وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    والي الخرطوم يشيد بمواقف شرفاء السودان بالخارج في شرح طبيعة الحرب وفضح ممارسات المليشيا المتمردة    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    محمد خير مستشاراً لرئيس الوزراء كامل إدريس    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    الشان لا ترحم الأخطاء    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغربة ...... الألم من على البعد (3) (4) .. بقلم: مجدي إبراهيم أحمد
نشر في سودانيل يوم 13 - 06 - 2014

مستشار قانوني – سلطنة عمان
[email protected]
( فما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل ).
( أبو الطيب المتنبي )
تسائلنا في المقال السابق عن ما أذا كان للهجرة والاغتراب عن الوطن والتعرف ببشر غير بني جلدتنا ، والاختلاط بثقافات مختلفة عن الثقافات التي نألف ، ورؤية أماكن جديدة ، بعضا من فوائد ؟! ، ولا بد قبل مواصلة السير في هذه السلسلة أن أعتذر لقارئ العزيز عن هذا الانقطاع الطويل الذي يؤثر بلا شك على حسن المتابعة وسلاسة التلقي ، ولكن عذري يعود لحزن غامر أجتاحني على الحال الذي وصلت اليه بلادنا والتقارير السالبة عن تردي الأوضاع المعيشية للسواد الأعظم من أهلنا هناك ،ومنظر الصبية المرعوبين المختبئين في كهوف الجبال جنوبي كردفان جراء الحرب الدائرة هناك بين قوات الحكومة السودانية وبين قطاع الشمال ، وصور شهداء سبتمبر 2013 الذين سقطوا مضرجين في دمائهم ابان الهبة الشعبية للخرطوم وبعض حواضر مدننا في السودان ضد نظام المؤتمر الوطني الحاكم في ذلك الشهر من العام الماضي ، ما أضحى معه أي حديث أو كتابة في موضوعات أخري ضرب من الترف .
عند وصولي لمسقط نهاية مارس من العام الفين لفت نظري للوهلة الأولى شيئان لطف المقابلة ونظافة مطار السيب الدولي ، والناس كأنهم مغسولين للتو بصابون حمام منعش الرائحة ، وخامرني أحساس بضآلة الجاكت الذي كنت أرتديه وذلك عند أستقبالي من قبل مدير مكتب المحاماة الأردني الذي كان في كامل أناقته ببدلة رمادية من الصوف الانجليزي من صنع ( بيير كارديان ) ، وهي الملاحظة الثالثة في أقل من ساعة وهي المسافة الفاصلة ما بين نزولي بمطار السيب ومغادرتي له في سيارة فخمة طراز ( أنفينتي ) برفقة مديري الجديد بادي الأناقة ، أذاً هي أولى الدروس في أول يوم غربة ، النظافة ولطف اللقاء والأناقة ويالها من دروس ! ،،
ثاني يوم لوصولي لمسقط وعند أستلامي للعمل أنصرف بصري تلقاء المكتب الذي سأجلس عليه وسيكون مكان عملي طوال سنوات ، فوجدت طاولة من الخشب السميك جيد الصقل وكرسي مدولب فخيم ومكتبة بها مراجع قانونية جلها بالانجليزية ، المكان أنيق عموماً ، وطاف بذهني عندها مكتبي المتواضع في عمارة كامل أمين ، شكل الكراسي المهترئة ومدخل البناية المتسخ وستات الشاي والصبية ماسحي الأحذية مهترئي الثياب، فقدان البناية للمرافق الصحية ، في مقابل بناية أنيقة وفخيمة ومكيفة حتى في المصاعد الفرق بين البيئتين شاسع ، وهو أمر يحسب لصالح الغربة ،،
لم يمر وقت طويل حتى أكتشفت أن ملابسي لا تصلح لمجاراة ما يرتديه الغير هناك من مختلف الجنسيات "وحالي في ذلك يشبه معظم زملاء المهنة القادمين حديثاً للخليج" ، وكنت حتى وقت قريب من مغادرتي الخرطوم أعدُ نفسي في زمرة الأنيقين ، سيما وأنني عملت في السودان بمهنتين يعد المظهر فيهما أساسياً : القضاء والمحاماة ، ولكن هذا الظن خاب في أول مقارنة خارج السودان، لكن سرعان ما تحسن ملبسي تدريجياً وبدأت خزانتي بالاعتياد على البدل الأوربية من ماركات عالمية ، والقمصان المنضبة الياقات وربطات العنق الأوربية ، والعطور الباريسية .
يشتكي العرب خليجين ومن جنسيات عربية أخرى من أن السودانيين يتحدثون بسرعة وبطريقة يصعب معها على غير السوداني متابعة و فهم معظم ما يقولونه ، أما أذا تحدث السوداني وهو في حال غضب فأن الأمر يذداد تعقيداً ، وهي أحدى الاشكاليات التي تواجه المغتربين والمهاجرين للدول العربية ، ولكن مع الوقت تخلص الكثيرين من هذه العلة وأصبح كثير منهم يستخدم لغة وسيطة بين الدارجي والفصحى وبعض من لكنات الأخرين .
من العيوب التي يكتشفها المهاجرين السودانين للخليج أو الغرب أن معظمهم لايحسن قيادة المركبات حسب أصولها خصوصاً من ناحية السلامة وكيفية التعامل مع الطريق ، ستكتشف سريعاً أنك تتكأ على حافة الباب و تخرج يديك خارج السيارة في وضع قد يسبب خطراً على سلامتك ، كذلك عدم الأستخدام الأمثل لمرايا الجنبات في السيارة ، ومسك المقود بيد واحدة ، والتأدب في التعامل مع المارة ، وتجنب استخدام الألفاظ النابية عند المخالفات المرورية ، ولو قلت لأي سوداني بعد سنوات من القيادة بالسودان أنه لا يعرف أصول القيادة سيعتبرك على أحسن الفروض أنك ( زول بتتكلم ساكت ) ، ولكن عندما يحضر الى الخليج ويكتشف أنه لا يعرف الا القليل من علامات المرور ، وأنه سيضطر للخضوع للتدريب لتعلم أصول القيادة مرة أخرى في مدارس متخصصة ، وأنه سيحتاج للأمتحان لمرات عديدة حتى يحصل على رخصة قيادة ، سيدرك حينها أنك ما كنت ( بتتكلم ساكت ) ، وسيتواضع ويقتنع بأنه فعلاً لم يكن يعرف أصول القيادة السليمة وفن التعامل مع الشارع والمارة والغير، وهي بلا شك من مزايا الغربة والهجرة والأختلاط بالآخر والتعلم منه .
يتعلم ويكتسب المهاجرين لخارج السودان قيم أخرى أهمها احترام الوقت وكيفية ادارته بشكل أمثل ، وتقدير قيمة العمل والأستئذان قبل التزاور ، والأهتمام بالرياضة ، ونوعية الغذاء وبالمجمل يتعلموا أهمية تحسين نوعية الحياة(Life Style) ، وهي قيم لا تجد كثيراً من التقدير في بلادنا ، ورغم أن كثيراً من الخليجين والعرب يتندرون على السودانين ويدمغوهم بمسبة الكسل ولكن الشاهد أن هذا الكلام يقال فقط لأجل التندر ، أذ أنه ثبت أمامهم وبالتجربة أن السودانين من أكثر الشعوب تقديراً لقيمة العمل وأخلاصاً له ، وقد ساهم خبراء السودان وفنييه وعماله في النهضة الكبيرة التي شهدها الخليج منذ بداية سبعينيات القرن الماضي . كما أن أختلاط المهاجرين السودانيين بالخبرات الأخرى وأطلاعهم على أحدث تقنيات العلوم وتوفر مصادر المعرفة وآلياتها ساهم في صقل مواهبهم وتغذية معارفهم وتطورها الأمر الذي يشكل رصيداً ومورداً بشرياً يمكن أن يساهم في نقل السودان تقنياً وعلمياً الى مصاف الدول المتقدمة أذا قدر لهم العودة لبلادهم ومنحوا الفرصة لذلك .
في طريقي للمطار للعمل بالخليج قال لي شقيقي الأصغر أنني أرتكب خطأ فادحاً بهذه الخطوة ، وأنه ان كان لابد من الهجرة فلتكن لأمريكا أو كندا أو أياً من الدول الأوربية ، وكان منطقه أنني مهما مكثت في الخليج سأكون مواطناً من الدرجة الثانية لايتمتع بأياً من المزايا والضمانات التي يتمتع بها المواطن الخليجي رغم ما أشكله من قيمة مضافة لأقتصاد البلد الخليجي الذي سأعمل به بحكم تراكم الخبرات وأمتلاك المعرفة ال (Know How) ، كما وأنه يمكن الأستغناء عني في أي لحظة مهما طالت سنوات عملي هناك ، أما الهجرة لدول الغرب فتضمن للمهاجر الحصول على جنسية البلد الذي أختاره بعد سنين قليلة يصبح بعضها مواطناً من الدرجة الأولى يتمتع بكامل أمتيازات أصحاب البلد من تأمين صحي ودخول في نظام ال (Well Fare) الى ضمان تعليم أبناءه في أفضل المدارس والجامعات بنظام القروض التعليمية الميسرة ، الى حق التملك وحرية الحركة وعدم الخضوع لنظام الكفالة المقيد والمنتقد من قبل منظمة العمل الدولية و المنظمات الرسمية والمجتمعية المهتمة بحقوق حقوق الانسان.
ورغم وجاهة رأي أخي الا أنني وبالتجربة لاحظت أن المهاجرين لدول الغرب من السودانيين قد ووجِّهوا بأختلاف ثقافات المهجر عن الثقافات التي أنحدروا منها والتي تنحو صوب المحافظة والتدين والتقيد بالتقاليد في المأكل والمشرب واللبس وغيرها ، مما حدا بالعديد منهم الى الهجرة مجدداً صوب الخليج " الأقرب لنا لغة وعقيدة وتقاليداً " حفاظاً على ابنائهم من الغزو الثقافي والاستلاب ، وبالتالي فعلوا مثل ما فعلت وغيري من الآف المهاجرين للخليج ، االفرق أن هجرات أمثالي كانت صوب الخليج أبتداءً بينما هاجر المذكورين الى الخليج عبر الغرب ولدوافع مختلفة يشكل العامل الأقتصادي فيها درجة أقل من العوامل السالف ذكرها .
(4)
في تتبعي لموضوع هجرة السودانيين وأثرها على حيواتهم وثقافاتهم وأنعكاساتها النفسية ، وجدت أن الدكتورة السودانية النابهة / رقية مصطفي أدريس عالمة الأنثروبولوجي والمحاضر بكبريات الجامعات الامريكية أصدرت سِفراً قيماً باللغة الانجليزية وثّقت فيه لهجرة البحارة من شمال السودان للعمل بالاسطول الأمريكي أبان الحرب العالمية الثانية بأسم : (Wondering Sudanese Migrants and Exiles in N. America ) ، وقد ترجم الكتاب الباحث الدؤوب في شأن السودانيين بالمهاجر الأستاذ / بدر الدين حامد هاشم تحت عنوان (مجتمع المهاجرين من بحارة السودان )، والكتاب توثيق لحياة هذه الشريحة من المهاجرين ، وقد أوردت فيه المؤلفة قصص غاية في التأثير والأنسانية ، والقصص تخبرنا عن أن جُلَّ هؤلاء المهاجرين كانوا من أثنية واحدة تقريباً تنتمي الى الدناقلة من نوبي شمال السودان ، دفعتهم ظروف الحياة الصعبة في موطنهم بدنقلا في عشرينيات القرن الماضي الى ركوب أعالي البحار الذي قادهم الى الأنضمام للأسطول البحري الأمريكي ( المارينز ) الذي كان يبحث عن جنود للقتال في صفوفه أبان الحرب العالمية الثانية ، وقد وجد الجيش الأمريكي ضالته في هؤلاء المقاتلين الأقوياء الذين أعتادوا على البحر بحكم عيشهم بجواره في بلادهم أقصي شمال السودان ، رغم أنهم ليسوا مقاتلين محترفين ولكن قد يكون لجذورهم القديمة التي تمت بصلة الدم للنوبيين رماة الحدق بدنقلا العجوز أبان عهد الفتوحات الأسلامية وللمهدوين أبان حركة التحرر الوطني الأول صلة ونسب يسرت أمر دخولهم معترك الحرب دون كبير عناء
كما تخبرنا الكاتبة بأنه وبأنتهاء الحرب حصل معظم هؤلاء المهاجرين الأمريكيين على الجنسية الأمريكية وأقام معظمهم بولاية بروكلين الأمريكية ، وقد ساعد هؤلاء على الأندماج في المجتمع الأمريكي أنتمائهم الى أثنية واحدة ، وأن تجاربهم في المهجر كانت قائمة على أساس من أنتمائاتهم العرقية والثقافية والدينية ، كما عبروا للدنيا الجديدة بهذا الأرث المستلف من بيئاتهم الأصلية ، أضافة لروح التكامل والتسامح التي تسِم السوداني بشكل عام والنوبي بشكل خاص ، كل تلك العوامل ساهمت في تماسكهم أمام المجتمع الجديدة وساعدت في تخطي صعوبات كثيرة واجهتم ليس أقلها العنصرية والنظرة المتوجسة للقادمين الجدد من قبل المجتمع الأمريكي الذي كان يعاني من العنصرية ورفض المهاجرين في ذلك الوقت .
وما لفت نظري ما أشارت اليه الكاتبة من عمق أحساس هؤلاء المهاجرين بما أسماه المترجم ب " الوعي العميق بالشتات " (Diasporic Consciousness ) ، وهو مصطلح أستوقفني كثيراً ، ولعل تمتع هؤلاء المهاجرون بهذا الفهم العميق يدل على عمق الثقافة الضاربة في نفوسهم ، رغم أن جُلهم لم يتلق تعليماً منتظماً ، وأفضلهم تلقى تعليم كتاتيب على رأي أبناء عمومتنا المصريين ، أو تعليم خلاوي كما هو الحال في قرانا ومدنّا في ذلك العهد ، هذا الوعي العميق بمعنى الدياسبورا أو الشتات أضافة لروح التسامح وألأرث المستلف من بيئاتهم الأصلية الذي أتسم بروح التكافل والتعاون ونجدة القريب والمستغيث ، والأحتفاء بالآخر وقبوله ولو كان غريبا " مصطفي سعيد / موسم الهجرة للشمال / للطيب صالح مثالاً " ساهم في أندماج هؤلاء المهاجرين في المجتمع الأمريكي المختلف كليةً عن مجتمعهم الأصلي المحافظ ذو السحنة والثقافة والتقاليد الواحدة ، مع الأحتفاظ بصلاتهم بمجتمعهم الأصلي " دنقلا" .
تمتع المهاجرين البحارة بوضع مالي جيد وفره لهم حصولهم على الجنسية الأمريكية ، وأمتلاك بعضهم لبنايات وعقارات تدر عليه دخلاً محترماً ، وكونوا الجمعية السودانية الأمريكية التي ساهمت في ترسيخ تماسكهم وتكافلهم في المجتمع الجديد كما ساهمت في مد يد العون للقادمبن الجدد لأجل تسهيل أقامتهم وأندماجهم بأمريكا ، كما أشتروا قطعة أرض وبنوا عليها مسجدا ، وفي ذات الوقت لم تنقطع صلاتهم بموطنهم الأصلي فظلوا محافظين على التواصل بين دنقلا وبروكلين ، معتمدين في ذلك أضافة لما ذكرنا آنفاً على مفهوم العائلة أذ : ( تعد العائلة موضعاً مهماً يمكن فيه أن يتوائم التاصل الثقافي مع مقتضيات البيئة الجديدة عن طريق رسالة العائلة لأنها تؤثر على سلوك أفرادها عن طريق التنشئة الأجتماعية ، يكون بمقدور المهاجرين الحفاظ على بعض من تراثهم الثقافي وأن ينمو من وعيهم بأرثهم العرقي ) ( المرجع السابق ) ، لذا تخبرنا قصصهم أنهم حافظوا على تلك الشعرة بين القديم والجديد ، التليد والحديث ، الأنفتاح والمحافظة ، فنهل ابنائهم من الثقافة والعلم والتكنلوجيا التي وفرتها لهم بيئتهم الجديدة دون أن ينسيهم ذلك قيم بلادهم الأصلية ، بل أن بعضهم حرص على تعليم ابنائهم الرطانة المحلية كتأكيد للتمسك بالهوية والانتماء ، وقد حافظوا بذلك على ما أسمته الكاتبة بالصلات المتعدية (Translational Linkage).
وقد عثرت قبل أيام على بوست منشور على صفحة د.يوسف الكودة الداعية الشهير ذي صلة بموضوعنا ، أّذ أورد صورة لقرية صغيرة في ولاية الينوي بأمريكا سميت بأسم ( دنقلا ) ، وقد عزا أحد الامريكان أن سبب التسمية يعود تكريماً لأحد السودانيين بالمنطقة كان (هاشاً باشأ وعفيف اليد واللسان .... ونسبة لسيرته العطرة تم تسمية القرية بأسمه ) ولعله يقصد بأسم المنطقة التي ينحدر منها ، وأيأً كان الأمر فالواقعة تثبت كيف يمكن أن تؤثر النشأة والسلوك على أفعال المرء وتقدير الآخرين له رغم أختلاف العرق و الثقافات و البلد .
ورغم ذلك يراودك بشأن المهاجر السوداني ذلك الأحساس الذي راود المتنبي والذي عدَّ غربته ضرب من الغربة التي ترفض الذوبان الا في نفسها ، وكأنه كان يقصد الأول حين قال :
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولاقابلاً الا لخالقه حكما
ولا سالكاً الا فؤاد عجاجة ولا واجداً الا لمكرمة طعما .
وبعد ، هناك حكايات أخرى عديدة عن سودانيين حققوا نجاحات باهرة في المهجر عندما توافرت لهم أسباب الابداع ومحفزاته ، وهوموضوع يؤكد أنه بقدر ما تؤثر الهجرة في الانسان السوداني يؤثر الأخير في المجتمع الذي يهاجر اليه وينتج من تكامل خِلال السوداني الكريمة مع الآخر مزيج هجين يتجسد في نوع من الأزوال "جمع زول" يشكلون قيمة مضافة لبلدهم ولبلاد الآخرين . وهوموضوع يحتاج لبحث منفصل ربما نعود اليه يوماً ما .
كلام ذو صلة :
في العام 1976 وفي برنامج عرض على الفضائية السودانية من تقديم الأستاذ / حسن عبد الوهاب حكى الموسيقار أسماعيل عبد المعين قصة لحنه الذي أصبح أحد أهم مارشات البحرية الأمريكية حتى الآن وهو المارش لمعروف ب ( كان درو ) أو ( الطيور فوق الرمم ) ! .
قال عبد المعين أنه في عام 1943 بينما كان متواجدا في ألقاهره قام بعزف لحن لجدته التي كان يسمعها تترنم به أثناء صناعتها أطباق القش من سعف النخيل وذلك بعد أن أجرى عليه الوزن الموسيقي :
خبر الحِلة داك صحيح كان دروا وما دروا
الطير تحوم حول الرمم كان دروا وما دروا
و قدم هذا اللحن (النوته ) إلى السفير البريطاني في القاهرة حيث كان السودان في ذلك الوقت تحت الاحتلال البريطاني وذلك على سبيل الدعابة والطرفة إلا أن السفير البريطاني سأل الموسيقار :" هل هذا اللحن بدون مقابل ؟" . فكان رد الموسيقار :" نعم بدون مقابل . "
بعد فترة من الزمن وفي عام 1952م وصلت رسالة للموسيقار من شخص اسمه عبد اللطيف ناقلا له طلب الحكومة الأمريكية بإعداد نفسه للاستماع إلى لحنه الذي قدمه للسفير البريطاني وحضور البروفة التي ستؤديها الفرقة الموسيقية للقوات البحرية الأمريكية . وتم الاتفاق على أن نقطة اللقاء في طبرق في ليبيا
في الموقع والمكان المحدد جاءت طائرة هيلوكابتر أمريكية إلى المكان وحملته ونقلته وحطت به على ظهر بارجة أمريكية في وسط البحر ، وعند الترجل من ألطائره وجد أن الفرقة الموسيقية الأمريكية جاهزة للعزف
عزفت الفرقة الموسيقية اللحن وكان مطابقا للتوزيع الموسيقي الذي اسمعه للسفير البريطاني حينها .
هذه الترنيمة السودانية هي موسيقى المارش العسكري الخاص بالبحرية الأمريكية حاليا .
وهي حكاية تعكس مدى تأثر الغير بما عندنا من ثقافات ، وتبرهن على أن هناك ما نستطيع تقديمه للعالم رغم فارق الأمكانيات ، وتعكس ما يمكن أن تفعله الهجرة من خلق تناغم وتداخل بين العوالم متخطية كل حواجز اللغة والمكان والزمان والثقافة الى آخره .
كلام ليس بعيد الصلة :
( قدم المرء يجب أن تكون مغروسة في وطنه ، أما عيناه فيجب أن تستكشف العالم ) – (جورج سانتانا )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.