بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقرير الأمريكي بشأن الاتجار بالبشر .. بقلم: عشاري أحمد محمود خليل
نشر في سودانيل يوم 18 - 06 - 2014


1) تقديم
بعد أيام قليلة سيصدر التقرير الأمريكي السنوي بشأن الإتجار بالبشر والاسترقاق، يونيو 2014. وستثور الثائرة في السودان، وفي عدد من الدول الأعضاء في الجامعة العربية. وستنتج وزارات الخارجية، والمنافذ الإعلامية ، ستنتج خطابا غاضبا يرفض هذا التقرير الأمريكي جملة وتفصيلا. وسيتم استدعاء السفير الأمريكي في أكثر من وزارة للخارجية لإبلاغه أو إبلاغها بعدم الرضا.
لكني أرى أنه إذا كان هنالك أمر وحيد يمكن أن يحدث فيه اتفاق وتوافق بين السودان والدول العربية الأخرى، من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية، من جهة أخرى، فهو هذا التقرير الأمريكي السنوي بشأن الإتجار بالبشر الذي ظل يصدر سنويا منذ العام 2001.
2) تعريف الإتجار بالأشخاص
فالإتجار بالأشخاص، مما هو الرق في أشكاله الحداثية، تُعرِّفه وزارة الخارجية الأمريكية على أنه العمالة القسرية والجنس التجاري القسري. وهو يدور داخل حدود الدولة، وعبر الحدود الدولية. جوهره الاستغلال الفظيع، وإخضاع الضحية عن طريق الغش والخداع والقهر. وله أربعة أشكال كبرى: العمالة القسرية، والإتجار في الجنس، والرق. بالإضافة إلى الإتجار بالأعضاء البشرية (وليس هذا من ضمن الأشكال المعتمدة في التعريف الأمريكي).
وكل واحد من هذه الأشكال الأربعة للإتجار بالبشر نجده متمثلا في وضعيات متكثرة، منها وضعية الخادمات المنزليات في بلادهن أو في دولة أجنبية. ووضعية العمال المهاجرين القانونيين وغير القانونيين في مجالات البناء والتنقيب والزراعة والرعي وغيرها. ووضعية الزواج بالصغيرات. وكافة أشكال الإتجار في الجنس. واستخدام الأطفال مجندين وخادمين في الحركات المسلحة وفي الميليشيات بما فيها الميليشيات التابعة للحكومات في اليمن والسودان وسوريا والعراق وليبيا والصومال.
ففي مثل هذه الوضعيات، يتعرض الرجال والنساء والأطفال لأفعال تسمى "أفعالا إتجارية". لأنها تتمثل عناصر أو مكونات في جريمة الإتجار. وهي الجريمة يتم تكييفها على أنها قد تشتمل على بعض أو كل من الأفعال مثل: مصادرة الأوراق الثبوتية من العاملين أصحابها؛ والحجر على الحركة؛ وعدم صرف المرتب الشهري؛والإيذاء الجسدي والجنسي؛ والقسر على الدعارة؛ والإدراج في الجريمة وفي تجارة المخدرات؛ وغير ذلك من أفعال غير قانونية. مما كله يجعل الضحية متاجرا فيها. فلا يعني الإتجار أن يكون هناك سوق للنخاسة كما هو معروف وثابت في التاريخ، بما في ذلك في تاريخ السودان وتاريخ بعض الدول العربية.
فالذي يحدد ما إذا كان الشخص ضحية للإتجار هو ممارسة التحكم في الشخص بما يرقى إلى الاستحواذ والملكية. وهذه المفهمة معبر عنها في "موجهات هارفارد وبيلاجيو بشأن تعريف الرق، 2012"، وقبلها في اتفاقية الرق للعام 1926 التي تؤطر للنظر إلى الإتجار بالبشر، في أشكاله الراهنة، على أنه هو الرق ذاته، بأم عينه، وإن كان رقا حديثا.
والخطاب الأمريكي الرسمي اليوم من قبل وزارة الخارجية الأمريكية يتحدث بصراحة عن أن الإتجار بالبشر هو "الرق الحديث". وينبغي أن ندرك أن هذا الخطاب الرسمي مرتكز على مسألة التعريف. مما هي المسألة يظل يدور حولها جدل متكثر في الجامعات الأمريكية. فيرفض بعض الأكاديميين تسمية الأشكال الإتجارية على أنها من نوع "الرق" الذي يخصصونه لأشكاله الكلاسيكية.
3) الحساسية السودانية والعربية إزاء موضوع الرق والتقرير الأمريكي
وهو هذا موضوع الإتجار بالأشخاص فرضت عليه حكومة السودان، وبعض الحكومات العربية، وخاصة تلك التي تعتمد دولها الإسلام كالدين الأساس لهداية ترتيب أمور الدنيا، حساسية عظيمة. وهي الحساسية لا تتسق مع التشوِّف إلى معرفة "الحقيقة"، مهما هي الحقيقة كانت مرة. أو هي الحقيقة كانت مركبة تركيبا في خطاب الدول الغربية المتصادمة مع الدول العربية بشأن عدة قضايا أهمها الإسلام ذاته وفلسطين وتعريف "الإرهاب".
وأنا سأحاج هنا بأن التقرير الأمريكي بشأن الإتجار بالأشخاص يمكن النظر إليه، موضوعيا، على أنه "إسلامي" النزعة بدرجة تكاد تكون متطرفة. خاصة في موقفه إزاء الدعارة بأشكالها المختلفة. بل هو التقرير الأمريكي في مواقفه القانونية إزاء الاستغلال الجنسي للأطفال يستبين كالأكثر تشددا، والأكثر تمثلا لاستفظاع الإسلام لهذا الجرم المبين، مقارنة بالقوانين الوضعية المسماة "إسلامية" ذاتها، أو تلك المستوحاة من مفهمة حاضرة للشريعة الإسلامية، في السودان وفي غيره من الدول العربية.
ومن ثم، فإن السودان، والدول العربية، المعتمدة للإسلام كأحد مصادر التشريع، أو كالدين الأساس، يمكن لحكومته وللحكومات العربية الأخرى أن تمعن النظر في التقرير، وفي قانونه، وفي دلالاته. ذلك بالنسبة للموضوع قيد النظر، هو الممارسات الإتجارية الثابتة استغلاليتها البشعة. وكذا بالنسبة للقوانين في الدول العربية بشأن الإتجار بالبشر وبالرق. ذلك قبل أن يبادر صحفيو ومتحدثو هذه الدول برفض التقرير الأمريكي دون إخضاعه للتفكيك والانتقاد.
4) القانون الأمريكي أساس التقرير السنوي
فالتقرير السنوي عن الإتجار بالأشخاص أساسه قانون أمريكي تحت مسمى "قانون حماية ضحايا الإتجار للعام 2000". وهو القانون صدر في عهد الرئيس الأمريكي كلينتون. وقد ظل الدعم الحزبي المشترك للقانون يأخذ أشكالا مثل إعادة التخويل بالعمل بالقانون بعد كل عامين أو ثلاثة، وتعديله بتقويته وبإضافة مواد حمائية جديدة فيه، وبتخصيص عشرات الملايين من الدولارات لتنفيذه، ليس في أمريكا فحسب، بل في العالم أجمع. وتم إدراج أشكال للإتجار في القانون شملت تجنيد الأطفال وزواج الصغيرات. وهو زواج الصغيرات سيثير جدلا عظيما، خاصة في اليمن الصديقة لأمريكا، وفي دول أخرى تنظر إلى سن الزواج، شرعا وقانونا، على أنها لا يمكن تقييدها بالاتفاقية الدولية التي تعرف الطفل بالسن دون الثامنة عشر.
وظل الديموقراطيون والجمهوريون في أمريكا متفقين في دعمهم للقانون بصورة مستمرة، ما عدا في العام 2012. لكنهم في نهاية المطاف اتفقوا على إعادة تخويل العمل بالقانون لمدة ثلاثة أعواما أخر في سياق حركة إجرائية ضمت القانون إلى قانون مكافحة العنف ضد المرأة، مما لا يجرؤ حزب على معارضته هذا الأخير.
وفي الإضافات الأخيرة للقانون المجاز ترد توجهات مستحدثة للمرة الأولى وتؤكد عزم أمريكا على المضي قدما بقوة، بل وبشراسة، في مكافحة الإتجار بالأشخاص في العالم. حيث يرد تكليف وزير الخارجية بتعيين ضباط إقليميين لمكافحة الإتجار بالأشخاص ملحقين بالسفارات الأمريكية، ذلك للمرة الأولى. وهؤلاء الموظفون الأمريكيون سيعملون مباشرة مع الحكومات العربية.
وكذا يرد في القانون الجديد أن أمريكا ستعقد عهودا طويلة الأجل مع بعض الدول، لابد منها بعض الدول العربية، لدعم برامجها لحماية الأطفال. مما سيكون تدخلا أمريكيا استراتيجيا جديدا في مجال "حماية الأطفال". وهذا المجال ظل مخصصا،بصورة تكاد تكون حصرية، لمنظمة اليونسيف. ولا شك أن أمريكا، بثقلها المالي والسياسي، ستجد دولا عربية كاليمن، ومصر، وموريتانيا، وغيرها، تكون مستعدة لإبرام مثل هذه الاتفاقيات الاستراتيجية طويلة الأمد. وقد تكون أمريكا ترغب في اتخاذ مجال "حماية الأطفال" (من العنف والاستغلال والتمييز والإيذاء والإهمال) تكؤة ترتكز عليها لتعبئة تدخلاتها بشأن الإتجار بالأشخاص.
5) محاور التدابير والتدخلات لمكافحة الإتجار بالبشر
يتلخص القانون الأمريكي لحماية ضحايا الإتجار في ثلاثة محاور لتدابير تقول الولايات المتحدة الأمريكية إنه ينبغي على كل حكومة أن تضطلع بها، معمِلة التعاون بين جميع الأطراف ذات العلاقة. وهي المحاور:
أولا، التعرف على ضحايا الإتجار، وإنقاذهم من وضعية الاسترقاق التي يعيشونها، في العمالة أو في تجارة الجنس، وتقديم الحماية لهم؛
ثانيا، التحقيق القضائي مع الأشخاص المتاجرين بالرجال أو النساء أو الأطفال، وتقديمهم إلى المحاكمة العادلة، وإدانتهم، وفرض العقوبات الرادعة ضدهم؛
وثالثا، اتخاذ التدابير اللازمة للوقاية ضد الإتجار بالأشخاص، كالتوعية والتدريب وسن القوانين وغيرها.
فيصعب على حكومة السودان، وعلى أية عربية "إسلامية"، أو حتى غير إسلامية، أن تختلف مع الأهداف الموضوعية الاستراتيجية لهذا القانون الأمريكي. فالحكومة الأمريكية هي التي بادرت بوضع الجهد والمال في سبيل تخليص العالم، بما فيه العالم الإسلامي، وخاصة العربي منه، من الرق الحديث.
ولا يغير من ذلك أن هذا الرق المستحدث يقال، دون دليل بين، أنه يطال ما يقارب أربعين مليونا من الأطفال والنساء والرجال في جميع دول العالم. فالثابت هو أنه لا توجد دولة تخلو من ضحايا للإتجار، من مواطنيها، أو من مواطني دول أخرى جاءوا إليها. بما في ذلك أمريكا ذاتها، وهي أمريكا تقر في التقرير للعام 2012 بأن نساء أمريكيات، وفتيات أمريكيات، هن من ضحايا الإتجار بالأشخاص في أمريكا ذاتها. وكذا هي تقول في التقرير الخاص بها إن نساء ورجالا وأطفالا أجانب كذلك يعيشون في الاسترقاق في العمالة القسرية وفي الدعارة القسرية في داخل أمريكا.
6) أبعاد الرفض العربي للتقرير الأمريكي
لكن الأمر لا تنتهي تعقيداته عند ذلك الحد أعلاه بإيراد الجوانب الإيجابية الطموحية في التقرير الأمريكي. فمثل هذه المبادرة الأمريكية لمكافحة الإتجار بالأشخاص، وبسبب أنها أمريكية، ستكتنفها إشكاليات، لا محالة. وكذا سيثور الجدل حولها بسبب مسائل إجرائية. وهذه أمريكية التقرير، والمسائل الإجرائية المصاحبة، هي ما سيظل يتشبث به الرافضون للتقرير الأمريكي.
فإن الرفض الحكومي السوداني والعربي للتقرير الأمريكي يمكن تلخيصه على النحو التالي:
أولا، يرد القول إن أمريكا ليست في حالة من المنعة الأخلاقية القطعية بحيث تحظى مبادراتها في مجال حقوق الإنسان بالتصديق، أو بالاهتمام، من قبل شعوب الدول العربية. بسبب أفعال الرئيس بوش ومساعديه مثل رامزفيلد في العراق. وبسبب مواقف أوباما المتراخية بشأن هجوم إسرائيل على غزة بعد انتخابه رئيسا وقبل تنصيبه. وبسبب الموقف الأمريكي الثابت، كذلك في عهد أوباما، في انحيازه المعلن لإسرائيل.وهنالك وضعية العرب المسلمين في جوانتانمو. وكثير من المسائل الخلافية الأخرى.
ثانيا، يرد القول إن التقرير الأمريكي ذاته تشوبه عيوب فلسفية وقانونية وبحثية منهجية. وإنه تقرير غير موضوعي.
ثالثا، يرد القول إن التقرير بل هو أداة سياسية وضعتها الإدارة الأمريكية، بدعم من الكونغريس، بيد الخارجية الأمريكية. لمعاقبة خصوم أمريكا، مثل حكومة السودان. ولتشويه سمعة الحكومات حيث الثقافات تختلف عن الثقافة الأمريكية، مثل السعودية واليمن. فتضع أمريكا هذه الدول وغيرها في المرتبة الثالثة في قائمة أسوأ الدول التي لا تمتثل للحد الأدنى من مقتضيات مكافحة الإتجار بالأشخاص. مما هي المرتبة الثالثة تنظر إليها الحكوماتالعربية (السودان والسعودية واليمن وسوريا وليبيا والجزائر والكويت، في التقرير 2012) على أنها تشويه لسمعتها العالمية.
فصحيح أن أمريكا ما عاد لخطابها ذات المنعة الأخلاقية مما كان في زمان الرئيس جيمي كارتر، أو ما يعبر عنه خطابها المبثوث إلى العالم بشأن حقوق الإنسان.وهي أمريكا يثير منتقدوها اليوم موضوعات ماضية وأخرى حاضرة. مثل إبادة السكان الأصليين، وهيروشيما، وفيتنام. ثم هنالك الفضائح المجلجلة بشأن فساد الشركات الأمريكية الكبرى، واحتيال النظام المالي الأمريكي، وفضيحة التجسس على المواطنين في أمريكا وفي الدول الأخرى، والقائمة طويلة ممتدة بدأت تشمل الاحتيال والجريمة حتى في أرقى جامعات أمريكا، من قبل بروفيسورات معروفين تبين أنهم يعملون في عصابات للسرقة من مخصصات المراكز التي يديرونها.
وصحيح أن التقرير الأمريكي فيه عيوب علمية. وبعضها العيوب أشار إليها الأمريكيون قبل الآخرين. وظلت الإدارة الأمريكية تصححها تباعا في التقارير السنوية المتتابعة.
وصحيح أن التقرير، في بعض أبعاده، يتصير أداة للدبلوماسية الأمريكية.فمن حيث موقعه في وزارة الخارجية الأمريكية، متعاونة مع وزارات أخرى، تضحي تداخلاته مع الدبلوماسية الأمريكية، خاصة وأنه أمر عبر حدودي بطبيعته، أمرا مفروغا منه، وهو تحصيل حاصل.
علما أن جهود أمريكا في مكافحة الإتجار بالأشخاص لم تنجح بصورة كافية. مقارنة بمئات ملايين الدولارات التي بذلت ووصلت إلى نصف بليون دولار خلال عقد من الزمان..
لكنيلا أرى في أي من ذلك أعلاه عيبا أساسيا يقتل المشروع الأمريكي لمكافحة الإتجار بالأشخاص. وأرى أن أشكال الاعتراضات على التقرير الأمريكي أدخل في المغالطة منها في المحاجة العقلانية المسببة. فهذه الحكومات العربية ومنها حكومة السودان تُظهر أفعالها، بما في ذلك إحجامها عن فعل ما هو ضروري، أنها قد تكون في وضعيات المتغاضي، وأحيانا المتواطئ، بشأن فظيع جرائم الاسترقاق تدور في مساحة الدولة وعبر حدودها. وهي الردود بالمغالطة غير مجدية. إضافة إلى أنها تفاقم خطر الوضعيات الإتجارية في هذه الدول.
فبشاعة الإتجار بالأشخاص لا يمكن التغاضي عنها بنوع ردود المحتجين ضد التقرير الأمريكي. وهو الإتجار موضوع جامع يمس جميع الدول العربية، وغيرها، من الناحية الوقائعية. وهو يصدم الضمير الإنساني. وهو أمر لا يمكن الانتظار بشأنه. عبر التقرير الأمريكي أو بدونه.
7) البعد العبر حدودي في التقرير الأمريكي
إن أغلب الاعتراضات تتضاءل أمام أن أمريكا، في جميع الأحوال، وفي نهاية الأمر، هي التي بادرت بهذا التدخل القوي ذي البعد العالمي للتعامل مع قضية إنسانية بطبيعتها عالمية وعبر حدودية.
فالمتاجرون المستهدِفون للأطفال والنساء ولفقراء الرجال يديرون تلك تجارتهم السرية عبر الحدود الدولية. وهم لتعزيز تجارتهم يوظفون أدوات الحداثة في الأنترنيت والهاتف النقال ووسائل النقل، وكثير من ما هو من مستخرجات العولمة.
ولغلبة الطبيعة العبر حدودية على وضعيات الإتجار في العمالة القسرية، وفي الدعارة القسرية، وفي الخدمية المنزلية الإجبارية، وفي تجارة الأعضاء البشرية (مما ليس في القانون الأمريكي، لكنه من اهتمامات التقرير الأمريكي) كان لابد أن يكون الحل عبر حدوديا أيضا.
مما يعني أنه لن تنجح أية دولة عربية، أو غير عربية، لوحدها، في معالجة "مشكلتها" الخاصة بشأن الإتجار بالأشخاص داخل حدودها الجغرافية.
ومن ثم، تستبين عدم كفاية وعدم فاعلية خطط العمل الوطنية الراهنة لمكافحة الإتجار بالأشخاص في الدول العربية. وفي أمريكا ذاتها، التي أصدرت في العام الماضي مسودة لخطة العمل الوطنية الأولى لحماية ضحايا الإتجار والاسترقاق في أمريكا. وفي تقديري هي خطة ضعيفة، ابتداء. وتتطلب تعديلات جوهرية في الإطار المفهوماتي لكيفية التعامل مع الوضعيات الإتجارية.
فالبديل في تقديري هو "خطة العمل العبر-حدودية لمكافحة الإتجار بالأشخاص". وهي الخطة المرتكزة على ستة محاور جوهرها تصميم الحلول العملية للتعامل مع الإتجار بالأشخاص: دراسات وضعيات الإتجار وتحليلها، اعتماد السياسة الوطنية لمكافحة الإتجار بالأشخاص، حماية الضحايا، تدابير الوقاية بشأن المجتمعات المحلية التي يعيش فقراؤها في مسارب خطر الإتجار والاسترقاق، تدابير العدالة، والبنيات الإنفاذية. فأفارق المفهمة الأمريكية لكيفية معالجة الإتجار بالأشخاص، في بعض أبعادها التي نجدها ممثلة في التقرير الأمريكي السنوي..
8) النظام المراتبي للدول
من أهم خصائص التقرير الأمريكيهو النظام المراتبي للدول في سلم تقييم جهودها في مكافحة الإتجار بالبشر. وهذا النظام المراتبي مؤسس على ما يسميه التقرير الأمريكي "الامتثال للمعايير الدنيا لمكافحة الإتجار بالأشخاص". وهو مدى امتثال كل حكومة لما يستند عليه التقرير الأمريكي في تصنيفه للدول، بما فيهاالعربية، كلا على حدة، وغيرها، في المراتب الأربعة (التقرير 2012 مثالا، هنا):
المرتبة الأولى، وهي الأفضل، فيها الدول التي تمتثل حكوماتها بالكامل للمعايير الدنيا في قانون حماية ضحايا الإتجار (ولا دولة عربية واحدة؛ بينما من بينها: أمريكا، إسرائيل، الدول الأوروبية التقليدية فرنسا وإنجلترا وألمانيا، والدول الإسكندنافية، وموريشس الجزيرة الصغيرة، وغيرها)؛
والمرتبة الثانية، هي الدول التي لا تمتثل حكوماتها بالكامل للمعايير الدنيا في قانون حماية ضحايا الإتجار، ولكن تلك حكوماتها تبذل جهودا مقدرة لتكون ممتثلة لتلك المعايير الدنيا: (قطر، مصر، عمان، الإمارات، الأردن، تونس، والمغرب)؛
والمرتبة الثانية تحت المراقبة، هي الدول لا تمتثل حكومتها بالكامل للمعايير الدنيا في قانون حماية ضحايا الإتجار، ولكن تلك حكوماتها تبذل جهودا مقدرة لتكون ممتثلة لتلك المعايير الدنيا.وفوق ذلك، في هذه الدول:نجد أن العدد الكلي لضحايا الأشكال الفظيعة للإتجار كبير جدا أو هو في ازدياد بصورة مضطردة؛ وكذا نجد أنه إما هنالك فشل في تقديم البينات بشأن الجهود المتزايدة، مقارنة بالسنة الماضية، لمكافحة الأشكال الفظيعة للإتجار، أوأن تحديد كون البلد يبذل جهودا مقدرة للامتثال للمعايير الدنيا كان مرتكزا على "التزام البلد بأنه سيتخذ خطوات مستقبلية إضافية خلال العام القادم (التالي) (العراق، البحرين، لبنان، موريتانيا، جيبوتي، جزر القمر).
والمرتبة الثالثة هي للدول التي لا تمتثل حكوماتها بالكامل للمعايير الدنيا في قانون حماية ضحايا الإتجار، ولا هي تبذل جهودا مقدرة لتكون ممتثلة لتلك المعايير الدنيا (السعودية، السودان، الكويت، الجزائر، ليبيا، سوريا، واليمن). وهذه المرتبة الثالثة تراها الدول المرتبة كذلك على أنها من نوع إشانة سمعتها العالمية.
ونلاحظ أن المرتبة الثانية تحت المراقبة والمرتبة الثانية ليستا صك براءة للدول المرتبة هكذا. فيبقى عليها هذه الدول أن ترتقي بمبادراتها وتدخلاتها إلى مرحلة كيفية أفضل وصولا إلى المرتبة الأولى.
9) المعايير الدنيا للامتثال لمقتضيات مكافحة الإتجار بالأشخاص
فما هي هذه "المعايير الدنيا" التي تتحدث عنها أمريكا؟ والتي على أساسها ترتب أمريكا السودان والدول العربية، وغيرها؟ بل وهي أمريكا تهدد تلك الدول بأنها أمريكا، وفق القانون الأمريكي، قد تمنع عن تلك الدول بعض المعونات غير التجارية وغير الإنسانية. وبها قد تعاقب أمريكا الدولة المعنية، كما فعلت بالسودان.
تتلخص المعايير الدنيا في أربعة محاور، رابعها هو المحور الأهم:
(1) أن تحظر الحكومة [قانونا] الأشكال الفظيعة للإتجار في الأشخاص، وأن تعاقب الأفعال الإتجارية؛
(2) أن تفرض الحكومة على الأفعال الإتجارية عقوبات تضاهي عقوبات الجرائم الخطيرة،مثل الاعتداء الجنسي القسري، أو الاغتصاب؛
(3) أن تفرض الحكومة عقوبات تكون من الشدة بدرجة كافية بحيث تكون رادعة؛
و(4) أن تنفذ الحكومة "جهودا جادة ومستمرة للقضاء على الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص".
واعتمدت الإدارة الأمريكية عشرة مؤشرات لقياس هذه"الجهود الجادة المستمرة للقضاء على أشكال الإتجار الفظيعة"، في (4) أعلاه. وهذه المؤشرات هي عصب التقييم لكل دولة على حدة، ووضعها في مرتبة في السلم المراتبي المثير للجدل، والمثير لحنق الحكومات العربية التي لا تحظي، مثلها مثل إسرائيل مثلا، بالمرتبة الأولى.
فإلى مؤشرات الامتثال للمعايير الدنيا لمكافحة الإتجار بالأشخاص:
1. ما إذا كانت الحكومة تحقق بهمة وتُخضع للمحاكمة أفعال الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص؛ وتصدر الأحكام وتوقع العقوبات
2. ما إذا كانت الحكومة تحمي ضحايا الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص، وتشجع تقديمهم المساعدة في التحقيق وفي المحاكمات لذلك الإتجار بالأشخاص؛ بما في ذلك تقديم الحكومة لهؤلاء الضحايا البدائل القانونية لترحيلهم إلى بلاد يواجهون فيها الانتقام أو العنت، وكذا ما إذا كانت الحكومة تضمن أن الضحايا لا يتم حبسهم بصورة غير صحيحة، ولا يتم تغريمهم، ولا يتم تجريمهم حصرا بسبب أفعال غير قانونية اقترفوها كنتيجة مباشرة لكونهم متجر فيهم.
3. ما إذا كانت حكومة البلاد اتخذت تدابير لمنع الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص، مثل تدابير لإعلام الجمهور، والضحايا المحتملين، ولتثقيفهم عن أسباب ونواتج الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص، وغيرها.
4. ما إذا كانت الحكومة في البلاد تتعاون مع الحكومات الأخرى في التحقيق والمحاكة بشأن الأشكال الفظيعة للإتجار
5. ما إذا كانت الحكومة في البلاد تبعد وتسلم الأشخاص المتهمين بأفعال الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص، ذلك وفق ذات المعايير وإلى ذات الدرجة كما بشأن الأشخاص المتهمين بجرائم خطيرة أخرى
6. ما إذا كانت الحكومة في البلاد ترصد أنماط الهجرة والاغتراب بحثا عن أدلة للأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص، وما إذا كانت هيئات إنفاذ القانون في البلاد تستجيب لأي نوع من مثل هذه الأدلة بطريقة تكون متسقة مع التحقيق بهمة والمحاكمة لأفعال ذلك الإتجار، ومتسقة أيضا مع حماية حقوق الإنسان للضحايا.
7. ما إذا كانت الحكومة تحقق بهمة وتقدم للمحاكمة وتصدر الإدانات وتوقع العقوبات وتتخذ كافة الاجراءات الأخرى ضد الموظفين الحكوميين الذين يشاركون في الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص أو يسهلونها.
8. ما إذا كانت النسبة المئوية، للأجانب ضحايا الأشكال الفظيعة للإتجار، من مجموع الأشخاص المتجر بهم في الدولة، نسبة قليلة.
9. ما إذا كانت الحكومة في البلاد، ووفق قدراتها، ترصد بصورة منتظمة جهودها لتلبي المعايير الموصوفة في الفقرات من 1 إلى 8 أعلاه ، وما إذا كانت تنشر تقديرا دوريا حول جهودها تلك.
10. ما إذا كانت الحكومة تحرز تقدما جادا ومستمرا لتخفيض الطلب على الأفعال الجنسية التجارية، ولتخفيض الطلب على المشاركة من قبل مواطني الدولة في السياحة الجنسية العالمية.
فيستبين أن هذه المعايير الدنيا هي حقا دنيا. ولا يمكن لأية حكومة عربية أن تتعلل بأنها تدابير مستحيلة أو صعبة.
إن النقطة الأساس ليست هي القضاء كلية، بين ليلة وضحاها، على الإتجار بالأشخاص. بل هي في بذل الحكومة ما هو ضروري وممكن تحت المحاور الثلاثة: حماية الضحايا، ومعاقبة المتَّجرين، والمنع الوقائي ضد مشكلة الإتجار بالأشخاص. وبه يتم ترتيب الدولة في الدرجة الأولى.
10) بساطة التدابير الأمريكية المقترحة على الدول العربية
إن التدابير المقترحة في التقرير الأمريكي على الدول ومنها السودان والدول العربية لهي أحيانا لمن البساطة إلى درجة تثير الاستغراب.
فما الذي يجعل القاضي في السودان وفي الدولة العربية يعاقب المرأة التي تم قسرها على الدعارة في سياق الإتجار بها،فيحكم عليها بالمادة لجريمة الزنا؟ لتأتي أمريكا فتقول له يا قاضي الإسلام إن ذلك ينبغي إعادة النظر فيه؟
فلكأنما الفقه الإسلامي لم يعرف هذا الأمر البسيط المتصل بإسقاط العقوبة في حالة الإكراه. ولكأنما الإمام علي بن أبي طالب لم ينصح الخليفة عمر بن الخطاب بأن لا يقيم الحد في المرأة النؤوم قالت إن رجلا غريبا لا تعرفه وقع عليها وواقعها وهي نائم، فهي مكرهة. ومما هو الإكراه من البدهيات في الصنعة القضائية.
وما الذي يجعل الحكومة السودانية أو أية حكومة عربية، وتحديدا الحكومات الخليجية، تنتظر أن تأتي أمريكا لتذكرها بأهمية أن يعامل مواطنوها ومسؤولها الأمنيون الخادمات الفقيرات المهاجرات من إثيوبيا بطريقة تحفظ كرامتهن؟ بينما إثيوبيا هي التي كانت يوما اختارها الرسول الأعظم، من بين جميع دول العالم، ليرسل إليها ابنته رقية، زوجة عثمان ابن عفان. وكذا هي إثيوبيا التي كانت الملاذ الآمن لأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم لاحقا. كلتاهما كانتا مهاجرتين في إثيوبيا الحبشة. وفيها تحصلتا على الحماية الكافية لدى النجاشي حاكم الحبشة. الحماية من أفعال الكفار الظالمين عندئذ في ذلك الزمان في ما هي اليوم المملكة العربية السعودية؟
وما الذي يمنع الحكومات الخليجية من أن تفهم، من تلقاء نفسها، ودون أي حفز من أمريكا، أن نظام الكفيل ينبغي النظر بجدية في العمل على تغييره؟ لأنه هذا النظام يظل يتم استغلاله من قبل المواطنين بصورة غير مقبولة. إيقاعا للظلم على فقراء العمال الأجانب. ولأنه نظام الكفيل لا مكان له في دولة الحداثة. وفي سياق تتعرض فيه مفاهيم العلاقة بين المكان والمواطنة إلى الانتقاد.
وما الذي يمنع الجزائر، في المرتبة الثالثة، وهي اليوم من أغنى دول العالم بلغ احتياطي النقد الأجنبي لديها مائتي مليارا، من أن تسهم بالقليل من الكثير الذي تملك، لمساعدة ضحايا الإتجار بالأشخاص من فقراء المهاجرين من الدول الإفريقية الخائبة في مالي والنيجر وغيرها؟
وما الذي يمنع حكومة السودان أن تقدم التمويل الكافي لمكافحة الإتجار بالبشر ولتقديم الدعم لضحاياه؟ وهي تهدر المليارات في حروبها اليائسة وفي تمكين أجهزتها القمعية والقضائية الفاسدة؟
هذه الأسئلة الاستنكارية قصدت بها استفزاز الفكر السوداني والفكر العربي، حفزا لحكومة السودان وللحكومات العربية، مهما كان الرأي فيها، أن تتعامل بهمة مع شأن يطغى على جميع الخلافات، هو الإتجار بالأشخاص والاسترقاق.دونما حاجة إلى أن يضطر السفير الأمريكي إلى إرسال موظف أمريكي صغير السن قليل الخبرة من سفارته، إلى الوزير أو الوكيل. ليسلم إلى الوزير أو الوكيل ورقة مرقونة من صفحتين. فيهما مقترحات أمريكا للحكومة المعنية عن كيفية التعامل مع وضعيات الإتجار بالأشخاص! وكأنما الحكومات العربية لم تسمع يوما بجامعاتها الوطنية، ولا بالجامعات في الدول العربية الأخرى، ولا بعلمائها، ولا بأصحاب الرأي والباحثين فيها.
ومما يتطلب التفسير هو أن حكومة السودان وحكومات الدول العربية لا تفعل دائما ما هو إلزام عليها أن تفعله إلا بعد أن يتم همزهاهذه الحكومات بمهماز السفير الأمريكي.
11) بشأن الدول العربية المرشحة للمرتبة الأولى
هنالك حكومات عربية قطعت شوطا في طريق الامتثال للمعايير الدنيا أعلاه. وهي يمكن لها إن أرادت ان تفعل ما ينبغي عليها أن تفعله فيتم ترتيبها في المرتبة الأولى.
مثل الإمارات التي سنت قانونا لمكافحة الإتجار بالأشخاص، ومنعت استخدام الأطفال الأجانب (من السودان وموريتانيا واليمن وباكستان وبنغلاديش) في سباق الهجن. وغير ذلك. لكنها الإمارات تظل تتلكأ في الموضوع بشأن العمالة الأجنبية وحمايتها من الاستغلال في أشكاله الإتجارية أو المقاربة للإتجار والاسترقاق. فالأمر يتعلق بالمال، بالدرجة الأولى. والإمارات لديها من المال ما هو كاف لمنع التشوهات المتمثلة في سوء معاملة العمال الأجانب إلى درجة إدراجهم فيما يتم تعريفه اليوم على أنه الإتجار والاسترقاق. إذا هي الإمارات كانت لديها الإرادة السياسية الكافية لحسم هذا الأمر بصورة نهائية.
والمملكة العربية السعودية كذلك، إن هي أرادت، يمكنها أن تتبوأ المرتبة الأولى، ملتحقة بالدول المتقدمة، خلال عامين على الأكثر، في مجال مكافحة الإتجار بالأشخاص، هي. تحديدا، لأنها السعودية هي المُرتبة حاليا على أنها من بين أسوأ دول العالم من حيث عدم امتثالها للمعايير الدنيا لمكافحة الإتجار بالأشخاص.
وأرى أن انتقال المملكة العربية السعودية منالدرجة الثالثة إلى الدرجة الأولى يتمثل في إقرار برنامج عبر-حدودي لمكافحة الإتجار بالأشخاص. وهنالك الجامعات السعودية. وهنالك الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان. وهذه الأخيرة هي هيئة حكومية ذات استقلالية.فيمكنها تصميم مثل هذا البرنامج، تنفيذا للقرار السياسي الذي أصلا تم اتخاذه بشأن مكافحة الإتجار بالأشخاص وتم إصدار قانونه.
وبشأن السعودية لابد من الإشارة إلى أن التقرير الأمريكي خلال جميع أعوامه ظل يعوزه التحليل السديد للوضع الإتجاري السعودي المتصل بوضعيات الحج وبالعمرة. مما هما الحج والعمرة أهم مدخلين للإتجار بالأشخاص في المملكة العربية السعودية. وهما يطرحان تحديات لا تواجه مثلها أية دولة أخرى في العالم. فلا يجوز في مثل هذا السياق الموضوعي المتفرد بين جميع دول العالم وضع المملكة في المرتبة الثالثة.
فالمتاجرون بالبشر المسلمون من شتى الدول يستغلون التزام السعودية بتسهيل الدخول إليها، كل عام، وفي مواقيت دورية، بسبب الحج العمرة. ومن ثم يندرجون في ممارسة أفعالهم الإتجارية. ونحن نتحدث عن عشرات آلاف المتاجرين بالبشر وعشرات آلاف الضحايا. سنويا.
وغير الحج والعمرة، دونك الحدود اليمنية السعودية. المفتوحة، بالرغم من الحائط والكاميرات، للممارسات العبر حدودية من السودان ومن دول القرن الإفريقي ومن اليمن ذاتها.
فأرى أنه لا توجد دولة في العالم شبيهة بالوضع السعودي فيما يتعلق بموضوع الحركة الإتجارية العبر حدودية. مما يتطلب نظرة مختلفة. ومما يتطلب خططا مختلفة.
أما دولة قطر، على سبيل التخصيص، فهي يمكنها، إن هي كذلك أرادت، أن تكون، في العام القادم،أو في الذي يليه، في المرتبة الأولى، وقد امتثلت للمعايير الدنيا بمؤشراتها العشرة أعلاه. وهي بذلك قد تكون أول دولة عربية تتعامل بعقلانية وواقعية مع مشكلة الإتجار بالأشخاص فيتم تصنيفها في المرتبة الأولى.هذا إذا لم تحدث لها المفاجأة السارة بوضعها في المرتبة الأولى في العام 2015. وهي المفاجأة لن تحدث ما لم تحسم قطر موضوع العمال الأجانب ونظام الكفيل. خاصة في سياق استعدادها لاستضافة ألعاب كاس العالم لكرة القدم.مما يتسق مع طموحات قطر في الرؤيوية العالمية. فهي قطر لن تكتمل الصورة التي ترغبها لنفسها ما لم هي يتم انتقالها إلى المرتبة الأولى، عن استحقاق. وهو انتقال في الترتيب الأمريكي سيراقبه العالم باهتمام. ليرى إن كانت أمريكا موضوعية أم محابية في ترتيبها لقطر. ومما بدوره سيلقي عبئا على قطر أن تضطر إلى إن تفعل أكثر مما تتطلبه عادة المرتبة الأولى. فكل تقييم لقطر في المرتبة الأولى سيكون محل تشكك. مثل التشكك في استحقاقها استضافة كأس العالم. ومن ثم عليها أن تتجاوز ما هو كاف للتقييم في المرتبة الأولى.
ومهما كانت النتيجة لهذا العام 2014، سيتعين على كل حكومة عربية أن تبادر بتعديل خطتها الوطنية الراهنة لمكافحة الإتجار إلى خطة "عبر حدودية" بصورة واضحة وجريئة.وأن تنفذها بالكامل. وفي ذلك مفتاح استحقاق انتقالها إلى المرتبة الأولى في الأعوام القادمة.
12) التحيز لإسرائيل وضد فلسطين
إن إسرائيل قد تكون مستحقة، على المستوى الموضوعي، بأن تكون في المرتبة الأولى (التقرير 2013). فانظر احتضانها للسودانيين بعضهم ضحايا الإتجار عبر سيناء من قبل أفراد مجرمين من قبيلة الرشايدة ومن غيرها. وقارن ذلك بإطلاق الرصاص على السودانيين اللاجئين في سيناء وفي القاهرة قبل أعوام.
لكن التحيز الأمريكي يبدو واضحا في تجاهل التقرير ل "الأراضي الفلسطينية"، وهي "فلسطين". وهو تجاهل التقرير الأمريكي لفلسطين يبدو قرارا سياسيا. حين نرى أن التقرير يفرد حيزا لبعض مستعمرات إنجلترا الصغيرة غير المعروفة لغير سكانها ولموظفي الخارجية البريطانية، ولجمهورية الأتراك في قبرص غير المعترف بها إلا من قبل تركيا، فلا تعترف بها أمريكا ذاتها! وحتى الصومال التي ليست دولة بالمعنى المفهوم وليس فيها ديموقراطية الأراضي الفلسطينية لم تنسها أمريكا. بينما فلسطين، أو الأراضي الفلسطينية، توجد فيها ذات الأشكال الفظيعة للإتجار بالأشخاص سبب الهم الأمريكي. ولربما ستدرج وزارة الخارجية الأمريكية الأراضي الفلسطينية في تقريرها لهذا العام 2014 أو في الذي يليه. حيث لا معنى ولا جدوى لتجاهل فلسطين بشأن تقرير سنوي عالمي عن الإتجار بالبشر.
13) موقف حكومة السودان من التقرير الأمريكي
وأما حكومة كتلك التي في السودان، فهي ستظل في تقديري تراوح مكانها في المرتبة الثالثة.
وبالرغم من أن التقرير الأمريكي بشأن السودان يمكن أن تتم قراءته، على مستوى من المستويات، على أنه متحامل ضد حكومة السودان، فإن ذلك لا يعني أن حكومة السودان تستحق تقييما أمريكيا أفضل بشأن جهود مكافحتها للإتجار بالأشخاص. فمقارنة بسيطة بين جهود الحكومة السودانية، من جهة، وجهود أية دولة من الدول العربية وغير العربية في المرتبة الثانية ومن تلك التي في المرتبة الثانية تحت المراقبة، من جهة أخرى، ستبين أن الحكومة السودانية لا تستحق غير الدرجة التي هي عليها اليوم. الأسوأ.
فدعك عن أمريكا. ولنلاحظ أن الحكومة السودانية ترفض أن تنفذ بصورة كافية ما يمليه عليها الإسلام. بشأن الأمر الإسلامي الواضح.هو الملاحقة بهمة للمتجرين المفسدين في الأرض.ومنهم موظفون حكوميون. كنت أجد توقيعاتهم في جوازات أطفال سباق الهجن عندما كنت أقدم المشورة العلمية لحكومة الإمارات. وحكومة السودان لا تفعل شيئا لحماية ضحايا الإتجار المغلوبين على أمرهم. ولا لمكافحة الإفساد في الأرض المتمثل في الأشكال الفظيعة والمتكثرة للإتجار بالأشخاص. بقايا الرق وعقابيله بعد ذلك مشروع سيواك المتعثر. وتجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة المتكثرة. والدعارة القسرية للفتيات السودانيات. والتسول المنظم باستخدام الشبكات الإجرامية للأطفال. وهنالك السودانيون المهاجرون إلى إسرائيل واستغلالهم من قبل المتاجرين الرشايدة عبر سيناء. والخادمات الأجنبيات في السودان، من إثيوبيا وإريتريا والفلبين وغيرها من الدول. والعنت الإتجاري الواقع على الخادمات في البيوت، ولدى شركات الاستقدام، ولدى إدارة الجوازات. وهنالك المسكوت عنه الإتجار بالأعضاء البشرية. مما ينتشر في وضعيات الحروب بسبب الحاجة للأعضاء البشرية، وفي وضعيات الفقر، كذلك بسبب الطلب للكلى. وغيره كثير.
علما أن حكومة السودان مسؤولة، قانونا وسياسة، عن الإتجار بالسودانيين في الدول الأخرى. وهي مسؤولة عن ملاحقة السودانيين المتاجرين بالأشخاص في دول أخرى غير السودان. مثل أولئك الذين كانوا يعملون في تجارة سباق الهجن في الإمارات وقطر. قبل قمع الطلب للأطفالفي الدولتين.
والحكومة السودانية، ربما نكاية في أمريكا، ترفض اتخاذ التدابير السهلة والمتيسرة لمكافحة الإتجار بالأشخاص. وحتى هي ترفض تقديم البيانات البسيطة للسفارة الأمريكية في الخرطوم عن بعض جهود الهيئات السودانية المقدرة في مكافحة الإتجار. دائما نكاية في أمريكا!
بينما مشكلة الإتجار بالأشخاص في السودان سيتيسر حلها بصورة ناجعة بالإسهام الأمريكي (غير المالي). ولا يهم أن أمريكا قررت عدم دعم السودان ماليا لمكافحة الإتجار بالأشخاص. فالسودان لديه الموارد المالية والبشرية لتصميم الحلول الناجعة ولتنفيذها. دون أية مساعدة مالية من أمريكا. أو من غيرها. ويمكن للسودان أن يطلب الدعم الفني من الأمم المتحدة. وأرى أهمية عدم استجداء الدول الأجنبية لتمويل برنامج مكافحة الإتجار بالبشر في السودان. خاصة وأنه تبين انبعاث تجارة فسادية من قبل المنظمات الطوعية الوطنية والأجنبية، في كافة أرجاء العالم، بحجة مكافحة الإتجار بالبشر. فأصبحت هذه "المكافحة" ذاتها نوعا من التجارة.
إن أمريكا لابد ستساعد في حل مشكلة الإتجار بالأشخاص في السودان، تحديدا بسبب مساعدتها لإثيوبيا الصديقة للدولتين، وبسبب مساعدتها لدولة جنوب السودان المتفككة. فإثيوبيا هي مصدر رئيس لضحايا الإتجار في السودان.مثلها مثل جمهورية جنوب السودان التي مشكلتها بشأن الإتجار هي مشكلة السودان. وكذا أمريكا قد تساعد حكومة السودان بشأن السودانيين ضحايا الإتجار في إسرائيل، الصديقة لأمريكا. وكلها مساعدات غير مالية مرغوبة ومستحقة.
وهنا، لابد أن نتذكر أن تجنيد الأطفال الذكور والبنات واستخدامهم في النزاعات المسلحة في السودان يظل كذلك من مسؤوليات الحكومة السودانية حتى في المناطق التي تسيطر عليها الحركات المسلحة. دون أن يعفي ذلك قادة الحركات المسلحة من مسؤولياتهم بهذا الشأن. فكل حوار بين الطرفين لابد أن يكون فيه بند ثابت له أولوية يتعلق بأهمية تسريح جميع الأطفال المجندين وتقديم الحماية والرعاية والدعم لهم، دائما في أسرهم ومجتمعاتهم المحلية وليس في مراكز تفيد من ورائها المنظمات الطوعية المحلية والأجنبية. وسأعود لهذا الموضوع لاحقا.
ويثير موضوع تجنيد الأطفال مسألة المحكمة الجنائية الدولية. وهي محكمة مختلف بشأنها في كل شيء، ما عدا بشأن تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة. ولن يجد أي ضابط أو قائد تعاطفا من أية جهة بشأن تجنيد الأطفال أوبشأن تقديم اسمه إلى المحقق في المحكمة الجنائية الدولية. وهي جريمة يسهل إثباتها. فعلى قادة الحركات المسلحة وقادة الميليشيات الحكومية أن يتذكروا. وأن يشرعوا في تسريح الأطفال دون الثامنة عشرة.
14) وفي نهاية الأمر،
يمكن لحكومة السودان ولحكومات الدول العربية أن تنفذ تدابير كافية لمكافحة الإتجار بالبشر، دون أن يكون ذلك مرتبطا بالتقرير الأمريكي. وأن تتيح هذه الحكومات المعلومات عن جهودها في المواقع الشبكية في الأنترنيت. فيمكن لأمريكا أن تقرأ التقارير مثلما يقرأها الجميع وأن تفعل بها ما تشاء. لكن مؤسسات حكومة السودان والمؤسسات ذات العلاقة في الحكومات العربية لم تصل بعد إلى هذه المفهمة. وهي المفهمة التي قد تكون الأكثر إفضاء إلى تعامل أكثر عقلانية مع الإتجار بالبشر. فيبقى التقرير الأمريكي مهما في الوقت الراهن.
[email protected]
/////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.