معرفة الهدية. وفي نهاية المطاف دنت اللحظة الحاسمة عندما ظهر أصغر الصناديق حجماً بين قطع "الفلّين" تلفة أشرطة ذات ألوان متعددة. أخيرً قام المستر براون بفتح الصندوق تحت إصرار الطلاب على فتحه عندما هم بتركه مغلقاً، فأعلن أنه سيقوم بفتحه عند عودته إلى منزله. ولكنه رضخ تحت إلحاح طلابه وهو الذي عرفناه على الدوام لا يخذل طلابه طالما كان في مقدوره الاستجابة لما يصب في تحقيق رغباتهم.
فتح المستر براون الصندوق . وكم كانت المفاجأة له وللجالسين ينتظرون .. كانت قطعة واحدة من"المكرونة"!! تبسّم براون ثم رفع يده للحاضرين طالباً منهم الهدوء لسماع تعليقه على الهدية. فبعد أن شكر من قدموها له، قال إنه فهم مغزى تقديمها في تلك الأيام. ووعد قاطعاً على نفسه العمل على استعادة "الأرز" إلى موقعه بين قائمة الطعام بدلاً عن المكرونة. وبأسرع مما يُتوقع أعيد "ألأرز" و أصبح يُقدم كل يوم بين أصناف وجبة الغداء أو العشاء مصحوباً بقدر من العسل كضرب من ضروب التحلية إن لم يمكن توفير أي نوع من أنواع الفاكهة. ولكن لسبب من الأسباب تعذّر توفير الكميات المطلوبة من الأرز في سوق ود مدني مما دعا متعهد الغذاءات، بعد موافقة المستر براون، للاستعاضة بالمكرونة إلى حين توفر الأرز في الأسواق*. ولكن لم يستسغ الطلاب طعمها وفقدوا تلقائياً العسل المصفّى. ربما بدأت الاحتجاجات بين الطلاب تترى وبدأ يدور همس عن إضراب محتمل عن الطعام (عشان احتجاب الأرز والعسل!!!) فجاءت هدية قطعة المكرونة كإشارة ذكية ولفت نظر بضرورة عودة الأرز إلى قواعده ، وقد كان.
بعث الأستاذ حليم جمعية التاريخ إلى الحياة بعد ركود دام لعدة سنين. وكان ما أحدثته من حراك كبير في الحياة المدرسية أمراً أثار الإعجاب سنظل نتذاكره على مر الأزمان. تعدّد نشاط الجمعية فاشتمل على الأبحاث، وكتابة المقالات المتعلقة بسِيَر الأفراد من قدامى الشخصيات التاريخية من أهل السودان ذوي الدور البارز في صناعة الأمجاد الوطنية السابقة. وكان من بينهم ممن أُطلقت أسماؤهم على داخليات حنتوب. وساهمت الجمعية بتقديم الندوات وحلقات النقاش والمحاضرات والرحلات القصيرة ، ذلك بالإضافة إلى تقديم بعض الروايات التاريخية المشهورة، كان في مقدمتها رواية العباسة أخت الرشيد التي أبدع في تمثيل شخصية العباسة زميلنا عثمان مختار أبو قصيصة (عليه فيض من رحمة الله) . كما لن ننسَ بأي حال من الأحوال رحلتيّ التاريخ اللتين توجّه في إحداهما نفر من أعضاء الجمعية بصحبة الأستاذين الجليلين محمد المأمون الريّح وإبراهيم عبدالله إلى مدينة شندي وما حولها من مواقع تاريخية. كما حُظيت الأغلبية من أعضاء الجمعية برحلة فريدة امتدت قرابة ثلاثة أسابيع في صحبة الأستاذ محمد عبد الحليم ومدني الجزولي، مسؤول أول قسم الديوان والقلم (باش كاتب المدرسة). فقد استقل الطلاب المشرفون قطار الشمال إلى مدينة كريمة وزيارة جبل البركل أولاً، ثم عبْر النيل إلى مروي وما جاورها من مناطق تاريخية، ومنها بالسيارات إلى الخندق والدبة فدنقلا والقولد، فمدينة تبج(حاضرة مطقة السكّوت ومسقط رأس الأستاذ حليم)، ثم شماليها إلى مدينة عبري، ووصولاً إلى مدينة حلفا ومنها إلى الحدود المصرية السودانية عند فرص وأدندان، ذلك بالإضافة إلى زيارة بعض الجزر النيلية الزاخرة بالآثار التاريخية .
رغم أن الأستاذ حليم لم يدم طويلاً مجال التعليم، إذ غادره في عام 1953إلى قسم شؤون الموظفين، إلا أن آثاره وبصماته ظلت باقية في نفوس ووجدان كل من سعدوا بلقائه طلاباً على يديه في حنتوب ومن قبلها في وادي سيدنا .فكان لقسم شؤون الموظفين نصيب كبير في عطائه المتميز من بين أوائل الجامعيين الذين التحقوا بمصلحة المالية. وواصل تدرجه في وظائف قيادة قسم "شؤون الموظفين" إلى أن تغيّر مسمّاه إلى "ديوان شؤون الخدمة" فتقلّد فيه اعلى مناصب إدارته. ومن ثَمّ تلقّفته وزارة الخدمة والإصلاح الإداري كوزير دولة فيها بعد عطاء وفير في مجال "الرقابة الإدارية" ابّان العهد المايوي. كما وساهم بقدر عظيم من خبراته في إعادة بناء الخدمة المدنية في الصومال. وكان ختام إدائه المميز إشرافه على شؤون الموظفين بين كبار العاملين في" المصرف العربي بالسودان.". مد الله في ايامه ومتعه بالمزيد من الصحة والعافية في مكان إقامته الحالية في منطقة واشنطن الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.