قطر.. تنظيم دخول وخروج الوافدين وإقامتهم الصادرة    منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفث: قتل عمال الإغاثة أمرا غير معقول    عثمان ميرغني يكتب: معركة خطرة وشيكة في السودان    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    والى الخرطوم ينعى نجل رئيس مجلس السيادة "محمد عبدالفتاح البرهان"    قبل قمة الأحد.. كلوب يتحدث عن تطورات مشكلته مع صلاح    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    وفاة "محمد" عبدالفتاح البرهان في تركيا    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالفيديو.. الفنانة شهد أزهري تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بنيولوك جديد وتقدم وصلة رقص مثيرة خلال حفل خاص بالسعودية على أنغام (دقستي ليه يا بليدة)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. (فضحتونا مع المصريين).. رجل سوداني يتعرض لسخرية واسعة داخل مواقع التواصل الاجتماعي بعد ظهوره داخل ركشة "توك توك" بمصر وهو يقلد نباح الكلاب    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان: آفاق غبشاء (1-3) .. بقلم: علي عبد الرحيم أبو مريم
نشر في سودانيل يوم 11 - 06 - 2014

كثر استخدام الناس للعبارات من شاكلة "يمر السودان بمنعطف تاريخي" أو "السودان الآن في مفترق طرق"، وهي عبارات على الرغم من استخدامها الممجوج في كثير من الأحيان، إلا أنها – للأسف – صادقة في معظم الوقت. فالسودان منذ أن وعينا نحن وكثير من الذين من قبلنا لم تهدأ أنفاسه ولم تسكن أحواله وما برح يعاني ويلات الحرب وكبد المعاش والاضطراب السياسي حتى وقر – أو كأنه وقر – في صدور الناس أن هذه طبيعة الأشياء. وكان في ما مضى يتهيأ لقلة أن ترى الدنيا خارج السودان فيعودوا لقومهم مبشرين أن الحياة يمكن أن تكون خير مما أنتم عليه، ثم ضاق العالم من حولنا وتلاشت المسافات حتى بات الناس يرون على الشاشات كل يوم ما عليه غيرهم من رفاه واستقرار ما أرهق أهلنا بألم المقارنة. ولست أعني فقط الأموال والزينة – حتى لا يتهمني أحدهم بالشك! – ولكن كرامة الانسان وأمنه من الخوف واطعامه من الجوع. ما عدنا نقوى على التغاضي عن مضاهاة حالنا بحال غيرنا فما ننشده حق وليس منحة، ولئن كان التعذر لحالنا المؤسف وعوزنا للحياة الكريمة هو اختلاف ثقافتنا، فهي اذا ثقافة معطوبة وجب تغييرها،ولئن كانت حتمية تاريخية ستأحذنا – في يوم ما – الى الحياة الكريمة فعلينا استعجالها لا انتظارها، ولئن يئس بعضنا عن بلوغها لسنه لزمه أن يهيئها لعياله.
لا أحسب أن جدلاً سينشأ حول السمات الأساسية التي يحب الناس أن تكون في السودان المنشود، واستميح القارئ عذراً أن أفترضها. فالسودان المنشود هو بلد حر، بمعنى أن أهله أحرار يحكمهم من يشاؤون هم وعلى النهج الذي يرضونه هم (سمها ديموقراطية أو غير ذلك إن شئت). وهو كذلك بلد مكتف بذاته عن غيره، وهذا سيعني بحكم الواقع أنه بلد صناعي في المقام الأول وليس زراعي اذ لا يمكن للسودان أن ينهض اقتصاديا بوصفه بلد زراعي، وأسأل الله أن يزيل عن ثقافتنا هذه الخرافة التي لا يزال ينعق بها كل مسؤول! أخيراً فالسودان المنشود هو بلد آمن تنعدم فيه الحروب وتقل فيه الجريمة ويحيا أهله بكثير من المسالمة وقدر من الود والتراحم. للوصول الى هذا البلد المنشود فإن المسؤولية تقع على كل الناس، الحكومة والمجتمع ولا بد في ذلك من تغيير ثقافات أحكمت في الناس الخرافة وضيق الأفق واليأس المتلبس زوراً بلبوس القناعة. لابد أن تزول خرافة أن شعوبنا هذه لا تصلح لها الديموقراطية لخصيصة فيها. لابد أن تزول خرافة أن شعوبنا لا تصلح أن تكون شعوباً صانعة وهي الخرافة التي أسس لها ابن خلدون غفر الله له. ثم لابد أن تزول خرافة أن شعوبنا لا تصلح أن تعيش في قطر واحد لشدة اختلاف مكوناتها وتباين ثقافات قبائلها.
سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أرسم تطلعات لمستقبل السودان على ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة التحول من نظام الحكم الحالي والذي تزحم الأخبار في هذه الأيام بشائره وأرجو أن تصدق. المرحلة الثانية هي المرحلة الانتقالية، ولا أعني بها الانتقال في الحكم فقط وإنما فترة الاضطراب التي تصاحب كل تحول من نظام حكم شمولي الى نظام حكم ديموقراطي وهي فترة تمتد لسنوات داخل الحكم الديموقراطي نفسه أحياناً ويكون البلد فيها في أشد حالات ضعفه ويكون معرضاً دائماً الى العدوان الخارجي أو الردة الى الشمولية. المرحلة الأخيرة هي مرحلة النهضة بعد أن تستقر أحوال البلد وهي التي تشمل التغيرات الأصعب (التغيير السياسي هو الأهون!) وهي تغيير الثقافات المتخلفة والعادات المقعدة، هي مرحلة الحرية الفكرية بعد أن نال الناس الحرية السياسية.
المرحلة الأولى: ايجاد الأرض الثابتة
الخطوة الأولى المنطقية نحو سودان حر آمن ومكتف بذاته هي أن نحدد أين هو الآن، كم تبعد المسافة بينه وبين هدفه. نحن بحاجة الى تحديد صفر البداية لنتمكن من الانطلاق منه الى الامام. نحتاج الى أن نوقف التراجع قبل أن نحرز أي تقدم، ونحتاج الى أرض ثابتة لندفع عليها لإحداث الحراك. ولتحديد هذا كله فإنه يلزمنا جرد حساب السودان الحالي على أصعدة السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي ذلك تفصيل يناسب بحوثاً مطولة ولكني في هذا المقال أكتفي باشارات ترسم صورة عامة.
1. الوضع السياسي الحالي:
في السنوات الثماني والخمسون منذ الاستقلال حكم السودان عسكرياً سبعة وأربعون عاماً مقابل أحد عشر عاماً من الديموقراطية. فكل من هو دون الستين لم يولد في الديموقراطية الاولي أو كان طفلاً، وكانوا قصراً في الديموقراطية الثانية، فانحصرت بذلك خبرتهم السياسية في العمل الديموقراطي على ثلاث سنوات هي عمر الديموقراطية الثالثة. وكل من ولد في الانقاذ، أي دون الخامسة والعشرين – وهم الغالبية في البلد – فلا يملك أي خبرة في العمل السياسي الديموقراطي على الإطلاق، لذلك فلا غرابة أن من يقودون محاولة التحول نحو الديموقراطية الآن هم شيوخ فوق السبعين وبخبرة لاتزيد عن أحد عشر عاماً في ذلك!
السودانيون اذا يتحسسون مواقع اقدامهم في أرض لا دراية لهم بها. أقول هذا لندرك عسر الأمر الحقيقي، هذا طبعاً اذا أحسنّا الظن بالجميع – خصوصاً المؤتمر الوطني – أنهم يرغبون حقاً في هذا الانتقال.
ولعل الذين شهدوا سنوات الديموقراطية في السودان يذكرون ما شابها من ضعف وندرة في الانجاز، فكل ما كان يشغل السياسيين وقتها كان التكابد وزرع الفتن والتنازع على المناصب والسعي لتحسين الصورة ليس بتحسين العمل وإنما بتشويه صورة الخصم. لاشك أن الديموقراطيات كانت ضعيفة وضعفها كان في بعض الأحيان خطراً على البلد لظروف الحرب، ولكن الذي زاد من ضعفها هو قلة الصبر عليها، فالحكومات الشمولية تجب ما قبلها من إرث ديموقراطي وتعيد تشكيل الدولة بكاملها لتناسب شموليتها ما يعني أن أي انقطاع للمسار الديموقراطي يعني البداية من جديد وليس من حيث انقطع. تماماً كالذي يدفع بصخرة الى أعلى جبل فاذا تركها ليلتقط أنفاسه أو غفل عنها لأي سبب تدحرجت الى الأسفل وكان لزاماً عليه أن يعيد الكرة من جديد.
هراء هو كل ما يقال أن بعض الشعوب لا تجدي معها الديموقراطية، فالديموقراطية في جوهرها هي الحرية، والحرية أصيلة في كل انسان، أما الاستعباد فهو طارئ، وإن ارتضاه بعض الناس لطول عهدهم به فهو يظل طارئاً على النفس الانسانية وكل رضاً يسلب الحرية هو مرض يستدعي العلاج. هذا ليس على سبيل المجاز بل هو واقع، فمتلازمة ستوكهولم هي حالة مرضية تصف الحالة السيكولوجية التي تنشأ لدى الأسير تجاه الآسِر ويفسِّر فيها الأسير أي معاملة فيها بعض اللين من الآسِر بأنها إحسان يستحق التقدير، وينشأ بذلك نوع من الرضا والموالاة تجاه الآسر.
ليس من العسير أن تصنف حالة الكثير من الشعوب العربية بأنها مصابة بمتلازمة ستوكهولم، وتبقى الحقيقة أن هذا مرض يستدعي العلاج وغفلة تستدعي الانتباه، وكل ما نسمعه عن خصوصية ثقافتنا وعدم ملاءمتها مع الديموقراطية غير صحيح. والكلام عن أن ثقافة الديموقراطية تجذرت عند الغربيين بعد مئات السنين هو كلام عجيب، فكأنه دعوة لترك الحرية طالما أن الطريق إليها طويل! والاحتجاج بأن الثقافة القَبَليّة القائمة على حكم الزعيم الأوحد لا تناسب الديموقراطية هو خطأ من وجهين. أولاً إن صح هذا الزعم فهي اذا ثقافة وجب تغييرها كما أسلفت انتصاراً لحرية الانسان. ولكن – وهذا ثانياً – الزعم نفسه تزوير سوسيولوجي تاريخي. فالقبيلة لم تكن ديكتاتورية في طبيعتها بل كانت قائمة على الشورى ومجالس الحكماء، ولم يكن لزعيم القبيلة الحق في الانفراد بالسلطة اطلاقاً. وعندما جاء الاحتلال الاوروبي وتحديداً الانجليزي في السودان، قام الانجليز ب (تعيين) زعماء للقبائل (كانوا في كثير من الأحيان من غير القبيلة نفسها) ثم جمعوا في أيديهم السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، أي أنهم صنعوا ديكتاتورية قبلية مكان الشورى التي كانت سائدة، وغرضهم من ذلك كان تسهيل عملية الحكم عبر مناديب أهليين لهم سلطات مطلقة وهو ما أطلقوا عليه بعدها الاسم المضلل (الادارة الأهلية) (راجع كتاب محمود ممداني Citizen and Subject).
ربط الديموقراطية بالثقافة هو منهج قديم منذ أن ادعى بعض اليونانيين أن الشمولية تناسب آسيا (يعني فارس) والديموقراطية تناسب أثينا، ثم كلام ماكس فيبر عن تناسب البروتستانتية مع الديموقراطية على عكس الكاثوليكية، وكلام هنتجتون عن مشاكل الاسلام مع الديموقراطية وغيرها من الأفكار التي لا يلبث أن يكذبها الواقع. العالم الآن وبحسب تقرير منظمة Freedom House الصادر 2014 والذي يصنف العالم من حيث الحرية الى ثلاثة أصناف: حر، حر جزئياً، وغير حر. يقول التقرير أن 45% من العالم الآن حر، و30% حر جزئياً، ما يجعل العالم غير الحر ينحصر في الربع فقط والربع كثير!
هذا نجده بالمقارنة مع أول تقرير صدر للمنظمة عام 1975 حيث كانت نسبة العالم الحر 25% وغير الحر 41%. العالم الآن به حرية كاملة أو جزئية في كل القارات والحضارات والأديان والأعراق والثقافات. لا سبيل الى حصر الديموقراطية على صنف من الناس مهما تزين هذا الحصر بزينة البحث العلمي أو التنطع اللفظي، وأذكّر أن الكلام عن الديموقراطية هنا مقصود به قيمة الحرية وليس المنهج الذي تتجسد به هذه القيمة حتى لا ينزعج أولئك النفر الذين لا يحبون الكلمة بأبعادها الغربية. أما ترتيب السودان في التقرير فكان مع أسوأ الدول التي أحرزت أسوأ الدرجات في المعيار، بصحبة كوريا الشمالية والسعودية والصومال وغيرها.
وضع النظام الحالي في السودان لا يحسد عليه، فالنظام طوال 25 عاماً من الحكم أعاد هيكلة وتشكيل الدولة بالشكل الذي يضمن بقاءه في السلطة، فأفسد بذلك المؤسسات السياسية والعدلية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وكذلك الأمنية. ولأن الدولة هي في الأساس جهاز مجتمعي يتغذى على طاقة المجتمع ثم يعيد تغذية المجتمع في عملية تكاملية مستمرة، فإن التلاعب بهيكل الدولة يخل بهذه العملية وهو ما حدث خلال سنوات الانقاذ، حيث اعتمد النظام على الدولة وصار يتغذى عليها والدولة انقطعت جذورها عن المجتمع ولا تستطيع أن تجدد طاقتها. الآن النظام مهدد بالسقوط فجعل يزيد من تمسكه بالدولة الضعيفة – جراء استهلاكه إياها – وهي الآن تتداعى وتتهشم فيزداد تمسكاً حتى تنهار وينهار معها النظام. تماماً كمن تعلق بأغصان شجرة كان قد منع عنها الماء حتى صارت حطباً فهوت به!
انهيار الدولة هو كارثة ستحيق بكل السودانيين، لذلك فإن من مصلحتهم أن يدعموها حتى لا تسقط، ولكنهم بدعمهم إياها يطيلون عمر النظام المتعلق بها. والمعارضة التي ترجو زوال النظام لا تود أن ترث من بعده صومالاً آخر فغرضها الأول هو الحكم (استثني أصحاب الغبائن)، والنظام يعلم أن كل منافذه باتت موصدة الآن ولا سبيل غير التغيير ولكن الممانعة للتغيير ليست على مستوى النظام في جوهرها، بل هي على مستوى الأفراد. فمعظم أفراد النظام لديهم مصالح في بقاء الأمر على حاله لأطول فترة ممكنة إما خشية الملاحقة الثورية اذا حدث تغيير أو لمصلحة مادية أو لغير ذلك، فجماع هذه المحاذير الفردية يخلق ممانعة جمعية قوية لأي تغيير رغم القناعة المبدئية بضرورته العاجلة. أما الجماعات المسلحة فهي متنازعة ما بين تبني قضايا حقيقية لأهل الأطراف أو تبني أجندة خارجية لجهات ذات أطماع جيوستراتيجية واقتصادية، أو تبني نزعات عنصرية ليس من الحكمة انكار وجودها وهي فاعلة في نفوس الناس بالفرقة والتباعد.
في خضم هذا المشهد القاتم، وحيث الكل يترقب شكل التغيير القادم، أذكر مقولة كارل ماركس الشهيرة إن "القوة هي القابلة لكل مجتمع قديم يحمل في رحمه آخر جديد"، وهذا تحديداً هو المسار الذي ينبغي العمل على اجتنابه. فاذا أمكننا اجتناب الثورة الشعبية العنيفة أو التصعيد العسكري لحركات التمرد فإن خيار التغيير الباقي هو التحول الاختياري، أي أن يقوم النظام الحالي بتسليم الحكم طوعاً وباتفاق معلن وترتيب معلوم. وحيث الحظ في الفترة الماضية اعجاباً للمسؤولين السودانيين بالتجارب البرازيلية في المجالات الاقتصادية والادارية، فأنا أدعوهم للنظر في التجربة البرازيلية في التحول الديموقراطي.
هنالك شبه كبير بين الحالة البرازيلية والحالة السودانية من حيث التذبذب بين الديموقراطية والديكتاتورية والذي بدأ بانقلاب الجيش على العرش في القرن التاسع عشر واستمر مسلسل التبادل المدني العسكري حتى الانقلاب العسكري في عام 1964 والذي كان من المفترض أن يكون انتقالياً ويعيد الديموقراطية سريعاً ولكنه أحكم قبضته على البلاد(لاحظ التشابه!). لا يوجد اتفاق على دوافع جنرالات البرازيل للتحول نحو الديموقراطية وما اذا كان الاقتصاد هو العامل الاساس، ولكن مجموعة من ضباط الجيش الاصلاحيين يسمون بمجموعة السوربون (!) وافقوا على اجراء التحول بالتدريج على ضمانات بالعفو وعدم الملاحقة حيث تدرجت البلاد نحو الحرية من 1979 وحتى 1985 حين انتخبت البرازيل أول رئيس مدني لها. والذي ينبغي الانتباه له هنا هو أن التحول بدأ بعد ضمان العفو عن الحكام. هذه مهمة جداً لتوفير خروج آمن للنظام القديم وهي قاعدة عسكرية معروفة، فحصر العدو في مضيق يحمله على الاستبسال دفاعاً عن حياته والأفضل هو مفاوضته على التسليم مقابل العفو، فالدم ليس هو الهدف – عند الغالبية! – وإنما التغيير، وهذا الأمر أشار إليه الدكتور عبد الوهاب الأفندي في أحد مقالاته وهو جدير بالنظر، فالحوار الجاري الآن سيصطدم دائماً بتلك المحاذير الفردية، الخوف على النفس والمال والعيال والخوف من التشهير والمطاردة. فاذا أُجير أهل النظام في أنفسهم على الأقل ووصلوا الى تسوية فيما يرجح أنها أموال أخذت بغير وجه حق، أمكن عندها نزول النظام عن الحكم بيسر والانتقال بالبلاد الى عهد من الحرية.
2. الوضع الاقتصادي الحالي:
الوضع الاقتصادي الآن في السودان لا يقل سوءً عن السياسي فهما متلازمان، وبعد أن أفقرت السياسة الاقتصاد، أرهق الاقتصاد النظام السياسي فطفق ينشد المخارج. وقد ظل اقتصاد السودان منذ فجر التاريخ، أي منذ بضعة آلاف سنة يعتمد على الزراعة والرعي ولا يزال للأسف! والأسف مبعثه ليس فقط أنه اقتصاد فقير وضعيف، بل أن ثقافة السودانيين – حتى المثقفين منهم – وبعد ما يزيد على ثلاثمائة سنة على انتقال البشرية الى الصناعة، لا تزال ثقافة زراعة ليس لأن السودان يسعى الى (الصنعنة) ولم يصلها بعد، بل لأن السودانيين يظنون الصناعة والزراعة هي خيارات اقتصادية كلاهما صالح للنهوض بالامم، والاختيار بينهما يعتمد على ثقافة أهل البلد أو امكانات البلد الطبيعية أو البشرية. وأنا أبشر القارئ الكريم أن السودان سيظل ضعيفاً فقيراً ما دامت هذه الضلالة فاشية في أهله!
لاشك أن اقتصادنا الآن يعاني من الناحية الظرفية نتيجة صدمات داخلية وخارجية كالحرب والديون والأزمة العالمية وبؤس العلاقات الخارجية، ويعاني أيضا من ناحية هيكلية أو بنائية (structural) فهو اقتصاد ريعي يعتمد على الموارد الطبيعية وتصدير الخام والجباية الحكومية والتجارة الداخلية غير الانتاجية كالسمسرة وما شابهها من مهن. ولكن الاشكال الأكبر في تقديري هو أن اقتصادنا يعاني من الناحية الثقافية (cultural)، وتغيير المفاهيم هو أقسى أنواع التغيير. فالثقافة الاقتصادية في بلادنا لا زالت تقوم على قيم وتقاليد بالية. فالرعاة مثلاً يجعلون لأنعامهم قيمة ذاتية وليست اقتصادية حيث تكون كثرة الأنعام سبباً في مكانة اجتماعية أرفع دون تحويل هذه الأنعام الى مال يستخدم في الاستهلاك كشراء العقار أو تحسين مستوى المعاش في المأكل والملبس، وبهذا لا يدخل المال في دولة الاقتصاد. كذلك الأمر في مفهوم الأرض لدى المزارع حيث تأخذ قيمة ذاتية لا علاقة لها بما تنتجه الأرض فعلياً وإنما قيمة الإرث والتباهي الاجتماعي ولو كانت بوراً. بل إن الأمر يصل الى ما يظنه الناس قيماً مطلقة وأخلاقاً ثابتة كالكرم مثلاً، فمظاهر الإسراف في (إكرام) الضيف وموائد السمر والمناسبات الاجتماعية والصرف عليها بما يزيد كثيراً عن الحاجة مخافة الاتهام بالبخل أو بدافع قيمي صادق، كل ذلك يهلك فرص الأفراد والأسر في الإدخار الذي هو من أعمدة الاقتصاد الحديث. وحتى لا يساء فهمي هنا فأنا لا أتحدث عن الشهامة التي فيها إغاثة الملهوف والصرف على المحتاج، ولا حتى عن الكرم الوسطي غير المتجاوز الذي حض عليه الدين كاطعام الضيف قدر الحاجة، وإنما ذلك التنطع غير العقلاني كذبح الخراف لمريض القاوت أو تحلية الشراب لمريض السكر، فقط لإثبات أن (الخير موجود) أو دفعاً لتهمة البخل.
بعض هذه العادات بدأ يتغير الآن ولكن السبب في التغيير هو ضغط حياة المدينة على الناس، بينما المطلوب هو تغيير الثقافة نفسها نتيجة زيادة الوعي بين الناس. صحيح أن واقع المدينة قد يغير الثقافة على المدى الطويل ولكن لا داعي لإعادة اكتشاف العجلة، الأفضل هو تغيير الثقافة بزيادة الوعي عوضاً عن انتظار يد التاريخ لتؤدي واجباً نحن نعرفه الآن!
لقد ظل الاقتصاد السوداني منذ الاستقلال معتمداً على بنيات اقتصادية وضعها الانجليز، وقد وضعت آنذاك لمقابلة الصرف على الاحتلال وتصدير المواد الخام الى المصانع الانجليزية. ولم تتمكن الحكومات الوطنية من الإضافة الى هذه البنيات الشيء الكثير من حيث النوع. فقد قامت بعض المصانع ولم يصمد غالبها مع الزمن. ثم كانت العشر السمان للبترول والتي لم يُدَّخر منها الا النذر اليسير في شكل بنى تحتية وخدمات، والآن نجد أننا عدنا الى زمن الانجليز مع اختلاف الزيادة في الرقعة المزروعة والنقصان – المريع! – في الكفاءة الادارية.
السودانيون لم يشعروا بآثار هذه الصدمة كاملة بعد فهي ستتوالى على ظهورنا لفترة من الزمن. أظهر هذه الآثار هو التضخم الشديد الذي أصاب الاقتصاد في فترة قصيرة والنزيف المستمر لقيمة الجنيه السوداني وهذا له أثر قاس على المواطن كون غالب السلع الاستهلاكية واردة وليست منتجة محلياً. والحكومة الآن أعيتها الحيلة في دعم السلع الاستراتيجية ذات الكلفة السياسية العالية كالقمح والوقود وقد شهدت البلاد انقطاعات في هتين السلعتين سرعان ما تتداركها الحكومة بحلول يائسة ستنفذ جُعبة الحكومة منها قريباً، ما يعني أزمات في الخبز والوقود والكهرباء وموجة غلاء جديدة في السلع والخدمات.
إن أفقنا الاقتصادي قاتم حقاً، ولا أمل في الخروج منه في ظل النظام الحاكم لأن البقاء في الحكم شديد التكلفة والنظام يصرف على بقائه من مال البلد الشحيح جداً. النظام الآن يغرق، والشيء الوحيد الذي يتعلق به هو رقبة المواطن الذي يختنق، فإما حاول التخلص منه بالقوة وفي ذلك خطورة أن يغرق الجميع لأن النظام لن يفلته بسهولة، وإما أن يتعاونا للوصول الى أقرب أرض يابسة ثم يفترقان بعدها بإحسان.
لا بد أن ينظر المرء بعين الريبة تجاه كل ما تقوله الحكومة عن الوضع الاقتصادي في البلد. فالبرنامج الاسعافي الثلاثي فشل بشهادة النظام ولم يلقنِِ من كان يظن نجاحه! وإني لأعجب لمسالك الحكومة في أمر الاقتصاد، فالبرنامج الاسعافي يقوم على احلال الواردات والنهوض بالزراعة، ولكن كيف ستنجح الزراعة اذا كانت البذرة المزروعة والسماد الذي يغذيها والمبيد الذي يحميها والآليات التي تزرعها وترويها وتحصدها وتنقلها كلها مستوردة؟! المدخلات المحلية الوحيدة في عملية الزراعة هي الأرض وفيها من مشكلات الملكية ما فيها، والماء وفيه من مشكلات الري مافيه، والمزارع الذي يزرع في الغالب بذات الأسلوب والفهم الذي ورثه عن أحقاب بعيدة. ربما كان الأجدى بالحكومة التفكير في توطين مدخلات العملية الزراعية أولاً قبل أن تظن أن بامكانها احلال وارداتها. أوليس مدهشاً أننا نستخدم مدخلات مستوردة ذات قيمة مضافة لإنتاج وتصدير مادة خام ونظن أن ذلك يصنع اقتصاداً ناهضا؟! لا عجب اذا أن الأمر لم ينجح اطلاقاً على ما خطط له ولا أحسبه يفعل.
النظام يعيش حالة من النكران (denial) للحقائق من حوله، يشهد لذلك أنه ظل بعد انفصال الجنوب يسخّر أفضل عناصره الادارية – في نظره – لوزارة النفط ومؤسساته ولا أدري ما الدافع وراء ذلك. وكأن النظام لا يصدق أن البلاد لم يعد فيها نفط كثير – والذي تأسست بنيته التحتية والتشغيلية منذ سنوات – وكأن النظام يرجو أن يخرج رجاله الأشداء النفط من لا شيء! الحقيقة هي أن السودان عنده الآن مليار وربع برميل هي الاحتياطي المثبت وهذا يجعل ترتيبه في دول العالم رقم 40 (راجع موقع CIA). ولو نجح السودان في الوصول الى معدلات انتاج ما قبل الانفصال (500 الف برميل في اليوم) ليعيد الاقتصاد الى ما كان عليه في أيام عافيته المزعومة، فإن النفط سينفد في أقل من سبعة سنوات. ولو أننا قسمنا هذا الاحتياطي على عدد السكان فإن نصيب الفرد هو 33 برميل أو ما يعادل 3300 دولار، أي ما يعادل نثرية سفر أحد المسؤولين في رحلة قصيرة!
وحيث أننا أتينا على ذكر الاحصاءات، فلنفند باستخدامها المزيد من الأوهام حتى يتشكل لدينا وعي صحيح بامكاناتنا الحقيقية:
أما من حيث الامكانات الزراعية وإضافة الى ما ذكرته أعلاه وفي مقال سابق، فالزراعة تعتمد في الأساس على الماء، بمعنى أن السودان يمكن أن يملك من الاراضي الصالحة للزراعة ما شاء ولكنه اذا لم يملك الماء الكافي والميسور لزراعتها فلا فائدة في الأرض. السودان يملك معدل أمطار سنوي يبلغ 416 ملم (البنك الدولي) وهذا يضعه في الترتيب 146 من 176 في العالم، وليس تحته الا الدول الصحراوية. والاحصاء الاشمل الذي يحسب نصيب الدولة من المياه العذبة عموماً (أمطار، أنهار، جوفية، وغيرها) فإن حظ السودان منها هو 30 مليار متر مكعب (البنك الدولي) ما يضعه في المرتبة 95 في العالم. هذه الحقائق قد تكون صادمة ولكني أدعو كل من يقرأ هذا المقال أن ينظر في خريطة العالم الطبيعية فسيجد السودان في قلب ذلك الشريط الذي يحيط ببطن الأرض كالحزام وهو الحزام الذي يتعرض أكثر من غيره الى الشمس بحكم وضع الأرض تجاهها، وخريطة الأرض تتكون من ثلاثة ألوان، الأبيض في القطبين الشمالي والجنوبي، ثم الأخضر فيما يلي القطبين، ثم الأصفر وهو الصحراء في منطقة الوسط وهو موقع السودان وغالب الوطن العربي. وهذا هو السبب في أن السودان ربما يكون أفضل الدول العربية من حيث امكاناته الزراعية ولكن مرتبة أفضل السيئين هذه لم تكن ما درسناه في مدارسنا ولا ما يقال الآن في ثقافتنا العامة وعلى ألسنة المسؤولين. أرجو أن يفكر الناس ملياً في امكانات السودان الزراعية الحقيقية على ضوء الحقائق.
أما الذهب فيبلغ احتياطي السودان الطبيعي منه حوالي 940 طن (تصريح للرئيس منقول في سودان تربيون) وهو ما يعادل 1.7% من الاحتياطي العالمي الطبيعي. أما انتاج السودان فبلغ في 2012 46 طن وهو ما يعادل حوالي 2% من الانتاج العالمي لذات العام (المسح الجيولوجي الامريكي USGS) وهو انتاج لا يدخل السودان في مجموعة كبار المنتجين ال 15 في العالم. وال 2.16 مليار دولار التي عادت منه (تساوي حوالي 4% من الناتج القومي، قارن ذلك مثلاً بانتاج المكسيك الذي بلغ أكثر من 4 مليار دولار ويساوي فقط 0.38% من ناتجها القومي!) لا تقترب حتى من فجوة ال 7 مليار دولار التي تركها النفط مع انفصال الجنوب. علاوة على ذلك فإن الحكومة تملك 56% فقط من الذهب الذي استخرجته شركة لامانش (حوالي 2 طن)، وهي تشتري ذهب التعدين الأهلي (حوالي 45 طن) بسعر الدولار الموازي (حوالي 9.3 الآن) بينما تبيعه لشراء القمح بسعر 2.9 أي بخسارة 6.4 جنيه للدولار الواحد، وهو ما يتم تعويضه بطباعة العملة لتهبط قيمتها مجدداً. باختصار فإن الذهب يمنحنا الدولار بيد ثم ينزعه باليد الأخرى!
أما الثروة الحيوانية فالمعلومات حول ثروة السودان غير متسقة. اذ يقول موقع وزارة الثروة الحيوانية انها 140 مليون رأس، وهي 104 مليون حسب تقرير بنك السودان 2012، بينما يقول موقع الفاو أن الثروة في 2010 في السودان كانت 41 مليون (الفاو يحسب بالوحدة الوزنية وليس بالرأس حتى لا تحسب الدجاجة كالبقرة! ). على كل حال فالسودان رغم هذا التضارب الاحصائي يظل في الدول العشر الأولى من حيث القطيع، ولكنه يخرج من الريادة تماماً فيما يتعلق باقتصاديات الانتاج الحيواني. فالصادرات السودانية تخرج في الغالب حية – حوالي 2.7 مليون رأس تعادل 350 مليون دولار – مقابل 3.8 ألف طن من اللحوم المذبوحة تعادل 38 مليون دولار (بنك السودان 2012). يمكن مقارنة هذا بصادر الهند من اللحوم الذي بلغ في 2013 1.8 مليون طن متري تعادل 3.2 مليار دولار، لاحظ أن الهنود يقدسون الأبقار!
وإليكم بعض الاحصاءات زيادة في توضيح وضع السودان الاقتصادي. الدخل القومي السنوي للفرد هو 2600 دولار ما يضع السودان في المرتبة 182 على العالم. نسبة البطالة 20% - خمس السكان – بترتيب 162 على العالم. نسبة السكان تحت خط الفقر 46% - قرابة نصف السكان يعيشون على أقل من دولار وربع في اليوم! – (CIA). أما مؤشر التنمية البشرية Human Development Index والذي يجمع بين مؤشرات متوسط الأعمار ومستوى التعليم ومستوى الدخل فإن ترتيب السودان هو 171 من مجموع 195 في العالم. وأخيراً فإن ترتيب السودان في تقرير السعادة العالمي World Happiness Report الصادر عن الأمم المتحدة هو 124 من 156. وللقارئ أن يصدق هذه التقارير أو يكذبها كما يشاء ولكن لا أحسبها جميعاً توافقت على تشويه صورة السودان عمداً ومن كان منكم سعيداً فليرمها بحجر!
اذا أردنا أن نلخص وضع السودان الاقتصادي فيمكننا أن نقول إنه ضعيف. فهو يتزيل العالم في غالب المؤشرات الاقتصادية، وحتى من حيث موارده الطبيعية التي وهِم الناس زمناً أنها ستخرجهم من الضيق الى السعة، فالسودان غير متميز اطلاقاً لا في موارده المائية ولا المعدنية ولا البترولية، وتميزه في الثروة الحيوانية غير مستغل بسبب الثقافة الشعبية والتقصير الحكومي. وبأي حال فقد ذكرت في مقال سابق أن الاعتماد على الموارد الطبيعية هو خطأ منهجي. فحتى الدول الغنية جداً بمواردها الطبيعية ولديها تعداد سكاني قليل كالخليج واستراليا تعتبر دولاً غنية ولكنها لا تعتبر دولاً قوية مالم تؤسس قاعدة معرفية وصناعية صلبة لدعم اقتصاداتها متى احتاجت.
أقول ذلك لا لزرع اليأس في نفوس الناس وإنما لتبصيرهم بحقيقة أوضاعهم حتى لا نبني أحلامنا على أساس زائف فتنهار سريعاً تحت ثقل الواقع وحتى لا نظن أن هناك حلولاً سهلة لمشكلتنا الاقتصادية فنقعد عن العمل ونتمنى على الله الأماني. ولا حاجة لي بتذكير الناس بأمثلة كوريا واليابان لندرك أننا لسنا بحاجة الى موارد طبيعية للنهوض وإنما الاعتماد على الانسان. لا نريد أن نكون كالظمآن بقيعة يحسب كل سراب ماءً حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً فيقعده اليأس والظمأ، بل ينبغي أن ندرك أننا في صحراء واسعة فنقتصد في زادنا ونشد همتنا وعزمنا حتى نبلغ الأمان، هذا أو الهلاك المحتوم.
3. الوضع الاجتماعي الحالي:
السودان الآن يعيش وضعاً اجتماعياً انتقالياً حيث ينتقل الناس من القرية الى المدينة، ليس فقط بالمعنى الجغرافي وإنما الانتقال من المجتمع القروي الى المجتمع المدني، بمعنى الانتقال من الزراعة والرعي الى الصناعة والخدمات، ومن التجارة المحلية الى الرأسمالية والانتاج الواسع، ويعني الانتقال من المجتمع العشائري المرتبط بأواصر القرابة والرحم الى مجتمع واسع تختلط فيه الأعراق والقبائل بعقد اجتماعي وقانوني وتحت مظلة قومية. من هذا الوصف يمكن ملاحظة أن عملية (التمدن) هذه بدأت بشكل واضح في أيام الحكم البريطاني الذي أسس مفهوم المدنية الحديثة في السودان الحديث، فأسس الحكومة بمفهومها السياسي والدولة بمفهومها الاداري والمدينة بمفهومها الاجتماعي. وحيث أن الحكم الثنائي لم يمض على دخوله السودان أكثر من 115 عاماً، فإن المدينة في السودان لا زالت يافعة ولم تنضج بعد. ويمكن الآن لمعظم سكان المدن السودانية أن يتتبعوا أصولهم الريفية في جيلين أو ثلاثة بالأكثر، بمعنى أن الذي لم يهاجر بنفسه من الريف الى المدينة يكون أبوه أو جده هو الذي هاجر. يشهد لذلك أن نسبة سكان المدن هي 33.2% أي أن سكان الأرياف هم ضعف سكان المدن (2011 CIA). إضافة الى ذلك فإن هذا التمدن القليل هو تمدن شائه. فسكان الأرياف قدموا الى المدن دون أن يتركوا القروية، بل حملوها معهم الى المدينة فاستمروا في زراعة المساحات الصغيرة (الحواشات) حول المدن – حتى العاصمة – ورعوا الماشية وسكنوا في تكتلات قبلية أو جهوية، فكانت المدينة في كثير من الأحيان عبارة عن تجميع جغرافي لقرى متباعدة دون أن ينشأ عن هذا التجميع خليط متجانس أو ثقافة مدنية.
الثقافة المدنية كانت تصدر عن النخبة المتعلمة وأهل الأسفار ولكن مصدرها الأساس كان هو الدولة. لا ننسى أن المدينة هي في الأساس تقسيم إداري للتكتلات السكانية الكبيرة، وهكذا يأتي موظفو الدولة بثقافة وتقاليد مدنية فرضتها ثقافة الدولة القطرية الحديثة. هذه المؤسسات والنظم الادارية تغري القطاع الخاص الذي يتخذ أساليب مشابهة للتوسع وتسهيل إدارة الأعمال الكبيرة، فتنتشر بذلك طبقة الموظفين أو (الأفندية)، وتنتشر معها ثقافة المدينة. غير أن هذا التمدن يسير بخطى متثاقلة في مقابل دفق ريفي متسارع على المدن. والذي فاقم من ذلك هو جهاز الدولة، الراعي الأساسي للتمدن. فالدولة، سوى أنها نفسها جهاز مدني يبث المدنية عبر منسوبيه، هي الجهة المنظمة (regulator) لحالة الاجتماع المدني وهي المسؤولة عن تمكن هذا الاجتماع من الخروج كنسيج متماسك هو مجتمع المدينة. ولكن الدولة في السودان صنعها البريطانيون لأغراضهم ثم رحلوا فباتت من بعدهم ضعيفة واهنة لا تقوى على شأن نفسها ناهيك عن شأن الناس. والأدهى من ذلك أن النظام السياسي – الحالي تحديداً – لجأ الى القبيلة لتحقيق مآرب سياسية، فصنع بذلك ردة اجتماعية كبيرة بمنح القبيلة صفة اعتبارية والاعتراف بها ليس فقط كمؤسسة اجتماعية، ولكن كمؤسسة سياسية لها دور سلطوي. وبعد أن كان المجتمع المدني يكافح بصعوبة لتذوب القبيلة داخل المدن، منحتها الانتهازية السياسية صلابة جديدة وأصبح المجتمع المدني يكافح الآن حتى لا يذوب هو داخل القبيلة.
اذا فثلثي سكان السودان يعيشون في القرى والذين انتقلوا الى المدن انتقلوا باشكالات القرية واكتسبوا اشكالات المدينة دون كثير من محاسنها. فقد انتقلوا بالولاءات القبلية والاقتصاد ضعيف الانتاج واكتسبوا عادات الاستهلاك والتطلعات المدنية، فصاروا يطلبون خدمات المدينة دون أن يكون لهم انتاج أهلها، وصاروا يطلبون حظهم من الحكم والسلطان دون أن يتنازلوا عن الولاء للقبيلة أو يمنحوه للوطن الكبير. كل ذلك يجعل من المدينة السودانية ما يمكن أن يسمى – للطرافة – (قرينة)، نصف قرية ونصف مدينة وهي تقرن بين الحالين! وهي في انتقال مستمر نشهده جميعاً فيسعدنا أحياناً ويزعجنا أخرى. فقد يلاحظ المرء كيف اكتسب السودانيون بعض المسالك الحضارية التي كانت معدومة كأدب الاصطفاف وانتظار الدور، والتبسم لطالب الخدمة (فقط في بعض القطاع الخاص، لا زالت معدومة في الحكومة!)، ولين الطباع وتهذيب الكلام وترك الكثير من العادات الاجتماعية القروية المتخلفة في مناسبات الأفراح والأحزان. ولكننا أيضاً نشهد اشكالاً للجريمة لم تعرفها القرى اطلاقاً ربما معزاها غربة الناس عن بعضهم في المدينة وانعدام الإلفة وزيادة الحاجة، وهذا أمر يطول فيه البحث.
المراد هنا هو الإقرار بأن السودان لا يزال قطراً ضعيف التكوين وهو يعيش انتقالاً من كونه مجموعة قبائل متباعدة ذات ثقافات متباينة، الى كيان محتل ثم دولة وكأنها ظهرت الى الوجود كمساحة تركها الذين من حولها عندما رسموا حدودهم! كيان لاتجمع مكوناته قومية واحدة ولا يزال يبحث عن هوية وقد بدأت أطرافه في التنافر عن بعضها حد الإنقسام.
إن مثل المجتمع السوداني مع دولة السودان كمثل الروح الصبية في الجسد الهرم، فالروح يافعة متطلعة لا زالت تتنقل في أطوارها الأولى الى النضج بكثير من المغامرة والتقلبات ولكن جسدها الضعيف لم يعد يحتمل فبدأ يتداعى وأطرافه وأعضاؤه تنهار تباعاً حتى اذا مات الجسد انطلقت الروح تبحث عن جسد شاب يحملها ويحتمل صبوتها وهو لن يكون بذات صفات السابق ولا شكله ولكن ليس في ذلك بأس، لا بأس اطلاقاً إن أفلح هذا التزاوج في الانطلاق نحو المستقبل بقوة ودفع وأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.